ثقافة القطيع وأهمية الوعي الذاتي تجاهها
يصعب تشبيه البشر بثقافة القطيع، لكن لا وصف يعبر بوضوح أكثر منه تجاه تسمية مجموعة سلوكيات متبعة لدى فئات متعددة من المجتمع تسلك طريق التبعية العمياء في أغلب الأحوال.
وللتوضيح.. من المصطلحات شائعة الاستعمال في وصف العلاقة الفكرية بين الفرد والجماعة مصطلح ثقافة القطيع، حيث يطلق هذا المصطلح على السلوك الذي يتبعه الأفراد عند انضمامهم إلى جماعة ما، وتتحول تصرفاتهم من تصرفات مبنية على التخطيط والعقلانية والبحث والتقصي إلى تصرفات متأثرة بسلوك هذه الجماعة، وقد استمد هذا المصطلح تسميته هذه من سلوك الحيوانات في قطعانها، أو أسرابها، أو جماعاتها التي تلتحق بها، فكل فرد في المجموعة يتبع باقي الأفراد دون التفكير ومعرفة إذا كان ما يفعلونه صحيحا أو خاطئا، وهو أمر غير جيد بالنسبة للبشر الذين يمتلكون العقل القادر على التمييز بين الخير والشر، والصواب والخطأ.
ولأن المجتمع هو المنبر الأساسي لكل فرد بغضّ النظر عن انتمائه، عمره وعمله، بالتالي لابد من اجتذاب البعض إلى سلوك الآخرين، ومحاولة تقليدهم بالفطرة الانسانية، بينما يسعى آخرين إلى مخالفة القوانين، السلوكيات، والعادات كمحاولة منهم إلى لفت الأنظار وتوجيه أضواء الاعجاب او الاستغراب بحسب ظنهم، بالمقابل يوجد في ذات المجتمع عدة توجهات فكرية وسلوكيات قمعية تمارس ضد الفرد ليكون ضبطه ضمن الجماعة مُحكماً، أيضاً إن اغلب المجتمعات تعرضت لهول الحروب والاحتلالات المتعاقبة، التي كانت تضخ منهجية الانتهاكات الانسانية التي تمارس بهدف التحكم بالسكان الاصليين من خلال صهرهم في بوتقة الانسياق وعدم التمرد والمقاومة، كل ذلك جعل لنمو وتفاقم ثقافة القطيع تربة خصبة.
في هذا المنحى لابد من التنويه إلى أهمية التفريق بين تطوير الفكر وتوارث الأفكار، المفارقة التي تسعى إلى تحفيز الفرد إلى الأفضل وتقديم خبراته الفكرية الفردية بشكل ينعكس ايجابا على جماعته بغض النظر عن نوع الانتماء، فالتطور العالمي والتكنولوجي يحصل عليه كل فرد حسب طريقة تفكيره والحيز العلمي الذي تتصف به أفكاره وسلوكه، بالتالي كل فرد ينهل من هذا التطور ويصبّه في مجموعته فترتقي به ويرتقي هو بما نهل من غيره، على عكس ما يمكن أن تتوارثه الجماعة من سلبيات وتسيطر به على أفرادها فتدحر تطورهم ومكانتهم الفكرية مما يؤدي الى تخلف الجميع عن التطور الذي لا ينتظرهم ويسابقهم.
هنا يجب التمييز بين مقدسات الجماعة وطريقة حياتها، فمثلاً الدين والمعتقدات والعادات والتقاليد التي تهذّب سلوك الأفراد هي بمثابة خط احمر لا يجوز الخروج عنه لأنه هوية الكرامة والرجوع إلى الايمان الحقيقي، في هذه الحال يجب على الجماعة احكام قبضتها على الأفراد فالكبير يعلّم الصغير والقوي يدعم الضعيف للوصول إلى بر الايمان، والأخلاق الفاضلة والحياة الكريمة.
وبالعودة الى مصطلح ثقافة القطيع فقد تبنّى العالم البريطاني هاملتون هذه النظرية، وهو عالم بيئة وبيولوجيا وعالم اجتماع صاغ النظرية الشهيرة، والتي نصت على: "تقليل خطر الافتراس على الفرد في حال وضع فرد آخر بينه وبين المفترس، عندما يتصرف العديد من أفراد الجماعة أكانت حيوانية أو إنسانية بهذه الطريقة وتتولد غريزة، فإن التجمع والتحول لقطيع هو النتيجة الحتمية، ولأن الخطر أقل عند المركز وأكبر عند الحافة، فإن الأفراد ذوي المكانة الاجتماعية العالية سيميلون إلى احتلال المركز، ويدفع بالأفراد التابعين إلى الحافة"، حيث لخص هاملتون بعض الأدلة لحدوث اختيار جماعي يقوم به الأفراد سويةً بالبقاء بالقرب من بعضهم البعض من أجل الابتعاد عن الخطر مهما كان نوعه.
ولثقافة القطيع العديد من المخاطر، خاصة إن تعلق الأمر بمسائل انسانية حساسة كالحياة والموت، فمثلاً نجد أن شخصاً ما قد يكون مقتنعاً بفكرة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأنه قد عقد النيّة على تقديم المساعدة لبعض الأشخاص الذين يراهم يستحقون هذه المساعدة من وجهة نظره، ولكنه عندما ينضم إلى جماعة ما تتحول مواقفه الأولى إلى مواقف تتشابه إلى حد بعيد مع مواقف الجماعة، فيصبح كائنا لا إنسانيا، يغيِّب العقل، والمنطق، والضمير لأجل إرضاء قطيعه، بالتالي الحصول على بعض المنافع، من الناحية الأخرى، يمكن أن يكون لثقافة القطيع تأثير إيجابي عندما يتعلق الأمر بتشكيل التضامن والتعاون في المجتمع، فتشجع على تكوين روابط اجتماعية قوية وتحفيز العمل الجماعي لتحقيق الأهداف المشتركة.
وعن الخروج من دائرة ثقافة القطيع قالت المرشدة الاجتماعية لودي درغام، في حديث خاص لوكالة كربلاء الدولية: "منذ بداية نشأة الفرد ينمو ضمن أسرة تكون لها عاداتها وتقاليدها وإيمانها، هنا يبدأ الطفل بتقمص الأفكار والسلوكيات التي تصدر من أسرته، بالتالي يجب على الوالدين أن يعطيا طفلهما قوة شخصية وتوعية تجاه أمور متعددة بداية من مدرسته مرورا بمرحلته الجامعية وصولاً الى اندماجه بسوق العمل، هذه الشخصية التي يمكن أن يتمتع بها الفرد هي بمثابة ثقة مزودجة من ناحية ثقة الأسرة فيه ومن ناحية ثقته بنفسه أنه يستطيع أن يندمج مع مجتمعه بأمان يفرق بين السلبي والايجابي، لتتكون لديه قرارات خاصة، فمثلا توعية الوالدين للأبناء بعدم تناول المخدرات وتعريفهم بمخاطرها ونبذها، سيدفع الأبناء إلى رفض تناولها إن صادفوا مجموعة من الأصدقاء الذين يتناولوها ويحاولون دمجه معهم بالإدمان عليها، وهناك العديد من الأمثلة مثل التعلّم والتمتع بأخلاق حميدة. وحين يصل الفرد الى قناعة بما يعتقده صحيحاً يقوم بنفض غبار الجماعة السلبية بغض النظر عن نوعها سواء في المدرسة أو الجامعة أو المجتمع ككل".
وأوضحت لودي" أن ثقافة القطيع تختلف تماماً عن مفهوم الانتماء بقولها:" ان ثقافة القطيع والانسياق الاعمى إلى السلبيات الفكرية والعملية تختلف عن الشعور بالانتماء والعمل به، فالاُولى لها مخاطرها على الفرد والأسرة والمجتمع لأنها تحجّم تطورهم ونموهم العملي والتربوي والعلمي، طبعاً أوضح بالمنحى العلمي بمثال أن هناك فئة من المجتمع يعتقدون أن الأنثى ليس مطلوب منها التحصيل العلمي ويسارعون إلى تزويجها مبكراً وحجبها عن تطور المجتمع والعلم مما ينعكس على تربية أطفالها وتعليمهم لاحقاً، أما عن الانتماء فهو شعور الفرد بالمثابرة لصنع الأفضل أولاً لإثبات ذاته تجاه بيئته المحيطة به، وثانياً من أجل التعبير عن مواظبته على حمل الصفات الحميدة التي أخذها من أسرته وعمل بها".
أيضاً نوّهت لودي، أنه يمكن تحفيز الفرد على الخروج عن ثقافة القطيع قائلة: "يمكن توعية الناس وحثّهم على توسيع دائرة معارفهم على جميع الأصعدة، وهنا يكون التفكير بالتغير مرتبطاً بالوعي الذي يتمتع به الفرد، فعندما يكون الفرد منصهراً ضمن ثقافة القطيع والتي يكون مركزها الأفراد الاقوى شخصياً أو ماديا أو علمياً، يقوم هؤلاء الذين في المركز بالتحكم في باقي الأفراد، بالتالي يجب على هؤلاء الأفراد أن يثبتوا أنهم أيضاً يتمتعون بالقوة الفكرية والتربوية وتحسين عملهم لتطوير مستواهم المادي والمعرفي، وبالنتيجة يثبتون أنفسهم تجاه المركز الذي يسعى إلى سوقهم بما يتناسب مع أهواءه ومصالحه".
من جانبه عبّر المختص في علوم الفلسفة الإنسانية محمد أسعد، في حديث خاص لوكالة كربلاء، عن أهم ما يمكن أن يتسلح به الفرد كي يتمتع بإنسانيته المستقلة فقال: "في مسيرة حياة كل فرد هناك مرحلة مميزة يمرّ بها، وهي مرحلة تكوين آراءه وأفكاره وإيمانه وشخصيته، هنا يمر الفرد في مرحلة انتقالية من التبعية اللاواعية إلى الاستقلال الواعي، كل حسب ما اتخذه لنفسه من قيم ومبادئ، وتكون هذه المنهجية في التكوين النفسي متفاوتة في القوة ورفض الانصياع بحسب شرائح المجتمع والطاقة الإنسانية التي يتمتع بها كل فرد، لكن في نهاية الأمر جميعها تدفع الشخص إلى الانسلاخ عن ثقافة القطيع، حتى أن مجموع القطيع يرفضه لأنه إما ذكي أو مبدع أو قوي التفكير والشخصية، وهذا لا يناسب مركز القطيع الذي يسعى إلى التسلط والتجبّر في أغلب الاحيان، واني أوجه نصيحتي إلى كل فرد واعي أن يكون صاحب قراره وسيد سلوكه لأن ذاته الإنسانية تتعظم بما يمكن أن يعطيه هو لنفسه وإلى باقي الجماعات الإنسانية من خير ومحبة وعمل ومنهجية اجتماعية إيجابية تسمو إلى مستوى المسؤولية تجاه النفس والمجتمع، على عكس ما يمكن أن تفعله ثقافة القطيع في تعليب الأفكار وتغليف الإنسانية بزخرف البهرجة المبهر وفي داخلها شريط أسود ينعي الإنسان وهو حي".