تاريخ المراقد .. الجزء الثاني
إن عملية استقصاء الأحداث والحوادث عبر أربعة عشر قرناً لأثر تاريخي يتحدد في بعض المعلومات عبر مراحل تاريخية محدودة أثرت بشكل أو بآخر على هذا الأثر، ولكن أن يكون هذا الأثر من الأهمية القصوى للمجتمعات على كل الأصعدة بحيث أن يكون متجدداً في كل أدواره ولا تنفك الناس من زيارته وتعده الأجيال ملهماً لها وكأن الواقعة التي خلفت هذا الأثر قد حدثت بالأمس، ومر بمراحل عديدة من تعمير وتهديم وتجديد وترميم وتوسيع وزاره العلماء والعظماء والملوك والسلاطين وتبركوا به وتمنى كثيرون منهم زيارته، فإن عملية استقصاء كل ذلك يحتاج إلى جهد عظيم وتتبع وتقصي واستطلاع واطلاع ودقة في ضبط التواريخ قبل الشروع.
يواصل الكرباسي في هذا الجزء وهو الثاني من كتابه تاريخ المراقد المنضوي تحت عنوان دائرته الموسوعية (دائرة المعارف الحسينية) الحديث عن المراقد ويكمل من حيث انتهى في الجزء الأول منه فيصل إلى القرن الخامس الهجري فيذكر بالتسلسل التاريخي بعض زيارات الملوك والسلاطين للمرقد الشريف وبعض الأحداث التي أثرت سلباً أو إيجاباً على المرقد.
وقبل التحول في الحديث عما ذكره الكرباسي عن المراحل التاريخية للمرقد في القرن السادس الهجري وما بعده من القرون ينبغي الإشارة إلى أن دراسة هذه الأحداث لا تعني كمرحلة تخص المرقد فقط، بل إن أهمية المرقد لدى المسلمين الشيعة وغيرهم جعلت الأحداث التي تقع فيه ترتبط بالرأي العام الإسلامي والواقع السياسي.
فقد أولد اهتمام المؤمنين بهذا المرقد وتقديسهم له حالة من الحقد عند النواصب الذين يتربّصون للشيعة في كل زمان ومكان ونستطيع من خلال حدث واحد أن نستقرئ الواقع السياسي الذي كان عليه ذلك القرن وأن نستخلص انطباعاً عمّا كان عليه
فمن الأحداث التي وقعت في المرقد الشريف وبالتحديد في عام (407 هـ / 1016 م) تعرض ضريح الإمام الحسين إلى حريق كبير أحرق المرقد بالكامل وسقطت القبة والأروقة وتحولت إلى رماد ولم يبق من الضريح سوى السور وقيل في سبب الحريق هو سقوط شمعتين كبيرتين في منتصف الليل قضاء وقدراً !
غير أن الواقع السياسي في ذلك الوقت يشير إلى وجود يد في ذلك من خلال أحداث مشابهة متواصلة ضد الشيعة. ونظرة عامة على حوادث تلك السنة كفيلة بتوجيه أصابع الاتهام إلى الخليفة القادر بالله العباسي المعروف بعدائه للشيعة وتطرفه، فقد سبق هذا الحريق مذبحة عظيمة للشيعة في أفريقيا الشمالية في عهد المعز بن باديس، ومثلها في واسط، ونهبت محالهم واحترقت وهرب وجوه الشيعة والعلويين فقصدوا علي بن مزيد واستنصروه، وبعد عشرة أيام من حريق حرم الإمام الحسين احترق أيضاً حرم العسكريين بسامراء واحترقت في نفس اليوم محلات الشيعة ببغداد في جانب الكرخ من محلة (نهر طابق) ومحلة (دار القطن) وقسم من محلة (باب البصرة) وامتدت دسائس القادر بالله العباسي فشملت بيت الله الحرام وسقط حائط قبر النبي ووقعت القبة الكبرى على الصخرة في بيت المقدس. وعم البلاء وساد الفزع في كافة الأقطار الإسلامية في وقت واحد واعترض أهل باب البصرة ــ محلة في بغداد ــ قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين فقتلوا منهم ثلاثة أشخاص ومُنعت زيارة مشهد موسى بن جعفر (عليه السلام).
كل هذه الأحداث تعطي صورة متكاملة عما كان عليه الواقع السياسي من التعصب والطائفية.
ويواصل الكرباسي رسم الأحداث في القرن السادس ويطالعنا بحدث آخر يكشف عن جرائم العباسيين بحق المرقد الشريف ففي عام (526 هـ) نهب المسترشد العباسي الخزانة الحسينية التي كانت مليئة بالمجوهرات والنفائس النادرة التي أهديت للمرقد من قبل الملوك والسلاطين وخاصة ملوك بني بويه وكانت حجة المسترشد إن القبر لا يحتاج إلى الخزانة فأنفق بعضاً مما سرقه على جيشه واحتفظ بالقسم الآخر في خزانته ولكنه نال جزاء ما اقترفت يداه فقد أسر في قتاله مع مسعود السلجوقي وقتل مع ابنه الراشد شر قتلة وسلبت ممتلكاته فبلغت حمل خمسة آلاف ناقة وأربعمائة بعير أغلبها مما سرقه من خزانة الروضة الحسينية وهذه الممتلكات تعطي صورة عما تحتويه خزانة المرقد الشريف من النفائس والجواهر والذهب والأموال
وهكذا يستمر الكرباسي في تتبع أحداث القرون فيما يخص المرقد الشريف من تعمير وتزيين وإهداء النفائس وزيارة الملوك له ودفنهم به ومن أهم الإضافات للمرقد الشريف منارة العبد التي بناها مرجان والي بغداد في عهد أويس الجلائري ويبلغ ارتفاعها أربعين مترا وفي سنة 793 هــ بنى الجلائري المئذنتين
وتتسع دائرة الأحداث والاضافات والهدايا للمرقد الشريف في القرن العاشر عل عهد الصفويين الذين اهتموا بإعمار المرقد وتزيينه بالهدايا النفيسة أما بخصوص شكل المرقد الشريف فقد عزز الكرباسي شرحه لمحتوياته من أروقة وشبابيك وصناديق برسومات لمستشرقين زاروا كربلاء فرسموا المرقد كما شاهدوه
ويستمر الكرباسي برسم الأحداث تتابعاً موثقاً بصور الأعلام والمقتنيات التي ضمها المرقد الشريف مع شروح وافية لكل حدث وصورة ليصل إلى محتويات صحن المرقد من أواوين وأروقة وأبواب وغرف فيشرح عمليات تطويرها وما أجري عليها من تطوير وتبديل عبر القرون بدقة متناهية وما علتها من نقوش وكتابات
إن هذا الكتاب يعد دليلاً ومرشداً ليس للزائر فحسب، بل للدارس والباحث فقد عرض فيه الكرباسي فيه بالتفصيل تاريخ جميع ما في المرقد الشريف موثقا بالأدلة والبراهين .
محمد طاهر الصفار