تاريخ المراقد ... الجزء الرابع

: محمد طاهر الصفار 2025-03-16 08:28

ربما ليس من السهل التنبؤ بما يبدعه المفكر من جديد بعد كل استراحة خاصة إذا كانت كتاباته قد تميزت بالإلمام والموسوعية ووقف هو كالمحور تطوف به الجوانب المشرقة في حياته التي كانت عبارة عن جذوة متوقدة بالإبداع في شتى المجالات. 

هل هي استراحة المحارب ــ كما وصفها ــ استعداداً لجولة أخرى ربما كانت الأقوى والأكبر 

ربما يكون جزء منها لأن الرجال الذين حفلت حياتهم بالعطاء ووهبوا أنفسهم للإنسانية جمعاء، وزخرت أعمالهم بالتنوع الإنساني المبدع يحملون رسالة سامية إلى الإنسانية أعظم من رسالة السلاح، إنه يخوض حرباً ضد الجهل من أجل الحقيقة، ويوقظ بقلمه الذين أغفوا على فراش الزيف والتدليس، وينشر الفضيلة والخير والانصاف لتحل محل الرذيلة والتفسّخ والانحراف في المجتمع 

إن استراحته هي التفكير ووضع الخطط كما المحارب تماماً ولكنها تختلف من حيث المكان فالمحارب ينصبّ تفكيره على قتل عدوه الخارجي، أما المفكر فإنه يوجه سلاحه لقتل الشر من الداخل ويزرع المحبة ويتغنى بالعلم والجمال مضمناً فلسفته وأفكاره مستخلصاً العبر والعظات والحقيقة.

هكذا كانت استراحة العلامة المفكر والمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي وهو يعد عدته البحثية من خلال التأمل والتدقيق والمتابعة والاستقراء ليقوم بجولة أخرى رابعة من جولات كتابه تاريخ المراقد الثمانية 

(هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً) هذه أول الكلمات التي وضعت لبنة هذا القبر الذي أصبح الشعار والمنار والشموخ والرسوخ وقد خطها بيده الشريفة الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما أتم دفن الجسد الطاهر مع أجساد أهل بيته وأصحابه الشهداء وأبّنهم بقوله:

(بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)

هذه الكلمات التي صيغت على منوالها ملايين القصائد والكلمات وأثار صداها ملايين الحناجر وخفقت لها قلوب أجيال وأجيال لا تزال تهتف ... لبيك يا حسين 

من هنا يبدأ الكرباسي برسم الأحداث المتتابعة تاريخياً التي تعنى بالمرقد المقدس ونقل كل ما هو مكتوب على الضريح والأضرحة التي تحيطه والأبواب والأروقة والصندوق وزيارات الملوك والرؤساء ومشاريع التزيين ومشاريع التنمية ومحتويات المرقد وأطرافه لينتقل بعدها إلى الفن المعماري في المرقد

وهذا الفن له أهمية كبرى لما يحمله من إرث تاريخي وحضاري، كما تخلل تاريخه العديد من مراحل الطمس والاندثار بفعل الأيادي الأثيمة، وقد نهج الكرباسي في مبحثه منحى البدء من الجذور وقسّم حديثه في هذا الفن إلى ستة نقاط هي:

1 ــ المواد

2 ــ الطراز

3 ــ الهندسة

4 ــ النقوش

5 ــ الألوان

6 ــ الخطوط

فالثلاثة الأولى تخص البناء، أما الثلاثة الأخرى فهي تعنى بالإكساء والتزيين، ولا يخفى أهمية الترابط بينهما فكلاهما تكمل الأخرى في بروز هذا الفن الحضاري

كان الدفن بخليط من الرمل الصحراوي والتراب النهري، أما ما استعمل في القرن الأول من إعمار المرقد فهو البارية والسقيفة وجذع النخلة وجريدها وسعفها وليفها والطين والتبن ثم الصندوق المصنوع من الخشب والآجر ثم الجص وبناء الروضة والصحن والأبواب 

وفي القرن الثاني وضعت سقيفة الشهداء وسقيفة الحرم الحسيني وأخذ المرقد يتسع وكثرت زيارته حتى هدمه هارون العباسي فبناه الأمين ثم طوره المأمون فاستخدمت في بنائه إضافة إلى الجص والآجر والخشب الأطواق ومصرت كربلاء.

وبقي هذا البناء مدّة أربعين سنة حتى زمن المتوكل الذي كان من أكثر العهود الإرهابية التي مرّت على الشيعة، وأقسى العهود المظلمة التي مرّت على القبر الشريف، يقول أبو الفرج الأصفهاني: (وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، ووضع على سائر طرق الزوّار مسالح لا يجدون أحداً زاره إلا أتوا به فقتلوه أو أنهكوه عقوبة) وقد هدم قبر الحسين أربع مرات لكنه كان يعاد بناؤه بعد كل هدم من قبل الموالين

ثم عُمِّر المرقد رسمياً من قبل المنتصر وبُنيت عليه قبة وحرماً وصحناً ثم طوّره ووسّعه ملك طبرستان الداعي الكبير عام (272 هـ / 886 م) ومن هذا التاريخ دخل الفن الفارسي من النقوش والنباتات في عمارة المرقد وكان هذا البناء أفخم بناء حتى عصره  

وفي القرن الرابع توسع البناء على يد البويهيين ودخلت عناصر أخرى في البناء والإكساء كخشب الآبنوس والعاج والديباج والقناديل والقاشاني غير أن المرقد تعرض للحريق عام (407 هـ) على يد القادر العباسي فأعاد بناءه الحسن بن الفضل وزير البويهيين 

وفي القرن السادس عمره الأمير دبيس وأكساه الملك طلائع بن رزيك بستائر الديباج، وفي السابع الناصر العباسي، وفي الثامن بُني مسجد مرجان ومنارة العبد، ثم يأتي دور الصفويين في القرن العاشر الذين أضافوا كثيراً من العناصر الانشائية في التعمير وقدموا خدمات جليلة للمرقد وزيّنوه بنفائس التحف والمجوهرات وخاصة الشاه إسماعيل الصفوي الذي كان أول من أضاف الذهب في الضريح وزيّنه باثني عشر قنديلاً من الذهب وفرش الحرم بالسجاد الإيراني المصنوع من الحرير

وهكذا يتوسع الكرباسي في بحثه ليكمل بقية القرون ليصل إلى المرقد كما هو الآن متوخياً الدقة في نقل المعلومة والضبط في التواريخ والأمانة في الطرح فجاء كتابه وثيقة تاريخية وفنية مهمة.

محمد طاهر الصفار 

العودة إلى الأعلى