فصلُ الخطابِ لنهضةِ العِترةِ والأصحاب.. رؤيةٌ لتجديدِ لغةِ الإبلاغِ والتبليغ
كثيرةٌ هي الدلائلُ العظيمةُ على أنَّ نهضةَ الإمامِ الحُسَينِ عليهِ السَّلام، لم تُحجَرْ معطياتُها أو تنتهِ في سياقِها الزمانيِّ والمكانيِّ. بل تجاوزتْهما بمعاييرِها النبيلةِ والسامية، مُبقِيةً قِيَمَها العظيمةَ تتجدَّدُ على مرِّ الأزمنة، تُحاكي الأبعادَ الإنسانيَّةَ لاستشراف أوجُهِ الحقِّ والعدلِ والإصلاحِ لِيُهتدى بها، وتُشخَّصُ فيها أوجُهُ الباطلِ لِيُتناهى عنها. حتى غدتْ نهضتُهُ مِسطرةَ قياسٍ يتوسَّمُ أحرارُ العالمِ عناوينَ مخرجاتِها في كلِّ زمانٍ ومكان، ولِيصبحَ رمزًا إنسانيًّا خالدًا تُرفَعُ راياتُ مُثُلهِ العُليا في أيِّ مسارٍ ومنعطفٍ تاريخيٍّ يُرادُ فيه وضْعُ أسُسٍ لتصنيف أوجُهِ العدالةِ والحقِّ والإيثارِ والتضحية.
وهو ما يُعظِّمُ مسؤوليَّةَ التفكيرِ الجادِّ لتأسيس "خطابٍ" منهجيٍّ يَحتوي هذه القِيَمَ العُليا ويُحدِّدُ آلياتِ توازناتهِ بين ثراءِ الأفكارِ ووسائلِ تسويقها. الأمرُ الذي يُوجِبُ التساؤل: كيف نتقدَّمُ بقِيَم خطابِ عاشوراءَ إلى العالم؟ وكيف نجعلُ من قيامِ الإمامِ الحُسَينِ عليه السَّلام منهجًا واسعًا للسَّلام، وطريقًا للإصلاح، ووسيلةً للتآخي والمودَّة والرحمة بين المسلمينَ خاصَّةً، وشعوبِ العالمِ عامَّة؟
وكذلك كيف نُبيِّنُ لغةَ وآلياتِ التَّخاطبِ بشأنها مع المخالفين والمشكِّكين والمبغضين والمضلَّلين، بكلمةٍ سواء؟ وكيف نمتلكُ وسائلَ الإقناعِ السليمةَ لنفرِضَ الإنصاتَ لخطابِنا الحُسينيِّ الصائبِ والفاعلِ، كما قدَّمهُ الإمامُ الحُسَينُ عليه السَّلام عمليًّا في مشهدِ واقعةِ الطف، حين ضحَّى بنفسه وعياله وأصحابه لتثبيت أسُسِها، ثم استكملتْ مولاتُنا زينبُ عليها السَّلامُ مسيرتَهُ، وتعقَّبتْ أثرَهُ برسالتِها الفكريَّة والإعلاميَّة.
فما هي منهجيَّةُ هذا الخطاب؟ وما أدواتُه ولغتُه؟ وهل يمكنُنا تجديدُ صياغاتِه ليُواكِبَ منعطفاتِ العصر، ونعيدَ كيفيَّاتِ تسويقِه لنُرسِّخَ القناعةَ بأهميَّةِ التمسُّك به والسيرِ على نهجِه؟
نعتقدُ جازمين أنَّ ذلك مُمكنٌ إلى حدٍّ كبير، ونرى نجاحَهُ محتوماً، إذا ما وَسَمْنا خطابَنا الحُسينيَّ بجُملةٍ من المعاييرِ القِيَميَّة. ومن أولويَّاتِها القصوى أن نَحمِلَ خطابَنا كلماتٍ ومعانيَ المحبَّةِ والمودَّةِ والتَّسامح، وننثُرَها على نُفوسِ وقلوبِ ووجوهِ المستمعين على اختلاف مشاربِهم. عندَ ذاك يكونُ خطابُنا إنسانيَّ النَّهج، وجدانِيَّ الأثر، رساليَّ الهدف، مُيسَّراً للاستجابةِ والتلقِّي من قِبَلِ المنتمي وغيرِ المنتمي. إذ إنَّ دلالاتِ نهضةِ الإمامِ الحُسَينِ عليه السَّلام تتجاوزُ حدودَ العصبيَّاتِ المذهبيَّة والطائفية، وتغدو عنواناً بارزاً يُبدِّدُ حجمَ التعتيمِ والتشويشِ والتضليلِ المتعمَّد عن حقيقةِ مشروعِه الإصلاحيِّ في سياقِ بعدِه الإنسانيِّ الأوسع.
ومن المهمِّ جدًّا أن نتجاوزَ في خطابِنا مع الآخر – قريبًا كان منَّا أو بعيدًا – لغةَ الثأرِ (العامِّ والخاصِّ). فالحُسَينُ عليه السَّلامُ في ثورتِه الإصلاحيَّة لم يَكُ كارِهاً لأحد، بل كان ناصحًا ومرشدًا وهاديًا وطالبًا للحقِّ والعدلِ في أُمَّةِ جدِّه. وهذا يستدعي أن نُسَوِّقَ خطابَنا بلغةٍ واعيةٍ تُليِّنُ المشاعرَ وتُرقِّقُ القلوبَ، فنُقرِّبَ المخالفين من مواكبِ الحُسَينِ عليه السَّلام، ويُحبُّوا الجلوسَ فيها والإصغاءَ لرسالتِها بلا إكراه، لأنَّها مواكبُ عامَّةٍ للنَّاسِ، وليستْ خاصَّةً بفئةٍ دون أُخرى.
وإذا ما دعونا في خطابِنا إلى مَلْء أيدي المحتاجين بالخَير بعفويَّةٍ صادقةٍ، وقلنا: تفضَّلوا، هذه خيراتُ الله نهدي ثوابَها باسم آل بيتِ المصطفى، عندَها نُحقِّقُ المشاركةَ الوجدانيَّةَ بلا عصبيَّةٍ مذهبيَّة، وبلا تشكيكٍ في العقائد.
وإذا تجاوزْنا عن جارٍ أو صديقٍ – أفرادًا أو جماعات – اختلفوا معنا، ودعَوْناهم بابتسامةٍ لحضورِ مجلسٍ حُسينيٍّ، يستمعون فيه بتدبُّرٍ ويقينٍ إلى حقيقةِ القضيَّةِ الحُسينيَّة، ويتعرَّفون على أحداثِها ومرويَّاتِها بعقلنةٍ ومنطق، قبل أن تَصِلَهم عبرَ منصَّاتِ التضليلِ والتشويشِ التي تُسبِغُ الغلوَّ على الخطاب، وتُسوِّقُ حالاتِ الجهلِ في الممارساتِ الخاطئة، فتَجعلُها صورةً ثابتةً عن شعائرِنا.
وإذا تركْنا التزمُّتَ بطرحِ الغُلوِّ والضَّيِّقِ من المرويَّاتِ المخلَّقة، واقتربْنا من فلسفةِ مخيَّمِ الإمامِ الحُسَينِ عليه السَّلام، وفهمْنا قِيَمَهُ العُليا، وأدركْنا ظُلامتَهُ (عِبرةً)، وبكَيْنا عليه (عَبرةً) بفهمٍ واعٍ، لا رياءً ولا مواربةً ولا تَظاهُرًا شكليًّا…
وسنكونُ في خطابِنا حُسينيِّين إذا اصطحبْنا يتيمًا، وأجلسناه في مكانٍ يُفرِحُ قلبَه في صدارةِ الموكبِ والمجلس، وأفقَدْناه حرارةَ حرمانِ الأبوةِ في عاشوراء، كما كان عليُّ بنُ أبي طالبٍ عليه السَّلام يتفقَّدُ الفقراءَ والأيتام، ويتصدَّقُ بخاتمِه وهو ساجد.
ونكونُ حُسينيِّين في خطابِنا إذا قلَّلْنا منسوب التعصُّبِ والتطرُّفِ والاستقطابِ في النقاشِ والجدالِ والحوار، واقتربْنا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبين المخالف والمشكِّك. عندها يُدرِكُ أنَّنا لا نفرضُ بل نُبيِّن.
ونكونُ في خطابِنا مع معسكرِ الإسلامِ الحقِّ، إذا رفعْنا شعار: (الحُسَين للإنسانية) طريقًا للتحرُّر من الأنانيَّة والزهو على الآخرين والتكبُّر عليهم. فالحُسَينُ ما طلب أحدًا ليُقتلَ معه، وقال لأصحابِه في أروعِ عناوينِ التجلِّي: «القومُ يطلبونني، وهذا الليلُ قد غشيكم فاتَّخذوه جَمَلاً»، تعبيرًا منه عن عدم إرهاقِ دماءِ الأبرياء.
نحنُ مع الحُسَينِ عليه السَّلام في خطابِنا إذا لبسْنا السَّوادَ بنيَّةِ الحزنِ والأسى والتقشُّف، والابتعادِ عن التبرُّج والبهرجة، لا للتمايزِ والرِّياءِ على الآخرين.
ويكتسبُ خطابُنا مشروعيته وقوته حين نُعيدُ النظر في آليات تعريف وتوصيف الفاعلين، عبر التمييز بين المخالفين الحقيقيين والمنتمين الوهميين، والابتعاد عن إسقاط الصفات الحادّة أو النمطية على الآخرين.
إنَّ الخطاب الحسيني الصادق يعبّر عن الانتماء الحقيقي إلى مشروع الإمام الحسين عليه السلام حين يتجسّد في صفاء الضمير، ونقاء الفكر، ونزاهة الموارد، بما يسهِّل عبور الإنسان على الصراط المستقيم خاليًا من الأعباء التي تثقله يوم الحساب.
ونحنُ مع أحفادِ الحُسَينِ إذا علَّمْنا أولادَنا في خطابِنا أنَّ العلمَ نورٌ، وحبَّ الوطنِ من الإيمان، والفسادَ والإفسادَ مُنكَران. فالحُسَينُ ريحانةُ الجَدِّ، ومسطرةُ طريقٍ للحقِّ والعدلِ والإصلاحِ والحرِّيَّةِ من الطغاة.
ونحنُ مع الحُسَينِ في خطابِنا إذا رفعْنا منسوب المشتركاتِ وقلَّلْنا منسوب المختلفاتِ مع الجميع، وينبغي ألَّا نتعبَ أو نيأسَ من محبَّةِ واحتواءِ المخالفِ والمُضَلَّلِ والمخدوع. وعلينا مواصلةُ الخدمةِ معهم بالإبلاغِ والإخبارِ والبيانِ بالموعظةِ الحسنةِ والكلمةِ الطيِّبة. وتلك أوَّلُ خطواتِنا باتجاهِ استذكارِ مخيَّمِ الحُسَينِ في ليلةِ العاشرِ من محرَّم، وهو وعيالُه وأصحابُه منشغلون بقراءةِ القرآنِ والاستغفارِ حتى لأعدائه.
وعلينا في خطابِنا أن ننحازَ كلِّيًّا لخطَّةِ التصدِّي الإعلاميِّ كما فعلت مولاتُنا زينبُ عليها السَّلام، حين أسَّستْ في خطابِها أوَّلَ منصَّةٍ إعلاميَّةٍ لنشرِ خطابِ مظلوميَّةِ أخيها الإمامِ الحُسَينِ وأهلِ بيتِه، وأبلغَتِ العالمَ برسالتِه ومنهجِه الإصلاحيِّ بوعيٍ وجزالةٍ وحُجَّةِ القول، فهزَّتْ مضاجعَ الغافلين، وأزالتْ غشاوةَ الإعلامِ المُشوِّشِ والمُضلِّل، الذي زرعَ في عقولِ الناس: «أَوَ عليٌّ كان يُصلِّي؟!». هو ذاتُ خطابِ الإعلامِ الذي جعلَ عوامَّ الناس يتفرَّجون على حملِ رؤوسِ آلِ البيتِ، ويَنعتونهم بالخوارج، دون أن يعرفوا رؤوسَ مَن هي المحمولةُ على أسِنَّةِ الرِّماح!! وهو ذاتُ السلوكِ الذي يجعلُ عوامَّ الناس يبكون الحُسَينَ ويأكلون (القيمة) دون أن يعرفوا مصداقَ قيمتِه الحقَّة.
وأخيرًا – وليس آخِرًا – بهذه المعاييرِ القِيَميَّة يمكنُ أن نضعَ تأسيسًا واعيًا لخطابٍ حُسَينيٍّ ينفتحُ على سرديَّاتٍ واعيةٍ ومتبصِّرةٍ لتسويقِ منهجِه، ولا نُغلِقُه على وتيرةِ معطياتٍ جامدةٍ لا تتفاعلُ مع روحِ العصرِ ومتغيِّراتِه، ولا تُواكِبُ تبدُّلَ لغتِه وأدواتِه. عندَها ننجحُ في تطبيقِ مقولةِ إمامِنا الصادقِ عليه السَّلام: «أحيُوا أمرَنا، رَحِمَ اللهُ مَن أحيا أمرَنا»، بشرطِها وشروطِها.



