الصيام عبر التاريخ الإنساني والصيام الإسلامي – دراسة مقارنة" (3)
لعل أهمّ عبادةٍ إنسانيةٍ ترتكز على تهذيب الغرائز البشرية وتقويم السلوك الإنسانيّ وتنمية الملكات الروحية والنفسية، وترسيخ الصبر والقدرة على التحمّل لدى الإنسان، هي عبادة الصوم. وبعد ما استعرضنا في المقالتين السابقتين أهم أسباب ونتائج ومظاهر الصوم لدى الأمم الغابرة والحاضرة والشعوب الإنسانية المختلفة عبر التاريخ، ولاحظنا ما هو مشتركٌ بينها وما هو مختلف، كان لا بدّ لنا من الوصول إلى الصيام الإسلاميّ، لتحليل بعض أسبابه ودوافعه وتشريعاته، ومظاهره ونتائجه، ومقارنته بالصيام في الأمم الأخرى.
ذلك أن للصيام في الإسلام موقعٌ خاصٌّ وأهميةٌ بارزة، فالصيام الإسلاميّ تشريعيّ تنفيذيّ قضائيّ، فهو واجبٌ شرعًا على كلّ مسلمٍ مكلّفٍ بحكم النصّ القرآنيّ ﴿يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتّقون﴾[1]، وبحكم النصّ النبويّ: عن النبي (ص): قال الله تبارك وتعالى: "كلّ عمل ابن آدم هو له، غير الصيام هو لي وأنا أجزي به"[2]، ويتمّ تنفيذه على مستوى الأفراد والجماعات في كافة المجتمعات الإسلامية على اختلاف طوائفها وطرقها ومذاهبها، كما أنه يتمّ القيام به ككفّارةٍ عن بعض الذنوب...
إن العودة إلى الآية الكريمة السابقة تؤكّد أن الصيام كان مفروضًا على الأمم السابقة كما هو مفروضٌ في الإسلام﴿كما كُتب على الذين من قبلكم﴾ و(كُتب) و(كَتب) يُقصد بها السنّ والتشريع الإلهي، كما يُقصد بها الحسم والقضاء المحتوم، وقد ذُكرت في غير موضعٍ من القرآن الكريم: ﴿كُتب عليكم الصيام﴾﴿كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم﴾[3]﴿كُتب عليكم القصاص في القتلى﴾[4]﴿كُتِب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية﴾[5]﴿كَتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي﴾[6]... ومن هنا يُفهم أن الأمر بالصيام أمرٌ مسنونٌ ومحتوم وواجبٌ لا مفرّ منه ولا جدال فيه، عدا بعض الاستثناءات التي يوردها الحكم الشرعي كحال السفر والمرض والعجز وغير ذلك...
أما الحديث القدسي المرويّ على لسان نبيّنا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيؤكّد على الأهمية الاستثنائية التي يوليها الإسلام للصوم دون سائر العبادات الواجبة، وإننا بالعودة إلى تفاسير الفقهاء لهذا الحديث، مع التمعّن والغوص في مراميه، لمعرفة سبب ومغزى هذه الأهمية، نلاحظ أنه لعل أكثرما ينفردبه الصوم عن غيره من العبادات أنه لا يكون إلا لله، بخلاف العبادات الأخرى التي يُحتمل في التوجّه للقيام بها أن تكون لغير الله، كالصلاة مثلًا التي يعبد بها المشرك غير الله، كما أن الصوم هو الوحيد بين العبادات الذي يلتزم به العبد دون رقابةٍ خارجية، فلا رقيب له إلا نفسه وربه، ومن هنا فلا يمكن أن يصوم العبد رياءً أو تظاهرًا، فإن فعل لم يكن صائمًا أصلا... بل إن كفارة الإفطار العمد تختلف تمامًا عن أي كفارةٍ أخرى، فاليوم الواحد كفارته صيام شهرين متتابعين، بخلاف الصلاة مثلًا، التي يمكن أن يقضيها الإنسان بصلاةٍ أخرى مماثلة، بنية القضاء، حتى وإن كان تركه للصلاة متعمّدًا... ونحن هنا لا نقلل من أهمية ترك الصلاة، فقد ورد في الروايات تكفير التارك للصلاة والتارك للصوم أيضًا، ولكن القصد هو بيان خصوصية أهمية الصوم نفسه.
هذه الخصوصية التي ينفرد به الصوم قد كانت محور التشريع الإلهي الإسلاميّ للصوم، ولذا فقد ركّزت الشريعة الإسلامية السمحاء على قواعد الصوم وشروطه وموارده وضوابطه، بحيث يعدّ الدين الإسلاميّ هو الدين السماويّ والوحيد الذي سنّ الصوم كفريضةٍ واجبةٍ لها ضوابط وأيام محددة، فالصوم الواجب مثلًا عند اليهود يكاد يقتصر على يوم واحد، يوم الكيبور أو الغفران، أما سائر أيام صيامهم الخمسة فهي غير مسنونة في التوراة، ويمكن العودة إلى المقالة السابقة للتعرّف على بعض التفاصيل في هذا الأمر، أما الصيام عند المسيحيين فهو ليس واجبًا بموجب الإنجيل، كما أسلفنا في المقالة السابقة أيضًا، بل إن التقاليد الكنسية هي التي سنّته ووضعته...
إن الدين الإسلاميّ، وفي صدد مواكبته لتربية الإنسان كفرد وكمجتمع، وكجسدٍ وروحٍ ونفس، قد راعى كل جوانب التهذيب والتنمية للمدارك الإنسانية الفكرية والروحية، وكل جوانب التربية الصحية الجسدية أيضا، فكان في مقدّمة العوامل الأساسية المؤثرة إيجابًا في هذا التهذيب وهذه التربية، هو الصيام بقواعده وضوابطه وشروطه الإسلامية، حيث كانت الآيات القرآنية الكريمة واضحة في شأن مدة الصوم وتوقيته وشروطه، بالإضافة إلى وجوبه الذي لا جدل فيه.
وآيات الصوم هي:
﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَ ٰتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[7]
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَ ٰكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[8]
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالۡـَٰٔنَبَـٰشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[9]
إن الآيات السابقة تشرّع الصيام بكل ضوابطه المعروفة بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ لا يحتاج للتحليل والتأويل، ولهذا فقد كان الصيام منذ نزول هذه الآيات الشريفة قبل ألفٍ وأربعمئة عامٍ ونيّف، ولا يزال يتّبع نفس القواعد المسنونة، لم تتغيّر قيد أنملة، كما أن القرآن محفوظٌ مكنونٌ لم يتغيّر... وذاك أمرٌ لم ولا يمكن أن نجده في أي شريعةٍ أخرى، حيث طال التحريف والتبديل كل جوانبها العقائدية فضلًا عن التشريعية.
إن الصيام الإسلاميّ الذي يرتكز على الامتناع الكامل عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يلخّص توثيقًا كاملًا لفرضٍ واجبٍ يكرّس نظرة الإسلام لعلاقة الإنسان بربه، فهو يلتزم بالواجبات ويمتنع عن المحرمات ويقوم بالمستحبات ويبتعد عن المكروهات، دون أن يكون عليه رقيبٌ من البشر، بل هي الرقابة الذاتية التي تمتدّ إلى الرقابة الإلهية، والصيام هو أكثر هذه الواجبات تكريسًا لهذه العلاقة، لأنك حين تصوم تمتنع عن كل الملذات والشهوات الجسدية لوقتٍ محدد، دون أن يعلم بك أحد لو خالفت وعصيت، فأنت يمكن أن تأكل أو تشرب خفيةً مثلًا، فتقع في المحرم، ولكنك لا تفعل، بناءً على قناعةٍ كاملةٍ بالتشريع الإلهي، وأنت تعلم أنه لا يراك إلا الله لو عصيت... إن الانصياع للأمر الإلهي بالامتناع عن اللذائذ ينمي قدرة الإنسان على مواجهة شهواته، وعدم إطاعة أوامر الجسد، مما يرفع من مستوى الصبر والجلد، فتجد الإنسان بعد الصيام أرقّ قلبًا وأكثر شعورًا بالأمور المعنوية، وأكثر التفاتًا لجوع الفقراء والمساكين، وأكثر قوةً في محاربة غرائزه... ولئن كانت هذه النقطة مدار اهتمام الديانات الأخرى في تشريعها للصيام، إلا انها لم تكن موفّقةً بضبطها لقوانين الصيام من ناحية، وبمراعاتها لحاجات الإنسان الجسدية والنفسية من ناحيةٍ أخرى، فصيام الشعوب القديمة غالبًا ما كان مجحفًا بحق الإنسان، كالصيام لعدة أيام، أو الصيام المؤدّي للهلاك، وصيام بعض الشعوب عن الأسماك والمنتجات الحيوانية دون البقول والثمار والماء مثلًا، لم يستثمر فكرة الجوع التي تؤدي إلى رقة القلب وتقدير النعمة والإحساس بالمحتاج...
إن الصيام في الإسلام لم يظلم جسم الإنسان، بل قدّم إليه حميةً غذائية مدروسة بامتياز، تريح معدته وتنشّط كبده وكليتيه، وتقدّم لأعضائه الحيوية العاملة على مدار الساعة استراحةً يومية بعد عمل عامٍ كاملٍ دون توقّف، وهنا نلفت إلى كراهة الأكل بعد الإفطار حتى الامتلاء، كما يفعل الكثير من الصائمين، وتُترك طريقة الأكل وكميته ونوعه، للفرد نفسه ليحددها ويضبطها بحسب ذوقه وقدرته على احتمال التقشف والزهد، فلا يكون التقشف إلزاميًّا، كما هو الحال في صيام الكثير من الشعوب...
إن الصيام الإسلامي لا يحرم الإنسان من التمتّع بما أحلّ الله، ولكنه يعوّده على الامتناع عنه متى شاء، كما يجعل الملذّات تأتي عنده بالدرجة الثانية في سلّم الحاجات، وهذا ما يفرّغه للحاجات الروحية ويجعله قادرًا على إفساح بعض المجال لها، وهذه الامتيازات التي يثمرها الصيام، لا تختصّ ببعض المسلمين دون البعض الآخر، كما أن الصيام الواجب يتساوى فيه الجميع، فالكلّ فيه سواسية، ولكن يبقى هناك البعض الذين لا يلتفتون إلى دقة الضوابط، فيقعون في الغيبة والنميمة والغضب والنظر الحرام، خلال صيامهم، فيفسدون بذلك هذه الفريضة الراقية السامية، ويفسدون صيامهم أيضا.
إن الحديث الشريف المرويّ على لسان إمامنا الصادق (عليه السلام): "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك، واحفظ يدك وفرجك، وأكثر السكوت إلا من خير، وارفق بخادمك."[10] يكفي للدلالة على أهمية الصوم المعنويّ عن المحارم، فضلًا عن الصوم عن المباحات واللذائذ، بحيث يكون ارتكاب هذه المحارم مفسدًا للصوم مثلها سواءً بسواء.
ومع أن الصوم الإسلامي يلتقي مع الصوم في الشرائع الأخرى، من حيث السعي لتهذيب النفس وضبط الغرائز وتنمية الصبر، إلا أنه ينفرد عنها بأنه إلهيٌّ بالكامل، أي تشريعيٌّ بالنصّ، لا اجتهاد فيه ولا تبديل في حكمه منذ كان، كما أنه كسائر الأحكام التشريعية الإسلامية الأخرى، يراعي جانبي الإنسان الروحي والجسدي، وذلك باعتداله في التوفيق بين حاجات الجسد والروح، حيث لا إفراط ولا تفريط. وكسائر هذه الأحكام وكالإسلام نفسه الذي يمتدّ منذ البعثة حتى قيام الساعة، هو مؤهّلٌ للاستمرار والبقاء ببقاء الإنسان على هذه الأرض، كما أنه يكشف لنا في كلّ يومٍ وفي كل عصرٍ عن معجزة الإسلام الخالدة، حيث أقرّ علماء النفس والصحة أيضا، أن الصيام الإسلامي بضوابطه المعروفة، هو أفضل حميةٍ جسدية على الإطلاق، وهو يساهم بشكلٍ كبيرٍ في تحسين الصحة النفسية والمزاج للإنسان، وفي كبح الشهوات وتنظيمها للمفرطين بها كذلك.
ويبقى الإسلام الشريعة الإلهية الإعجازية الكاملة، التي تنبئنا مع كلّ محاولةٍ لاكتشافه والغوص في أعماقه، بحقيقة هذا الإعجاز المكنون الذي يكرّس هذا الدين العظيم كمعجزة تشريعية خالدةٍ مستمرّة على مدى الأجيال، تنبئ البشرية بحقّانية هذا الدين ونبيّه وكتابه، منذ بدأ إلى قيام يوم الدين.
ملحوظة/ بهدف استكمال الفائدة للقارئ الكريم ارتأينا نشر هذا الجزء رغم انقضاء شهر رمضان الكريم
[1] سورة البقرة، الآية 183
[2]بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، ص249
[3] سورة البقرة، الآية 216
[4] سورة البقرة، الآية 178
[5] سورة البقرة، الآية 180
[6] سورة المجادلة، الآية 21
[7] سورة البقرة، الآية 184
[8] سورة البقرة، الآية 185
[9] سورة البقرة، الآية 187
[10] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج10، ص165