محمود البستاني ( 1937-2004) أسلمة المعرفة الأدبية
لما كان الإسلام قد وضع رؤية مكتملة للكون أجمل بعض أركانها وفصّل الأخرى في كتاب الله العزيز وفي سيرة نبيه المصطفى، لذا فقد أصبح من هذا الباب السعي إلى إمكانية التأصيل الإسلامي للعلوم والمعارف أو توجيه هذه العلوم بمقاصد وغايات إسلامية هادفة ورامية لتكون البديل الفكري والمعرفي والثقافي ثم الحضاري الذي يمكن للإسلام أن يقدمه لعالم اليوم الذي تغلب عليه المعارف والمناهج الوضعية التي وصل البعض منها إلى طريق مسدود باعتراف أصحابه وأهله من غير المسلمين.
وكان لا بد لهذا العمل الحضاري الضخم من دعاة مؤهلين بالتحصيل المعرفي والفكري لمجابهة الدعوات الأخرى التي ترى في هذا المشروع محاولة للالتفاف على المعارف الإنسانية وتطويقها بأطواق الشمولية والكليّات الدينية الجاهزة!
ويأتي محمود البستاني المولود بمدينة النجف عام 1937م أنموذجا للدارسين الأكاديميين الذين حاولوا إيجاد المبررات العلمية والأخلاقية لمحاولة تأسيس معرفة لا يمكن أن تقصي البعد الغائي الديني والأخلاقي، وقد توزّع نتاج البستاني المعرفي بين مجالات علمية وأكاديمية عديدة كعلم الاجتماع وعلم النفس.
غير أن دراساته الأدبية كانت هي النشاط الأبرز في مجموع نتاجه الذي خلفه لنا في رحلة علمية طويلة ابتدأها من مدينته الأم (النجف الأشرف) واختتمها بمدينته التي هاجر إليها مكرها بسبب القيود والمضايقات التي فرضتها عليه الأجهزة الرقابية والأمنية البعثية إبان الحكم الصدامي المقبور.
أكمل البستاني دراسته الأكاديمية الأولى في كلية الفقه بالنجف الأشرف فيما حصل على شهادة الماجستير من كلية دار العلوم بالقاهرة، وبعد تعيينه في كلية الفقه بالنجف الأشرف أخذت الفكرة التي راودته منذ شبابه الباكر تنطلق لتكون بمثابة المشروع أو الحلم الكبير في محاولة أسلمة المعرفة الأدبية التي تدخل ضمن اختصاصه العلمي الدقيق.
ومن يتتبع آثار البستاني المتنوعة يلمس ذلك الهم المعرفي الذي لازمه طويلا، ومؤلفات مثل: ( تاريخ الأدب في ضوء المنهج الإسلامي) و (القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي) و (الإسلام والأدب) و (دراسات فنية في التعبير القرآني) و (التفسير البنائي في القرآن الكريم) و ( دراسات في علوم القرآن) وسوى ذلك من بحوث ودراسات مماثلة؛ هي تآليف تؤكد للقارئ الدافع الذي حرّك البستاني ووجّه رغبته صوبها دون أدنى شك!
وفي مجال الدرس الأدبي الذي برع فيه البستاني محاولا وضع معارفه تحت التجريب ضمن مشروعه أو حلمه الأكاديمي فإن الرجل يضع تصوره للأدب على وفق مبدأين أساسيين، هما: (الأدب والرؤية) و( الأدب والتوصيل) فلا أدب حقيقي بدون رؤية أصيلة وهادفة تحيط بوعي الأديب وتؤرقه لممارسة الإبداع الذي لا يكتمل شرطه المعرفي والإنساني من دون الركن الثاني وهو (التوصيل) الذي تكمن من خلاله قدرة الأديب على إيصال قناعاته ورؤاه التي اشترط البستاني أصالتها واستقامتها ومشروعيتها في محاولة النهوض بالأمة والأخذ بيدها وفقا لتعاليم الإسلام الهادفة والمحصّنة ضد التبعية والانجرار مع التيارات الخاوية والفارغة من المعنى والقادمة من تربة تختلف جذريا عن تربتنا العربية الإسلامية.
ولا يفوت البستاني التأكيد في نظريته على شكل المحتوى الأدبي، فكما هو شديد الحرص على المضمون الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة في العمل الأدبي شعرا أو نثرا؛ هو كذلك شديد الحرص على طرافة وجدة الشكل الأدبي الذي يتخذه المضمون أو المحتوى الفكري، ليكون العمل الأدبي في المحصلة نسيجا واحدا وسمتا موحدا ومعبّرا أصدق تعبير من الممكن أن يجد صداه عند المتلقي العطش لمثل هذا الإبداع الإنساني الحقيقي ذي الغايات والمقاصد النابعة من روح دين عملي يدعو إلى الالتزام والتشارك في صنع الحياة ويبشّر بمآل حتمي يجازى عنده من عمل مثقال ذرة من خير أو من شرّ.
وفي المجال النقدي فقد خاض البستاني تجارب معرفية مهمة وسيظل كتابه (في النظرية النقدية) من أهم الكتب الأدبية التي شهدتها الساحة العراقية الثقافية في سبعينيات القرن المنصرم كما يرى الأديب المعروف جبرا إبراهيم جبرا.
كما دعا البستاني إلى الاستنارة بمبادئ أهل البيت وتعاليمهم في هذا الميدان، وإلى محاولة الوقوف على القيمة الإنسانية والفنية التي تنطوي عليها مدوناتهم الكلامية والقولية التي تركوها لنا ، ملمحا - في الوقت نفسه- إلى إمكانية ربط الأدب بالدين من خلال مضي المتخصصين ومتابعتهم لمشروعه الذي جعله نصب عينيه، منتهيا إلى أن أهم عراقيل الأدب وإشكالياته تكمن في عدم استقاء مبادئه وأصوله من الشريعة السمحاء التي تعد أبلغ النصوص الأدبية وأكثرها عبرة إنسانية!