في هندسةِ الخلود: كربلاء ليست مجرّد فاجعة

2025-07-01 12:23

بقلم/ حسين النعمة

ليست كلُّ دمعةٍ تُخلِّد، ولا كلُّ طفلٍ يُذبح يصيرُ نبراسًا. فالعالمُ مذ خُلقَ وهو مكتظٌّ بالمآسي، تتناسلُ فيه الأرامل، وتُرمى الطفولة على قارعة الحروب، وتُذبح القلوب على مذابح الطمع والسلطة. لكن، لِمَ بقيت كربلاء، واندثرت عشراتُ الوقائع التي تشابهت في الدم والحطام والنحيب؟

السؤالُ لا يُطرح من شكّ، بل من بصيرةٍ تتقصّى جوهر الحكاية.

فأنا ابن كربلاء، لا أرويها كمن يسمعها من فم الزمن، بل كمن يحملها بين أضلعه، ويسمع صهيلَ الحسين ما زال يدوّي في صميمه. أنا لا أبكي الحسين فقط، بل أسمعه.

كربلاءُ ليست مجرّد مأساة، بل هي إرادةٌ إلهيّة صاغت الخلود بمقاييسٍ ليست من طين هذا العالم. إنّ الذي مهّد لواقعة كربلاء، وأدار تفاصيلها، لم يكن جيشًا ولا حاكمًا، بل هندسةٌ غيبيّةٌ إلهيّة، جعلت من دم الحسين سفينةً لا تغرق، ومحرابًا لا يُهدم، وصوتًا لا يُخمد.

نُحر طفلٌ رضيعٌ بين يدي أبيه، نعم، لكن لم يكن كأي رضيع، كان عبد الله الرضيع هو ختمُ البراءة على جبين الموقف، هو آخر سهم في كنانة السماء ليُقال: حتى هذا لم يسلم من الظلم، فلا تعتذروا بعده.

وتُرمّل النساءُ، أجل، لكن لم يكن رمْلَ الرباب انكسارًا، بل شموخًا بلا كفيل.. وكانت زينب هي الهندسة الكلامية لواقعة الخلود، خطيبته التي طعنت يزيد بالحروف كما طُعن الحسين بالسيوف.

لو كانت المسألة مأسويةً فقط، لخلّدنا ضحايا مجازر الأرض كلّهم، ولنُصبت مآتم للغوطة وسبراييتشا وغزّة كلّ عام كما نُنصب للحسين، لكنّ الدم وحده لا يصنع خريطةً، ما لم يُسكب في كفّ الله.

الحسين مشروعُ بعثٍ، لا بكاء فقط. وإنّ البكاء – على علوّه – لم يكن سوى إحدى بوابات البصيرة. البكاء مفتاح، أما الخلود فهندسة. وشتّان بين من يبكي لانكسار قلبه، ومن يبكي لأن روحه شهِدت أن هذا الدم حفظ دينه، ونقّى رسالته.

خلود كربلاء ليس في الدم، بل في النور الذي تدفّق منه. خلودها في المبدأ الذي جعل من الموت حياة، ومن السبي شرفًا، ومن العطش نهجًا. إنّها الثورة الوحيدة التي خُطط لها أن تُهزم ظاهرًا، لكي تنتصر أبديًا. لأنّ الله، في حكمته، شاء أن يُظهر كيف يُمتحن الإيمان عندما يُؤخذ الحسينُ من بيننا ولا يبقى سوى الخيار بين الركوع ليزيد، أو الوقوف مع الرأس المقطوع.

كلُّ لحظة في كربلاء كانت مرآةً للسماء، وكلُّ قطرةِ دمٍ كانت توقيعًا إلهيًا في كتاب الخلود. فافهمها كما يفهم البصير: أن الحسين لم يُقتل، بل صعد.

وفي كل عاشوراء، لا نُحيي ذكرى ميت، بل نحضر درسًا إلهيًّا حيًا في صلب الزمن.

وفي كل كربلاء، نحن لا نبكي، نحن نشهد.


المرفقات

العودة إلى الأعلى