الغدير: الشاهد الخالد والدافق

: محمد طاهر الصفار 2025-06-15 10:44

أعتقد أن من يريد أن يغترف من الغدير العذب الصافي دون أن يتكبّد عناء البحث والتنقيب في المنابع الأخرى فإنه سيجد ما يروي ظمأه الفكري والعلمي والعقائدي عند حوض الشيخ عبد الحسين الأميني، فقد نهلَ الأميني من الغدير، وآثر أن يجعل تلك الصحراء اللاهبة خصبة بماء الولاء وأن يفعمها بأجوائه، وكان أميناً وحريصاً على لمِّ كل ما تناثر من أصدائه، فاكتنفه وتآلف معه وتماهى فيه فانطق به التاريخ والزمان والمكان والأبعاد رغم صعوبة الوسائل 

فالمخزون التراثي الهائل الذي استقاه من (الغدير) يدل على مدى انصهاره في تجسيد ذلك اليوم، وتفاعله في لمِّ حيثيات أحداثه، ورسم شخوصه حتى كأنَّ الحياة قد دبَّت فيه، فاختلجت أمامنا تلك الظهيرة الساطعة قبل أكثر من أربعة عشر قرناً

لقد ألهمه الغدير منابع الحب فحملها رسالة تعبِّر عن أن الغدير باقٍ ما بقي الليل والنهار، وهذا الشرف لا يتأتى لكل أحد، فكان يتنقّلُ بين القرون انتقال النحلة من زهرة الى أخرى، يجمع منها رحيق الغدير ليصبَّه عسلاً مصفّى في خليته (موسوعة الغدير) فدخل بتأليفه هذا عالم الخلود من أوسع أبوابه لأنه أبقى بعده شعلة وقّادة تنير للأجيال طريق الحق المتمثل بقوله (ص): من كنت مولاه فهذا علي مولاه

فالجهود الجبارة التي بذلها المؤلف تدل على علميته الواسعة، وقدرته الأدبية الفذة، ويتجلّى ذلك في المادة التاريخية الضخمة والمتنوّعة والتي بذل قصارى جهده في الحصول عليها حتى أخرج كتابه كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية

نصف قرن مع الغدير

أفنى الأميني نصف قرن من عمره جهداً وجهاداً في تأليف (الغدير)، وعن سعيه الحثيث في البحث والتدقيق العلمي ومعاناته في الحصول على المصادر نذكر بعضاً من المواقف التي اعترضت طريقه في رحلته الغديرية، ولكنه كافح وجاهد في تذليل عقباتها ورغم هذا الكفاح المُضني إلا أن القارئ ليشعر من خلال تلك المواقف أن هناك تسديداً إلهياً كان يضيء له طريق رحلته

يذكر الاميني في بعض هذه المواقف: (إنه وصل يوماً إلى طريق مسدود في أحد أبحاثه عن الغدير لأن الكتاب الذي يوصله إلى مخرج من هذا الطريق كان مفقوداً وبدونه تبقى حلقة مفقودة لابد من إيجادها لإتمام بحثه حتى قيل له: إن الكتاب بحوزة رجل من أهل السنة يسكن منطقة الأعظمية. فقصده الأميني، فدهش ذلك الرجل من هذه الزيارة غير المتوقعة لرجل مثل الأميني)، يقول الشيخ الاميني:

قلت له: (علمت أن في مكتبتك الكتاب الفلاني، وقد جئت من النجف لأطالعه وأعيده إليك)، فدعا الرجل الشيخ الأميني للصعود إلى المكتبة، ويواصل الشيخ الأميني حديثه قائلاً (دخلت المكتبة وشاهدت الغبار على جميع أجزائها والكتب مبعثرة هنا وهناك وكأنها مهجورة ولم يمسها أحد منذ زمن فتركني صاحب المنزل وحدي ونزل، وعند ذلك فتحت حزامي، ووضعت عمامتي وقبائي فيها، وغطيتها من الغبار، وابتدأت بتنظيف الكتب وإزالة الغبار عنها، وكان الجو شديد الحرارة وكنت أتصبب عرقاً، وحيث لا مروحة ولا ماء ولا طعام، وأختلط الغبار بالعرق، وغطى المزيج وجهي وأطرافي وأنا مشغول بمطالعاتي واستنساخي حتى العصر، في تلك اللحظة طُرقت الباب وجاء صاحب الدار والنعاس في عينيه، فاستحى حين رآني في تلك الحالة، ثم تعجّب إني ما زلت هنا كيف وبلا ماء ولا وضوء ولا طعام؟ وعندها جيء للشيخ بالماء وبعض الطعام فتوضّأ وصلى وراح يستنسخ ويقرأ وأخذ ما يريد

ما كان لله ينمو

وهناك حكاية أخرى تدلنا على مدى حرص الشيخ الاميني على استقصاء الحقائق من المصادر والسعي لاستحصال الكتب المعتبرة التي تدعم بحثه عن (الغدير) وخلاصة هذه الحكاية انه بكى يوماً لأنه لم يستطيع العثور على مصدر مهم من مصادر بحثه الذي نذر عمره له فطرق باب أمير المؤمنين (ع) قائلاً له: إن الكتاب كتابك والغدير لك وأسألك بحقك ومقامك عند الله ان تساعدني في العثور عليه

ويواصل الاميني حديثه: بعد أن نمت قليلاً نهضت وإذا بطارق يطرق الباب وهو جارنا الذي كان يعمل بناءً يقول: شيخنا انني اشتريت داراً جديدة أوسع من هذه ونقلت معظم الأثاث، فوجدت هذا الكتاب القديم في زاوية من زوايا البيت، فقالت لي زوجتي: أن هذا الكتاب لا ينفعك فلماذا لا تهديه إلى جارنا الشيخ الأميني؟ وعندما قدّم الكتاب إلى الشيخ وإذا به نفس الكتاب الخطي الذي كان الشيخ يبحث عنه منذ شهور

وهناك قصة ثالثة جرت مع الشيخ الاميني في معاناته في العثور على المصادر التي يبحث عنها وهو أنه احتاج إلى كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري وكان هذا الكتاب قبل أن يطبع وينشر خطيّاً ونادراً فقصد كعادته الحرم المطهّر لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتوسّل بالله في الحصول على ذلك الكتاب فرأى فيما يرى النائم الإمام (عليه السلام) وهو يقول: إن جواب سؤالك عند ولدي الحسين

فأستيقظ أثر ذلك وكان وقت الفجر وارتدى ملابسه قاصداً حرم سيد الشهداء في كربلاء وبعد إدائه الزيارة جلس في أحد الأواوين فأقبل إليه خطيب كربلاء الشيخ محسن أبو الحَب، وبعد السلام والتحية دعاه أبو الحَب إلى داره القريبة للاستراحة، وبعد استراحة قصيرة قال شيخنا للشيخ أبو الحب: أرني مكتبتك فلما رافقه إلى مكتبته جعل يتجوّل فيها ويتصفّح الكتب وفيما هو كذلك وإذا به يشاهد ضالته المنشودة كتاب ربيع الأبرار للزمخشري 

يقول الشيخ الأميني: ولما مسكته بيدي تأكدت إنه هو لا غيره خنقتني العبرة وأجهشت بالبكاء فجاءني صاحبي مستغرباً ومستفسراً فحدثته عن قصة الكتاب والرؤية وكيف أن الإمام (عليه السلام) حوّلني على ولده الحسين (عليه السلام) الذي قادني إليك وإلى مكتبتك والكتاب. وفيما يسمع الشيخ محسن أبو الحب تلك الحكاية ترقرقت عيناه بالدموع هو الآخر وقال لي: شيخنا الجليل إن هذا الكتاب الخطي يعتبر من النوادر، وإن قاسم محمد الرجب - وهو صاحب أكبر مكتبة في بغداد آنذاك - وهي مكتبة المثنى دفع لي مبلغ ألف دينار لشرائه وطبعه ولكني رفضت ذلك - وكان ذلك المبلغ في حينها يعتبر مبلغاً ضخماً يكفي لشراء دار - بعدها أخرج الشيخ أبو الحب قلمه من جيبه وكتب عليه إهداءه إلى العلامة الأميني قائلاً: هذا جواب حوّالة سيديَّ الإمامين العظيمين علي والحسين عليهما السلام

ونكتفي بهذه المواقف التي مر بها الأميني في رحلته الطويلة التي جاب بها البلاد وتحمل المشاق وبذل الأموال في سبيل تحقيق حلمه بتأليف موسوعته الخالدة (الغدير) والتي أوضح فيها الصبح لذي عينين على حقيقة الغدير وسطوعه في التاريخ سطوع الشمس ومن تعامى فهو أعمى بصيرة (وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا)

فقد أفاض في موسوعته دراسة وبحثاً وتحليلاً وبذل في تأليفها جهوداً جبارة تقرب إلى الإعجاز خاصة في ذلك الوقت الذي يتم فيه نسخ الكتب باليد والحصول على المصادر مهمة عسيرة، ولكنه ألمَّ بهذا الموضوع إلماماً تاماً ودعمه من الأدلة والبراهين والشواهد ما يذهل القارئ لكثرتها والتوسّع فيها والتوغّل في تفاصيلها وبما لم يسبقه أحد في ذلك حتى أقترن اسم الأميني بـ (الغدير) فلا يكاد يذكر اسم الغدير إلّا ويذكر الأميني ولا يذكر الأميني إلّا وتذكر هذه الدراسة العلمية الشاملة لحادثة وحديث الغدير، هذا الإنتاج العلمي الهائل والعمل القيم الضخم الذي يعد بحق من الظواهر العلمية الفذة في عالم التأليف

فـ (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) وثيقة تاريخية كبرى مستندة على النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة والمصادر التاريخية والأدلة العقلية والنقلية لإثبات حديث الغدير إضافة إلى الشهادات الشعرية التي انطلق الأميني منها على أساس علمي ومسلمات شرعية يقينية في النص الإلهي لعلي بن أبي طالب، وقد جمع في وثيقته هذه إضافة إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة روايات مسندة لـ (110) صحابي، و(360) تابعياً، وآلاف من الرواة والمحدثين والحفاظ والمؤرخين والمصنفين وأرباب السير والفتوح والبلدان، كما وذكر أسماء وسيرة أكثر من مائة شاعر من أعلام الشعر العربي ضمّنوا حديث الغدير في أشعارهم طوال أربعة عشر قرناً في عيون الشعر العربي

جهود العلماء في نشر الغدير

وإضافة إلى الأميني فلا يُنكر فضل علمائنا الأعلام الآخرين الذين نهلوا من الغدير وألفوا فيه وتناولوه بالدراسة والبحث وفي مقدمتهم السيد الأجل إمام الشيعة السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) الذي أوضح في مؤلفاته القيمة (النص والاجتهاد، والمراجعات، والفصول المهمة في تأليف الأمة) حقيقة الغدير وبيّن فيها كل الملابسات التي حاول البعض خلقها بخصوص الغاية الحقيقية منه، ودحض الأقاويل التي حاولت تحريف معنى الغدير حتى استطاع أن يفحم شيخ الأزهر سليم البشري الذي لم يجد وهو أمام هذا الطود الشامخ من أطواد الشيعة سوى الإذعان والاعتراف بقوة حجته وسطوع برهانه، وإضافة إلى هذين العلمين البارزين فقد استوفى بقية العلماء الأعلام حديث الغدير وبينوا وبسطوا في التأليف عنه وأوضحوا الحق لذي عينين ومنهم الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء صاحب (أصل الشيعة وأصولها) والسيد حسن الصدر وغيرهم الكثير من العلماء الأعلام.

فالغدير باق ما بقي القرآن الكريم وما بقي قوله تعالى يتلى آناء الليل وأطراف النهار: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً) 



وسوم : الغدير

العودة إلى الأعلى