الروضة العسكرية المطهرة بعيون أوربية
في مدينة سامراء المدينة التي تغوص في أعماق التاريخ من حيث نشوئها القديم الذي يرجع إلى أطوار ما قبل التاريخ، فبفعل التنقيبات التي أجرتها البعثة الألمانية سنة 1914م برئاسة عالم الآثار الشهير ( هورزنلد)، وقد عرفت المدينة في العصر البابلي باسم (سيموروم)، ونظرا لموقع المدينة وخصوبة تربتها ووفرة مياهها التي يغدق بها عليها دجلة العظيم فقد ظلت المدينة آهلة بالسكان، ولا سيما القرويين والمزارعين الذين اعتاشوا من زراعة القمح والشعير واشجار الفاكهة والحمضيات والخضار.
وهناك أسباب عديدة لاتخاذ أحد ملوك بني العباس من هذه المدينة مستقرا له، إذ يروي الطبري في تاريخه الكبير أن جند الحاكم العباسي كانوا يؤذون العامة من أهالي بغداد، ويسيئون معاملتهم، فاشتكوا ذلك إلى الملك العباسي الذي أمر جنده بترك بغداد واتخاذ مدينة سامراء التي بنيت وعمرت مقرا له ولجنده بعد أن كانت عبارة متنزها أو غابة مليئة بالأشجار والخضرة، وقد اتخذت بعد بنائها في سنة 220 هجري مسمى جديد هو (سرّ من رأى) وكانت عبارة عن ثكنة عسكرية في أول نشأتها ثم تحولت إلى حاضرة تزينها القصور والشوارع العريضة والأبنية الضخمة الجميلة التي ما زالت بقاياها شاهدة حتى يومنا هذا .
في هذه المدينة فرضت الإقامة الجبرية على إمام زمانه –آنذاك- الإمام علي بن محمد الهادي –عليه السلام- بأمر الحاكم العباسي الظالم (المعتز) الذي تخلص من الإمام الهادي بعد أن أقام بها (20عاما) عن طريق دس السم في عام 254هجري، وقد أمر خلفه (المتوكل العباسي) المعروف ببغضه لآل البيت ورموزهم وأتباعهم بتشديد الرقابة والإقامة الجبرية على ابن الإمام علي بن محمد الهادي وهو الإمام الحسن العسكري الذي أغتيل مسموما هو الآخر على يد الحاكم (المعتمد العباسي سنة 260هجري)، وقد دفن الإمامان –عليهما السلام- في دارهما بسامراء، ومنذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا باتت سامراء مدينة تفضل السكن على ضفتيها غالبية من أتباع أهل البيت الذين يتبركون بقبور أئمتهم ويعدونها رياضا من رياض الجنة توجب زيارتها إبعاد الهم والغم، وجلب المنافع والسرور لمن يسير على منهج أهل البيت عليهم سلام الله.
وكانت أول عمارة لضريح الإمامين جرت في العام 328هجري، إذ جصص القبران، وخصص لخدمة الزوار خدم يلازمون القبور ويعتنون بشأنها ولا سيما عند مجيء الزوار أيام الزيارات المخصوصة، وكان حال سامراء في الفترة المذكورة وما تلاها قد هجرت وترك غالبية أهلها مدينتهم قافلين إلى بغداد، ولم يبق من احياء سامراء العامرة سوى محلات معدودة على الأصابع، ومن هذه المحلات محلة (العسكر) التي كانت بالأصل مخصصة ببني هاشم، وقد نسب الإمامين العسكريين ( علي ابن محمد الهادي وابنه الإمام الحسن العسكريين) نسبة إلى هذه المحلة المعروفة بسامراء آنذاك.
وقد عرفت أضرحة الأئمة (عليهم السلام) في سامراء على تواريخ متتالية لاحقة مجموعة من العمارات، والإصلاحات التي تعلي من شأن أصحابها في نفوس أتباع الأئمة الكرام من عترة الرسول الطاهرة، حتى باتت شواهد شامخة على مر الزمن تحيا بحياتها الأمكنة التي تنشأ على ظلالها لتتكون منها المدن الكبيرة التي تزدهر فيها المؤسسات والمعاهد الدينية إلى جانب ازدهار الأنشطة التجارية والمالية وسوى ذلك من أمور أخرى كانت كلها تحت رصد عيون كل من زارها وشدته تلك الشواهد ومن هؤلاء كان الرحالة الأوربيون الذين كتبوا عن النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء ، وهي المدن التي تبركت بأضرحة الأئمة الكرام من أولاد الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرين.
ولذلك كانت سامراء وجوهرتها الروضة العسكرية المطهرة مقصد الرحالة منذ القدم، فمن الذين زارها من الرحالة العرب القدامى (الرحالة ابن جبير المتوفى 1217م، وابن بطوطة الرحالة المشهور والمتوفى 1377م، والرحالة المسعودي الذي أطنب في وصف سامراء واعتدال هوائها وعذوبة مائها راصدا توافد الزوار على مقام الضريحين المباركين) وفي العصر الحديث وفد إلى سامراء رحالة عرب كثر منهم الرحالة المصري عبد الوهاب عزام سنة 1931م الذي قال عن مسجد سامراء: ( هو على طراز مساجد الكاظمية والنجف وكربلاء، ولكنه أصغر وتحت قبته مقصورة فيها أربعة قبور للإمام علي الهادي وابنه الحسن العسكري والسيدتين سكينة خاتون وحليمة خاتون.. إحداهما زوج الإمام الهادي والأخرى عمته، ويقع على مقربة منه السرداب الذي اختفى فيه الإمام محمد المهدي بن الحسن العسكري)
أما الرحالة الأجانب فقد زارها البريطاني (فنشو) عام 1656م ، والرحالة الفرنسي المشهور (تافرنييه) عام 1676م الذي وصف الضريحين بالجمال والهدوء الذي يضفيه عليهما نسمات هادئة قادمة من النهر العذب الذي يقع على مقربة فرسخين منهما، وقد سجل كثرة الوافدين من الزوار الهنود والإيرانيين والعرب على هذا المكان بوسائل نقل بدائية توافق ذلك الزمان، ويصف منارة المسجد بأنها شيدت بمهارة فائقة تسعد الناظر إليها من مسافة بعيدة.
ومن الزيارات المهمة كانت زيارة الرحالة الألماني المشهور (كارستن نيبور) عام 1756م الذي وصف سامراء بالقول: ( سامراء من أهم مدن شمال بغداد لأنها عاش بها قديما ثلاثة من أئمة الشيعة، وفي هذه المدينة مزارات جميلة تضم رفات الإمامين الهادي والعسكري إلى جانب بعض الشواهد القائمة المتعلقة بالإمام المهدي الذي يعتقد الشيعة بعودته في أخر الزمان لإصلاح الفساد الذي يعمّ الأرض مستقبلا) .
وفي أثناء طريقه من اسطنبول للبصرة وفد إلى سامراء الرحالة الإيطالي (سيستيني) عام 1781م، وقد سماها (بغداد القديمة) وترك لنا انطباعه عن الحسن بعد زيارة الروضة العسكرية التي رآها تعج بالزائرين رغم الخرائب التي تبدو ملامحها واضحة للعيان في أرجاء مدينة سامراء ، أما في القرن التاسع عشر للميلاد فقد كثرت العيون الأوربية الراصدة للروضة العسكرية المطهرة منهم الفرنسي (دوبريية) عام 1807م، وقد وصفها بقوله : ( رغم إن المذهب السائد على الامبراطورية العثمانية التي تحكم العراق هو المذهب السني، فإن ثلاثة أرباع سكان العراق من الشيعة الإمامية الذين لا يستطيعون تشييد دور عبادتهم الا بموافقة العثمانيين، وحينما يأتي على وصف سامراء فهي مدينة صغيرة هادئة تنام على ضفاف دجلة أهم ما بالمدينة أضرحة الأئمة البارعة البناء والتي تجذب العديد من أتباع المذهب الشيعي من مختلف أقطار الشرق وخاصة إيران والهند) أما الرحالة الروسي (لوين جاك روسي) فقد زار سامراء سنة 1808م الذي سجل توافد المئات من الزوار على شكل مجاميع تردد الأدعية الخاصة أثناء تجوالها بالقرب من الروضة العسكرية المطهرة.
كما زار سامراء الرحالة الاانجليزي ( جون مكدونلد كنر) عام 1813م مسجلا ملاحظاته وانطباعاته التي لا تختلف عن سابقيه إذ قال عنها إنها بلدة صغيرة لا يتجاوز تعداد نفوسها 2500 نسمة فيها أطلال كثيرة وشواهد عمرانية خربة تدل على أن أمراء بني العباس سكنوها من قبل، وأهم شواهدها اللافته البناء الجميل من الطابوق الذي تعلوه قبتان ومنارتان عاليتان مزينتان بالكاشي الموزائيك الملون الذي يبدو ملفتا للنظر حينما تتساقط عليه أشعة الشمس) ويقصد بذلك الروضة العسكرية المطهرة كما رآها قبل أكثر مئتي عام مضت واصفا إياها بأوصاف جميلة تركت أثرا في نفسه.
وإلى ذلك أشار مواطنه (ريج) الذي زار سامراء عام 1850متحدث عن أهمية المدينة وعن تقديس الشيعة لها لأنها ضمت رفات أولاد الرسول الأكرم، وهما ضريحان جميلان بنيا بعناية فائقة، ولم يهمل ريج ذكرا للإمام المهدي (عليه السلام) لارتباطه بسامراء ارتباطا وثيقا، ولذلك كانت سامراء مهوى لقلوب الشيعة ومحبي أهل البيت وخاصة من إيران التي يفد منها إلى سامراء سنويا أكثر من عشرة ألاف زائر سنويا في تلك الفترة.
وهكذا يتضح من ملاحظات الرحالة الأجانب إلى سامراء أنهم وصفوها بأنها تكتسب قيمتها من طابعها الديني المرتبط ارتباطا وثيقا بوجود مرقدي الإمامين العسكريين عليهما السلام، فضلا عن وجود مقام غيبة الإمام الحجة (عليه السلام) وإن قيمة وأهمية هذه المدينة باقية ما بقي الزمان