كربلاء وصدى السؤال المغيّب: أين كانت الأمة عن نصرة الامام الحسين؟

حين نمرّ على عدد أنصار الإمام الحسين عليه السلام في واقعة الطف، وفق أشهر الروايات، فإننا نكون إزاء مشهد يكاد لا يُصدّق في موازين التاريخ: اثنان وسبعون ناصراً فقط، يقفون في وجه جيش تعداده يتجاوز اثنين وعشرين ألف مقاتل.

رقم صغير بالحسابات العسكرية، لكنه كان عظيمًا بمعيار الموقف. كانوا أهله، وأبناؤه، وإخوته، وبعض من تبقّى من أحرار الكوفة ممن اختاروا الانتصار لدم النبوة بدل الذوبان في رغبات السلطة.


لكنَّ السؤال الذي يطفو كل عام على سطح الوعي الإنساني، ويستصرخ العقل والضمير:

أين كانت أمة محمد في تلك اللحظة الفاصلة؟

كيف خلت من ناصرٍ يذود عن ابن بنت نبيها؟

وأين أولئك الذين سمعوا من النبي نفسه قوله: "حسين مني وأنا من حسين"؟


ماكينة الإعلام الأموي: صناعة العمى الجماعي


لفهم هذا المشهد الموجع، لا بد من تحليل الأدوات التي استخدمتها السلطة الأموية آنذاك لتغييب الأمة، وعلى رأسها: الإعلام السلطوي.

ذلك الإعلام لم يكن هامشيًا، بل كان آلة مركزية في تثبيت الحكم الأموي، وإعادة صياغة مفاهيم الحق والباطل بما يخدم استمرار السلطة.


اعتمدت الماكنة الإعلامية الأموية على أسلوبين محوريين:

الترهيب والترغيب، وجعلت من المنابر منصات سياسية، ومن المساجد أذرعاً خطابية للسلطة، ومن النصوص الدينية ذرائع لتجريم المعارضين.


ففي خطب الجمعة، تحوّل الدعاء للسلطان إلى فريضة، وسُمّيت المعارضة خروجاً على “ولي الأمر الشرعي”، وشُوِّهت صورة الحسين عليه السلام إعلاميًا حتى صُوِّر على أنه مهدِّدٌ "لوحدة الأمة" ومتمردٌ على الدولة.


بل وصل الأمر إلى أن يُعاقَب من يذكر مناقب أهل البيت، أو يُتّهم بـ"الرفض" لمجرد حزنه على آل محمد. لقد تمّ تشييد جدران إعلامية تحاصر الوعي وتختزل الطاعة في بيعةٍ شكلية، وتجرّم حتى التفكير بمعارضة الظلم.


أما الترهيب، فكان بحدّ السيف. من ساند الحسين، قُتل أو طورد أو أُبعد، ومن صمت نجا بجلده. وأما الترغيب، فكان بالدنانير والمناصب والضمانات الزائفة، فاشترت السلطة الولاءات، وسوّقت الخضوع على أنه "حكمة"، والتراجع على أنه "حفاظ على وحدة الصف".


الحقيقة بين كربلاء وكربلاء


لم يكن غياب الأمة عن نصرة الحسين ناتجًا عن ضعفٍ في وعيها الروحي، بل عن قوّة الآلة التي كانت تصنع لها وعيًا زائفًا.

وقد أثبت التاريخ أن السيطرة على العقول أخطر من السيطرة على الأجساد، وأن التضليل الممنهج قادر على إخماد شعلة المقاومة ولو مؤقتًا.


لكن كربلاء بقيت — رغم كل تلك الجدران — مشرقة في ذاكرة الأحرار، شاهدة على أن الحقّ لا يُقاس بعدد الأنصار، بل بصدق الموقف.

ولذلك، فإن الحسين انتصر لا لأنه نجا بجسده، بل لأنه نجا بقيمه، وبقي حيًا في ضمير الأجيال، بينما مات مناصرو يزيد في دفاتر المجهول.


الخاتمة: كربلاء اليوم.. صحوة لا تنطفئ


اليوم، بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، تتكرر كربلاء في صورٍ كثيرة.

تتكرر حين يُصوَّر صوت المظلوم على أنه فتنة، ويُمنح الظالم منبرًا ومشروعية.

تتكرر حين تُشترى الذمم باسم "الاستقرار"، وتُشيطن المطالبة بالحق تحت لافتة "الوحدة".


لكن الأمة، وقد تعلّمت من كربلاء، باتت أكثر وعيًا.

والإعلام، الذي كان سلاح الطغاة، صار اليوم منابر للوعي وكشف الزيف، شرط أن نحميه من أن يُستلب مرة أخرى، أو يُزيَّف تحت رايات جديدة.


فالحسين لم يكن بحاجة إلى عدد، بل إلى ضمير.

وإذا خذله الناس في كربلاء واحدة، فإن العالم اليوم ينهض باسمه في كل عاشوراء.


العودة إلى الأعلى