بين الغدير وكربلاء... مواريث الأنبياء

حينما رفع نبي الرحمة والهدى يد وصيه معلنًا للعالم أجمع سرّ الإمامة والولاية بلا فصل؛ "من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه"... وحينما وثّق تلك الإمامة بشروطها الحتمية؛ "أللهم وال من والاه وعاد من عاداه"... كان النبي الأمّيّ يضع قواعد الحكم الإسلاميّ الحكيم، ويؤكّد على أن لا حقّ في الولاية إلا لمن اختاره الله، نخبة النخبة، صفوة الصفوة، باب مدينة علم النبيّ، من يدور الحق معه كيفما دار...


لقد كان القول صريحًا، والإعلان أتى على رؤوس الأشهاد فصيحًا، في موقعٍ استثنائيّ من المكان والزمان، ملتقى القوافل العائدة من الحج، وموعد انصرافهم من حِجةٍ كان إمامها رسول الله، حتى إذا وقف فيهم خطيبًا في حرّ الهجير، وعلموا أنه بدعوته لهم للاجتماع كان يشير إلى أمرٍ خطير، كانت تلك الخطبة الغرّاء العصماء التي لم يشهد لها الكون أيّ نظير، إنها خطبة الغدير...

نظر الناظرون واستمع المستمعون، ووعى الواعون وأغفل الغافلون....

ثم قاموا عن بكرة أبيهم يبايعون، وشهد الشاهدون بما كانوا في قلوبهم يخالفون؛ "بخٍ بخٍ لك يا عليّ! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة."

ومع أن النبيّ أشار إلى إمامة عليّ في أكثر من موضعٍ سابق، وإلى أعلميته وأفضليته وأسبقيته على الجميع، ومع أنه منذ ليلة المبيت حتى يوم الغدير لم يفتأ يذكّر ويؤكّد ويشير، إلا أنه بلّغ في ذلك اليوم تتمة رسالته، وكان قد أشفق من أن يبلّغها على تلك الصورة فيكون للطامعين مآرب أخرى، ولكن الأمر الإلهي الحاسم كان بالمرصاد، وقد شاء الله وأطاع الرسول فبلّغ... وكان ما كان بعدما بلّغ!

لقد أطاع الجميع في البداية، ثم راحت النفوس المريضة تتململ والألسنة تتقلقل، ثم ارتفعت وتيرة التطاول حتى بلغت ذروتها حينما أراد النبي أن يقطع عليهم طريق التراجع بنصٍّ يكتبه ويمهره بخاتم النبوة، فعلموا أنه إن كتب فلا مناص من الإقرار بما كتب، فخالفوا الأمر وهم يدمدمون بتلك الكلمة التي تدكدكت لها السماوات والأرض وتزلزلت لها حصون العقيدة المنيعة: "إن النبيّ ليهجر!"

حاش لله أن يهجر من قال فيه رب العزّة "ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى"، ولو كان لدى القائل إيمانٌ بما قاله الرحمن، لما نطق لسانه بذلك البهتان... ولكنه افتُضح أمام من يعلم، واستتر برداء التقوى أمام من لا يعلم، فاغتُصب الحقّ وأُعلن على الملأ ذاك الأمر الأشقّ: لقد تناهب القوم رحل محمد في المدينة، ونهبوا تراث النبوة، تمامًا كما تناهب القوم رحل الحسين في كربلاء... لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء، إلا كالفرق بين البذرة الخبيثة والشجرة الخبيثة، كلاهما من أصلٍ واحد، وكلاهما نبتٌ وحشيٌّ طفيليٌّ يأكل الأخضر الريّان، ويزرع العصيان والطغيان في كلّ مكان، وقد صدق من قال، لولا السقيفة لم تكن كربلاء، ولولا كسر ضلع الزهراء لم يكن ليُقطع رأس الحسين ويُجال به في الأرجاء...

بلى، لولا نكران الغدير لم تكن كربلاء...

لقد وضعت تلك الخطبة الإلهية النقاط المحمدية على الحروف العلوية، وأعلنت للملأ الأعلى والأدنى حقيقة الولاية الملكوتية، فسلّمت كفّ النبوة مواريث الأنبياء لكفّ الولاية، وقضي الأمر الذي فيه يختلفون...

ولكن إبليس أبى، فإمامة عليّ بعد محمدٍ تقطع عليه كلّ سبيل، وهو قد قطع عهدًا على نفسه مذ أغوى آدم أن يقعد كل مقعدٍ ويقف كل موقفٍ حتى يغوي البشر أجمعين!

ولكن هيهات، إنه لا سلطان له على من تمسّك بحبل الله، وسلك الصراط المستقيم، واستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم!

لقد وجد إبليس خبزه هناك، على موائد الطامعين، واستطاع أن يغوي الغاوين، ويتوغّل في نفوس المنافقين، حتى كان ما كان منهم بحقّ سيدة نساء العالمين، وسيد الوصيين، وذريتهما الطاهرة من الأئمة الميامين، صالح بعد صالح وصادق بعد صادق...

على أن ما جرى في كربلاء كان علامةً فارقةً في سجلّ الغواية والهداية، وإرثًا من مواريث الأنبياء لا حدّ له ولا نهاية...

لقد انزلق الغاوون في أخطر هاويةٍ من منزلقات التاريخ، وتلطّخت أيدي المجرمين وألسنة الدجّالين وحتى أقلامهم فيما بعد بدماء آل محمد، وبلغ بهم تجاوز الحدّ في الإساءة إلى أهل الحقّ مبلغًا قال فيه الإمام السجّاد (ع) كلمته: "لو أن النبي تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا..." (بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج45، ص149)

ومن غدير خمٍّ انطلقت ينابيع الولاية، لتصبّ في فرات كربلاء...

لقد ولد الدين على يد النبيّ غضًّا طريًّا فانتصر بعليّ، وولد مرةً أخرى باستشهاد سبط النبيّ، الذي قال فيه جدّه كلمته الخالدة: "حسينٌ مني وأنا من حسين"...

لعل أحدًا لم يفهم معنى تلك الكلمة حقًّا، إلا بعدما أحيى الحسين دين جدّه بدمائه، فكان مماته سرّ حياته:

"إن كان دين محمدٍ لم يستقم

إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"

لقد ارتوى الظامئون من غدير الولاية كما ارتووا من فرات الحسين، وكان لهم في كلا الماءين حياة... وقد قال عزّ من قائل: "وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي"، ولكن كان لفرات الحسين خصوصيةٌ واستثناء، فالحسين روى المؤمنين من ظمئه، وشهد الشاهدون من الأولين والآخرين أن لا يوم كيومه ولا دم كدمائه، ولئن أسّس الغدير للولاية فكان للمؤمنين عيد الله الأكبر، فقد أسّست كربلاء لاستمرار تلك الولاية حتى يستلمها صاحبها الأكبر، فيعود الدين غضًّا طريًّا على يديه، كما عاد يوم عاشوراء بدماء جده، ذلك أن النبت إذا أينع حان أوان قطافه، وطوبى لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى...


المرفقات

العودة إلى الأعلى