الإعلام الدولي من أداة للسياسة الخارجية إلى فاعل في تشكيل الوعي العالمي
يشهد حقل الإعلام تحولات جذرية انعكست على مفهومي الإعلام الدولي والإعلام البيئي، إذ تعاظمت قوة وسائل الاتصال الحديثة إلى حدٍّ جعلها فاعلًا مؤثرًا في تشكيل الرأي العام العالمي، ومؤثرا مباشرا في السياسات الدولية والمحلية على حدٍّ سواء. ولم يعد الإعلام مجرد ناقل للأحداث، بل غدا أداةً من أدوات التأثير وصناعة التصورات وتوجيه المواقف.
هذا التقرير الصحفي يستعرض أبرز التعريفات والمقاربات النظرية للإعلام الدولي، ويبني جسرًا بينها وبين تطور هيكلية الإعلام بعد نهاية الحرب الباردة، قبل أن يتناول دور الإعلام في السياسة الخارجية وصنع القرار، وصولًا إلى الإعلام البيئي بوصفه أحد أهم مسارات الإعلام المعاصر.
تعريفات متعددة للإعلام الدولي
يتباين تعريف الإعلام الدولي بين من يوسّع المصطلح ليشمل "الاتصال الدولي" وبين من يعدّهما مترادفين. ومن التعريفات الشائعة أن الإعلام الدولي هو "انتقال الإشارات الصوتية والمرئية عبر الحدود الجغرافية"، أو "تزويد جماهير دول أخرى بمعلومات صحيحة بهدف التأثير عليها وإقناعها بمواقف دولة ما"، كما يُعرّف أيضًا بأنه "وسيلة من وسائل السياسة الخارجية لتحقيق المصلحة الوطنية".
ويذهب تعريفٌ موسع آخر إلى أن الإعلام الدولي "نشاط اتصالي موجّه عابر للحدود له أهداف مدروسة"، ويشدّد على عناصر أساسية، أبرزها: التوجيه، وعبور الحدود، وتحديد الأهداف، واستخدام وسائط متعددة تخضع لحسابات دقيقة تتعلق بالزمان والمكان والجمهور المستهدف. بحسب المرجع الإلكتروني للمعلوماتية.
الإعلام الدولي كأداة سياسية
لم يكن استخدام الإعلام الدولي محايدًا عبر التاريخ، بل جرى توظيفه في كثير من الأحيان لأغراض سياسية أسهمت في تفجير أزمات وصراعات كبرى. ففي كتابه الإعلام والسياسة الخارجية، يعرض فيليب جايلين نماذج متعددة من "الحرب الإعلامية" التي شهدتها الولايات المتحدة، مشيرا إلى ما سُمي بأسطورة "تجار الحروب" من أصحاب الصحف الذين أسهموا في تأجيج مشاعر الرأي العام الأميركي ودفع البلاد نحو الحرب الأميركية – الإسبانية.ويكشف جايلين أن السجلات التاريخية لتلك الحرب تُظهر أن الرئيس الأميركي آنذاك تيودور روزفلت نفسه حرّض أصحاب الصحف لخدمة أغراضه السياسية، مستغلا حادثة غرق البارجة الأميركية "مين" في ميناء هافانا، في وقت لم تكن الصحافة قادرة على التحقق من ملابسات الحادث. كما يشير إلى حادثة خليج تونكين الشهيرة، التي استغلها الرئيس الأسبق ليندون جونسون لانتزاع تفويض من الكونغرس سمح بتوريط الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
الإعلام والحروب المعاصرة
ويتكرر المشهد في الحروب الحديثة؛ ففي حرب الخليج الثانية، استخدمت السياسة الخارجية الأميركية الإعلام الدولي بفعالية لحشد الرأي العام العالمي ضد العراق، من خلال الدعاية الصريحة والدعاية الرمادية، إضافة إلى حملات تلويث إعلامي قادتها مؤسسات دعائية كبرى، ما أسهم في تهيئة البيئة النفسية والسياسية لقرار الحرب.
كما لعب الإعلام الدولي دورا محوريا في تشكيل الرأي العام الأميركي والعالمي بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، إذ ساعد في رسم صورة "العدو" وساحة المعركة، وروّج لانهيار الأبراج باعتباره "تراجيديا إنسانية عالمية" نُسبت إلى جماعات إرهابية مرتبطة بالدين الإسلامي، ثم جرى استغلال هذا الخطاب إعلاميًا لشن حملات واسعة ضد الإسلام والمسلمين، ما ترك آثارا عميقة في وعي المجتمعات ونظرتها إلى الصراعات الدولية.
مؤسسات الإعلام الدولي وشبكات النفوذ
في هذا السياق، يُشار إلى وكالة الإعلام الأميركية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية كمركز إعلامي للتواصل مع الداخل والخارج، والتي كشفت تقارير صحفية في ثمانينيات القرن الماضي - نقلا عن برلماني ألماني - أنها تحولت إلى "وكالة لصناعة قصص تلويث الدول والرؤساء"، وترتبط بشبكة واسعة من المؤسسات الإعلامية العالمية. ورغم ما قيل عن استقلالها، فإن ارتباطها بالسلطة السياسية وتمويل الكونغرس لها أثار تساؤلات حول دورها الحقيقي وحدود مهنيتها.
هيكلية الإعلام في ظل التحولات الدولية
بعد انتهاء الحرب الباردة، دخل العالم مرحلة تحولات بنيوية غيّرت توازنات القوة ومفاهيم السيادة، وبرزت "ثورة المعلومات" بوصفها الثورة الثالثة بعد الزراعية والصناعية. هذه الثورة قلّصت الفواصل بين الإعلام المحلي والدولي، وجعلت أي حدث داخلي مرشحًا للتحول إلى قضية عالمية بفعل شبكات الأخبار والفضائيات والإنترنت.
ويحلل مركز الدراسات الإقليمية في جامعة الموصل كيف انعكست هذه التحولات على تغطية الحروب والنزاعات، مثل البلقان والعراق عام 2003، حيث هيمنت رواية إعلامية واحدة وأُقصيت روايات بديلة، ما جعل الإعلام جزءًا من معادلة الصراع لا مجرد ناقل له.
الإعلام وصنع القرار
يبقى السؤال الجوهري: هل الإعلام شريك في صنع القرار أم تابع له؟ تشير دراسات عديدة إلى وجود فجوة بين الإعلام والأنظمة الحاكمة في بعض الدول، ما يُضعف دوره الرقابي ويحدّ من تأثيره. ويرى د. يسري أحمد العزباوي وعائشة الرميثي، في دراسة منشورة على موقع تريندز للبحوث والاستشارات، أن ردم هذه الفجوة يتطلب بناء مؤسسات إعلامية مستقلة ومهنية، قادرة على توظيف الخبر والتحليل للمشاركة في صياغة السياسات أو تصويب مساراتها.
الإعلام البيئي: النشأة والدور
في هذا الإطار، برز الإعلام البيئي منذ سبعينيات القرن الماضي، لا سيما بعد مؤتمر ستوكهولم 1972، ثم مؤتمر ريو 1992، بوصفه مسارا متخصصًا يهدف إلى حماية البيئة ونشر الوعي البيئي. ويُعرّف الإعلام البيئي بأنه خطة إعلامية علمية تستخدم مختلف الوسائط للتأثير في السلوك الفردي والجماعي، ونشر المعلومات الصحيحة، وبناء ثقافة بيئية مستدامة.
التحديات والخاتمة
رغم أهميته، يواجه الإعلام البيئي عقبات عدة، أبرزها ضعف الاهتمام المؤسسي، وغياب التخصص، ومحدودية التمويل، إضافة إلى التحديات المهنية في تغطية القضايا البيئية المعقدة.
وفي المحصلة، يظل الإعلام الدولي -بكل تجلياته السياسية والبيئية - إحدى أكثر أدوات العصر تأثيرا في تشكيل الوعي وصناعة القرار. ومواجهة التحديات الراهنة تتطلب إعلاما مهنيا مستقلا، قادرا على الموازنة بين نقل الحقيقة والتأثير الإيجابي، ليكون رافدا لبناء سياسات عادلة ومستدامة على المستويين الدولي والإنساني.



