أصحاب الإمام الحسين (ع) ... رجال الحقيقة
رجال شخصوا في تخوم التاريخ وأرسوا دعائم روعته، وأوقدوا ملامح عظمته، وأحيوا من إشراقات سيرتهم روحه، فكانوا جوهره الذي لا يخبو، وشمسه التي لا تأفل، ومنبعه الذي لا ينضب، مهما تعاقبت عليه الحقب، بل يزداد تألقاً وإشراقاً يوماً بعد يوم، فهم فيه كالمطر كلما ازداد هطوله وتغلغل في أعماق التربة تتبرعم منه قامات السنابل.
إن المسار الذي رسمه هؤلاء الرجال الأفذاذ في مدار التاريخ ببطولاتهم وبسالتهم وصلابتهم وتمسكهم بمبدئهم وعقيدتهم كان مساراً استثنائياً خاصاً لا يتكرر في دورة التاريخ
إنه ليس كالمسار الذي يكتبه أغلب المؤرخين عن أمجاد مزيّفة وبطولات مزوّقة أضفوا عليها شعارات باطلة
إنه مسار ليس كمسار السلوك الجمعي الغبي الخاضع لإرادة السلطة والذي تخصصوا فيه هم ــ أي المؤرخين ــ وكانوا جزءاً منه في نقل الحوادث التاريخية التي يقوم بها تابعو السلطة من الوصوليين والمتنفعين والغزاة والسماسرة والمرتزقة والوضاعين والمجرمين وغيرهم والذين تقود إرادتهم غير الواعية إرادة السلطة فينساقون لها بخضوع تام ويستجيبون لأمرها، يسالمون من تسالم، ويحاربون من تحارب، ويحبون من تحب، ويبغضون من تبغض، فهم عبيد لها وتزداد عبوديتهم كلما ازدادت السلطة من الظلم والجور والفساد والطغيان
إن المسار الذي سار عليه أولئك الرجال العظماء يختلف تماماً مع هذا المسار بل يجابهه ويعارضه ويقاطعه، إنه المسار الذي يختط نفسه بنفسه، إنه مسار الحقيقة الذي رسموه بإدراك كامل، ووعي تام، وصلابة لا تنثني، فوقفوا إلى جانب الحق وحاربوا الباطل ودافعوا عن الحقيقة مُلبّين نداء العقيدة تحت لواء البصيرة وهم على أعلى درجات اليقين.
لقد أخذ هؤلاء الرجال النادرون على عاتقهم مسؤولية مواصلة مسيرة الإسلام والسير على النهج المحمدي الأصيل المتمثل في سبطه الإمام الحسين (ع)
اكتملت فيهم عظمة النفوس، فالصدق والشجاعة والنبل والفروسية والوفاء سمات اشتركت في أصحاب الإمام الحسين والكلمات التي انطلقت من أفواه أولئك الأبطال وأكدت على عظيم ولائهم وشدة تمسكهم بقضيتهم كانت تعبر عن أسمى وأعلى درجات الإباء والتضحية وهم يقدمون أنفسهم في سبيل الله بين يدي الإمام الحسين ويجسدون أروع القيم السامية والمواقف العظيمة المشرفة في سبيل المبدأ والإخلاص للعقيدة. فكانوا أروع ما يكون عليه الشهيد من إرادة وتصميم وبصيرة مستجيبين لنداء الإمام (ع) تحت لواء الحق فسجل لهم التاريخ كلمات خالدة من فم الإمام الحسين (ع) حين وصفهم بقوله
"إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي"
لقد جهرت تلك الحناجر بما أشرق في داخلها من حب ووفاء فكوّنت بمجموعها نشيد كربلاء الخالد وإيقونة الحب السرمدي وسفر الوفاء المشرق، حيث تجسّدت الملامح العقائدية الخالصة لتلك الكلمات بصدق المواقف التي وقفها أولئك الأبطال الذين لم ولن يلد الزمان بمثلهم وهم يذودون عن الدين والعقيدة، فتجد صوت كل واحد منهم قد عكس عما بداخله من حب وولاء للحسين حتى كأن تلك القلوب قد خلت من كل حب إلّا حب الحسين
ومن تتبع مواقفهم في يوم كربلاء فإنه لا يجد لإخلاصهم ووفائهم وثباتهم نظيراً في التاريخ البشري، ويدل على ذلك قول الإمام الحسين فيهم
"والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلا الأشوس الأقعس يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل بمحالب أمه"
لقد أرخصوا أرواحهم ولم يكترثوا للدنيا كلها بما فيها ... أموالهم، وأولادهم بل كانوا مستبشرين ومتفانين لما سيلاقوه من الكرامة الأبدية، لقد محص سيد الشهداء أصحابه الأوفياء وبلاهم واصطفاهم فكانوا هم الذين اختارهم الله لهذه التضحية ليكونوا قرابينَ متوهّجة بالدم لوجهه تعالى، فتبلورت في هذه النخبة النادرة كل قيم الثورة ومبادئها.
وأي موقف أعظم وأروع من تلك المواقف التي استهان أبطالها بالحياة وأرخصوا أرواحهم في سبيل العقيدة والمبدأ ؟
أي موقف أعظم حين يقدم الواحد منهم ابنه أو أخاه أو تقدم الأم ابنها للموت في سبيل الله ؟
أجل هم الذين اعتلوا أعلى درجات الإيمان واليقين وفازوا بالشهادة ومرافقة الأبرار.
وقد قرن أمير المؤمنين (ع) منزلتهم بمنزلة شهداء بدر حينما مر على كربلاء في مسيره إلى صفين فقال
"يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم شهداء إلا شهداء بدر"
وتمنى الصحابي الجليل سلمان الفارسي (رضي الله عنه) أن يكون منهم كما جاء في قوله: "والذي نفس سلمان بيده لو أني أدركت أيامه لضربت بين يديه بالسيف أو أقطع بين يديه عضواً عضواً فأسقط بين يديه صريعاً فإن القتيل معه يعطى أجر سبعين شهيداً كلهم كشهداء بدر وأحد وحنين وخيبر"
وجاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "مرّ أمير المؤمنين بكربلاء فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع وقال: هذا مناخ ركابهم، هذا ملقى رحالهم، ههنا تراق دماؤهم، طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة، مناخ ركاب، ومنازل شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم"
وهذه الأقوال العظيمة في علو منزلتهم استدعاها عظيم وقفتهم وشدة بأسهم وصلابتهم في الدفاع عن الإسلام وأهله بالقول والعمل، فقد جسّدوا أروع صور الملاحم والفروسية والنبل والوفاء وهي المؤشر الواضح على مدى ثباتهم وتماسكهم وصلابتهم في أشد الظروف وأقساها
حقيقة إن ما قدمه هؤلاء الأبطال يفوق الوصف، إنهم رجال وفتية آمنوا بربهم وبرسوله ووصيه وإمامهم سيد الشهداء (ع)، وحقيقة قضيته العادلة فزادهم الله هدى فوطّنوا أنفسهم على الموت وكانوا مصداقاً لقول سيدهم الإمام الحسين
"من كان باذلاً فينا مهجته موطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا"
فعانقوا هذه الحقيقة وساروا عليها وآثروا الموت من أجلها على الحياة مع الظالمين وتيقّنوا قول إمامهم الحسين (ع)
"ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً"
وما أروع هذه الأبيات التي قيلت في حقهم والتي تنسب إلى الإمام الحسين (ع)
قومٌ إذا نُـــــــــــــودوا لدفعِ ملمةٍ والقومُ بين مدعــــــسٍ ومكردسِ
لبسوا القلوبَ على الدروعِ وأقبلوا يتهـافتون عـــــلى ذهابِ الأنفسِ
عافوا الحيـــــــــاة فيا لهم من فتيةٍ سكنوا الجنانَ وأُلبسوا من سندسِ
لقد صمم هؤلاء الأفذاذ على القتال مع الحسين (ع)، والموت دونه رغم قلتهم وكثرة عدوهم فأدهشوا العقول وحيّروا الألباب بشجاعتهم وبطولاتهم حتى شهد لهم عدوهم بذلك عندما قتلوا الصناديد وجندلوا الأبطال فصاح عمرو بن الحجاج الزبيدي وكان على ميمنة الجيش الأموي يوم الطف في أصحابه
"أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرز إليهم أحدٌ منكم إلا قتلوه على قلتهم لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم"
فأيده قائد الجيش الأموي عمر بن سعد بن أبي وقاص بقوله: "أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منكم ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم"
لقد عرف هذان الرجلان إن الدوافع النبيلة التي يقاتل من أجلها هؤلاء الأبطال لم تكن من نوع الدوافع الدنيئة التي يقاتلان هما وأشباههما من عبيد بني أمية من أجلها
كان أصحاب الحسين (ع) من طراز فريد قلّما يجود الدهر بأمثالهم، رجال بلغوا أعلى درجات الكمال والوعي والبصيرة موفورو الإيمان على أتم الاستعداد لبلوغ أعلى ما يشهده المؤمن الكامل اليقين
وكان قتالهم مع الحسين (ع) نابع عن عقيدة خالصة لا تشوبها شائبة، رجال امتحن الله قلوبهم بالإيمان فلم يكن دافعهم لنصرة إمامهم لعصبية قبلية أو لأغراض نفعية بل إنهم دخلوا الحرب وهم يعلمون أنهم سينالون الشهادة وتيقنت أنفسهم بالموت مع الحسين (ع) فقد أوقفهم (ع) على مصيرهم معه بقوله
"خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأكرشةً سغباً لا محيص عن يوم خُط بالقلم"
ورغم أنه (ع) خيّرهم بين البقاء معه أو تركه إن شاؤوا، بل أنه (ع) طلب منهم النجاة بأنفسهم في أكثر من مقام ومنزل نزل به في طريقه إلى كربلاء في خطاب جمعي وفردي توحّد مضمونه وتنوع أسلوبه في أصحابه (ع). فمن ذلك قوله (ع) لأصحابه بعد أن ورد خبر مقتل مسلم بن عقيل (ع) وهاني بن عروة وأخيه بالرضاعة عبد الله بن يقطر رضوان الله عليهم:
"قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام"
ومنه قوله (ع) فيهم قبل مقتله بليلة: "ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حل، ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً خيراً وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم فإن القوم إنما يطلبوني ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري"
وقوله (ع): "لقد بررتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحداً فإذا جنّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم"
وقال (ع) لبني عقيل ليلة عاشوراء: "حسبكم من القتل بمسلم أذهبوا قد أذنت لكم"
وقال (ع) لنافع بن هلال الجملي في تلك الليلة: "ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك"
وقال (ع) لجون بن حوي مولى أبي ذر الغفاري حينما وقف يستأذنه في القتال
"يا جون أنت في إذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا"
وقال (ع) لمحمد بن بشير الحضرمي وكان ابنه قد أسر بثغر الري: "أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ولدك"
إلى غيرها من أقواله (ع) فما كان جوابهم ؟
لقد نطق العشق الإلهي على أفواههم بالشهادة في سبيل الله وأفصحت أجوبتهم عن مدى إيمانهم العميق بقيم الإسلام ومنهج الرسول (ص) وقضية إمامهم (ع) التي بثت روح الإسلام في جسد الأمة حينما أعلن عن أهدافها السامية: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"
فمثلت أجوبتهم أسمى مراتب الإيمان، والإرادة على نيل أعلى درجات الشهادة وبقيت كلماتهم خالدة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور على جبين الدهر تتناقلها الأجيال من جيل الى جيل ولنستمع الى بعض هذه الأجوبة الخالدة التي تمثل نموذجاً عالياً من التضحية والفداء وعنواناً لكل ثائر مصلح:
أخوته وبنو عمومته عقيل وجعفر وبنوا أخيه وأبناؤه وأهل بيته وفي مقدمتهم قمر بني هاشم أبي الفضل العباس (ع)
"ولِمً نفعل ذلك ؟ ألنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا نقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك"
مسلم بن عوسجة: "أنحن نخلي عنك وبماذا نعتذر الى الله في أداء حقك، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك"
سعيد بن عبد الله الحنفي: "والله لا نخليك حتى يعلم الله إنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو علمت إني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حياً ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"
زهير بن القين: "والله وددت إني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك".
نافع بن هلال الجملي: "ثكلتني أمي إن سيفي بألف وفرسي مثله فوا الله الذي منَّ بك عليّ لا أفارقك حتى يكلا عن فري وجري"
برير بن خضير: "يا ابن رسول الله، لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك تقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة"
جون بن حوي مولى أبي ذر الغفاري: "أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟ لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم أهل البيت"
الحر بن يزيد الرياحي التميمي: "إني أخير نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئاً ولو أُحرقت"
هذه هي الأنفس التي رفضت أن تكون أداة طيعة بيد سلطان الجور، وآثرت الموت بكرامة على حياة الذل والهوان، وعشقت الشهادة بين يدي سيد الشهداء (ع) لتبقى دماؤها مناراً ينير للأجيال طريق الحرية ولتبقى شمس الإسلام مشرقة على أرجاء المعمورة