أم اللغات ولغة القرآن الكريم، بين الماضي والحاضر والمستقبل(4)
إن عظمة اللغة العربية، كما لا يخفى على القارئ العزيز، لا يمكن الإحاطة بها في دراسةٍ ما، بل لعلنا مهما بحثنا وغصنا في بحرها اللجّي لن نتمكن من إدراك كنه تلك العظمة، فنحن لا نتحدث عن لغةٍ من لغات البشر القدامى أو المحدثين، عفا عليها الدهر أو تجلببت بجلباب السنين، ثم استعارت من الحاضر بعض أثوابه، بل نتحدث عن لغةٍ حيةٍ نابضةٍ بالحياة، لم يفسد جمالها القدم، بل زادها عراقةً وصلابة، ولم تفسد أصالتها الحداثة، بل زادتها رقةً ولطافةً وليونة... عن لغةٍ جسّدت كلام الباري وأحالته أصواتًا تستمع لها الآذان وتطرب الأرواح وتهتدي القلوب، فاكتسبت من قداسة الذكر الإلهي قداسة، ومن شرفه شرفًا.
وبعدما استعرضنا في الأجزاء السابقة من المقالة، أسباب نزول القرآن الكريم بهذه اللغة الاستثنائية، ثم ربطنا بين بلاغتها وإعجاز القرآن الكريم، ثم استعرضنا بعض خصائصها المميزة التي تساعدنا على فهم منبع قوتها وبلاغتها، وذلك بمحاولة معرفتها في نفسها، فإننا في هذه المقالة نننتقل إلى محاولة معرفة هذه اللغة العظيمة في غيرها، وذلك عن طريق المقارنة بينها وبين بعض اللغات الحاضرة المنتشرة بين البشر في عصرنا، علنا نفهم سرّ هذا الخلود الاستثنائي الذي تتمتع به.
معرفة اللغة العربية في غيرها:
من أجل رؤيةٍ أوضح ومقارنةٍ فعّالة بين اللغة العربية وبعض اللغات التي تنطق بها شعوب العالم الحاضر، ما بين اللغات ذات الجذور القديمة واللغات المتفرعة عنها، ولأن الهدف من الدراسة ليس تخصّصيًّا بقدر ما هو بحثٌ عن مكامن القوة في كل لغةٍ منها، ومقارنتها بما هي عليه في اللغة العربية، كانت لنا الرؤية الآتية:
1- اللغة اللاتينية: هي من أقدم اللغات الهندو-أوروبية التي وصلت إلينا بنصوص مكتوبة، كانت اللغة الرسمية للعلم والدين والفكر في أوروبا لأكثر من 1500 عام. كثير من المفردات في اللغات الأوروبية الحديثة أصلها لاتيني، وهي لغة منطقية صارمة ذات نظام نحوي إعرابي دقيق جدًا (تشبه العربية في ذلك). لكنها أقل اشتقاقية، وأكثر اعتمادًا على التصريف والنهايات الثابتة.
تُعدّ اللاتينية لغة علمية قوية، ولذلك استخدمت طويلًا في العلوم واللاهوت والفلسفة في أوروبا.
لكنها لغة ميتة الآن، أي لم تعد تتطور أو تُستخدم في الحياة اليومية.
اللاتينية ذات منطق وتركيب الصارم، تتميز بالفصاحة في الخطابة القديمة (مثل شيشرون)، وهي قوية نحويًا، لكن صورها البيانية قليلة.
إذًا فاللغة اللاتينية دقيقة نحويًا، لكنها جافة نسبيًا من حيث البلاغة، وطاقتها التعبيرية محدودة مقارنة بالعربية.
2- اللغة الإنكليزية: هي لغة تحليلية بسيطة نسبيًا، تعتمد على ترتيب الكلمات لا على الإعراب.
قوتها في المرونة والتطور واستيعاب المصطلحات الحديثة، لا في البلاغة الأصلية.
تفتقر إلى التمييز بين المعاني الدقيقة التي تُعبِّر عنها بالعربية بجذر واحد أو وزن خاص.
الإنكليزية تتميز بالوضوح والبساطة، لكن التعبير المجازي فيها محدود نسبيًا.
إذًا فالإنجليزية لغة فعّالة للتواصل العلمي والعملي، لكنها ليست لغة بلاغية عميقة في أصلها.
3- اللغة الفرنسية: تُعرف بجمال نغمها وسلاسة نطقها وأناقة تعبيرها، وهي غنية بالأدوات البلاغية الأدبية، لكنها تميل إلى الجمالية أكثر من الدقة المنطقية، نظمها النحوي صارم، لكن التعبير المجازي فيها محدود مقارنة بالعربية.
الفرنسية تتميز برقة النغمة والأسلوب العاطفي والأناقة اللفظية، وهي جميلة وموسيقية.
إذًا فهي لغة الأدب والرقة، أكثر مما هي لغة الدقة والتحليل العميق للمعاني.
ولو عرّجنا باختصارٍ على بعض اللغات القديمة الأخرى التي ما تزال حيةً في عصرنا الحاضر، نجد الآتي:
4- اللغة الفارسية: هي من اللغات الهندو أوروبية، وهي لغة جميلة موسيقيًا، شاعرية ورومانسية، لكنها من الناحية الصرفية تعدّ تحليلية مشتقة من العربية والتركية، والاشتقاق فيها محدود، فهي تستعير جذورًا عربية لتوسيع المعنى، أما تعبيرها المجازي والبلاغي فهو جميل أدبيًا، لكنه يعتمد على التصوير لا الصياغة، وهي أضعف من العربية في الدقة والمعجم.
5- اللغة العبرية: هي من اللغات السامية العريقة، كما العربية، وهي قريبة من العربية في البنية، لكنها متوسطة الثراء، واشتقاقها دقيق إلى حد ما ولكنه أقل من العربية، أما تعبيرها المجازي والبلاغي فهو يميل إلى الجدية لا إلى الجمال البياني، مما يجعلها أقل مرونة وجمالًا، وأكثر جفافًا لغويًا من اللغة العربية.
6- اللغة الصينية: هي لغة سينو-تبتيّة، رمزية نغمية لا إعراب فيها ولا تصريفات ولا اشتقاق، معجمها فقير نسبيا وبلاغتها بسيطة ومباشرة، وهي لغة عملية وفعّالة في التواصل، لكنها فقيرة بلاغيًا، لأن المعاني فيها نغمية لا تركيبية.
بين اللغات الأخرى والعربية:
في مقارنةٍ إجمالية بين هذه الخصائص والخصائص المقابلة لها في اللغة العربية، نجد أن العربية:
· هي من أقوى اللغات من حيث البنية والتعبير، فنظامها اشتقاقي جذري يمنحها قدرة كبيرة على توليد المعاني من جذر واحد، مثلًا من الجذر (ع-ل-م) يمكن اشتقاق عشرات الكلمات: عِلْم، عَلِيم، مُعَلِّم، مَعْلُوم، تَعَلُّم، استعلام... والإعراب يجعلها دقيقة جدًا في بيان موقع الكلمة، مما يسمح بحرية في الترتيب دون غموض في المعنى، فإن موقع الكلمة داخل الجملة في اللغة العربية ليس هو ما يحدّد المعنى، كما هو الحال في معظم اللغات الأخرى، بل الحركات، فالفاعل الذي يأتي قبل الفعل في جملةٍ ما، يمكن أن يصبح مبتدأ في جملةٍ أخرى، ويبقى المعنى هو نفسه، مع إفادة التوكيد على الفعل في الجملة الأولى وعلى الفاعل في الجملة الثانية، كقولنا "رسمَ الفنّانُ وردةً" و"الفنّانُ رسمَ وردةً"، وهذا أمرٌ لا يتوفر في اللغات الأخرى، حيث يتحدد المعنى من خلال موقع الكلمة في الجملة...
· الثروة المعجمية والبيانية العربية هائلة، أكثر من أي لغة أخرى، حيث تمتلك العربية أكثر من 12 مليون مفردة (وفق إحصاءات معجمية حديثة)، في حين أن اللغة الإنكليزية تتضمن مليون كلمة (بما فيها الكلمات العلمية والمستعارة)، أما الفرنسية فتتضمن مئتي ألف كلمة كحد أقصى، واللاتينية 60 ألف كلمة، والفارسية 120 ألف كلمة (كثير منها عربي الأصل)، والعبرية مئة ألف كلمة (مع الكلمات الحديثة)، والصينية 370 ألف كلمة ورمز...
خلاصة القول:
إن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة التي تجمع بين المنطق والدقة والبيان والتصوير والجمال الصوتي والاشتقاقي، فهي لغة عقل ووجدان في آنٍ واحد، بينما اللغات الأخرى تميل إما إلى المنطق الجاف (كالعبرية واللاتينية)، أو إلى الجمال اللفظي (كالفارسية والفرنسية)، أو إلى البساطة النفعية (كالصينية والإنكليزية).
فاللغة العربية إذًا تتفوق على جميع اللغات قديمها وحديثها في القدرة على التعبير عن المعاني الدقيقة بمرونة بلاغية عالية، فهي تجمع بين المنطق اللغوي والجمال البياني والثراء الاشتقاقي الذي لا يوجد في غيرها، فهي الأكثر بلاغة وثراءً ودقة في التعبير عن المعاني، وهي تمتاز بجذر اشتقاقي يعطيها قدرة خارقة على تصوير المعنى وتوليده، كما أنها قادرة على الجمع بين الإيجاز والدقة والتصوير الجمالي.
ولهذا كانت أداة الوحي، ولغة البيان والبلاغة، ومقياس الفصاحة في تراث الإنسانية.
بقي أن نحاول رصد التفاعل والتأثير بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وهذا ما سوف نعالجه في الجزء القادم من هذه المقالة بإذن الله.



