محمد سعيد الحبوبي ( 1849م- 1915م) الفقيه، الشاعر، الشهيد
عرفت حوزة النجف الاشرف منذ تاريخ نشأتها قبل عشرة قرون وحتى يومنا هذا العشرات من العلماء الفطاحل الذين سطروا بمدادهم كنوزا تفخر بها الأجيال.
وقد فرضت ظروف العصر الحديث على بعض علمائها المعاصرين أن يقفوا على رأس طليعة المجتمع في الأزمات المحتدمة وفي الظروف الحالكة مؤكدين عدم انفصالهم عن جسد الأمة التي ينتمون لها ومعزّزين جدارتهم بقيادة الجموع عند الشدائد. وقد كان في شخصية (السيد محمد سعيد الحبوبي) خير مثال لهذه الروح القيادية المتحملة لمسؤولياتها الجسام عند اشتداد الأزمات واستفحالها، ولا سيما عند خلو الساحة (ساحة المواجهة) من قادة ميدانيين مشهود لهم بالشجاعة والكفاءة والمقدرة.
وقد ولد الحبوبي في مدينة النجف الأشرف يوم الرابع من جمادى الآخرة عام 1266هـ/ 1849م، ونشأ في كنف أسرته محبّا للتعلم والمعرفة، ولأن والده كان مزارعا فقد أخذ مبادئ القراءة والكتابة والخط والقرآن الكريم واللغة والنحو والصرف والبلاغة والعلوم الدينية على يد خاله الشاعر الشيخ (عباس الأعسم) وقد دفعته هذه الاهتمامات إلى ميدان الأدب مبكرا، حيث عرف في فترة شبابه الأول بولعه ورغبته في تكوين الحلقات الأدبية التي تصقل المواهب الأدبية والشعرية وتثيرها وتنميها، وقد هذبت هذه الحلقات قريحته الشعرية مبكرا حتى قال الشعر في عمر حسده عليه أقرانه من الشعراء والعلماء الذين جايلوه وعاشوا معه العصر نفسه، وقد أصبح في عقده الثالث من ألمع شعراء النجف إن لم يكن ألمع شعراء العربيّة في عصره.
أما سبب إقباله على العلوم الدينية وعلى الفقه الإسلامي الذي برع فيه عالما لا يشق له غبار فقد ارتبط بقصة يعرفها من دوّن سيرة حياة الحبوبي، إذ إنه حضر مجلسا فقهيا لما كان في العقد الثالث من عمره على يد العلاّمة الخرساني الملقب بالأخوند -رحمه الله- وحين تدخّل الحبوبي ليدلي برأيه في الجدال خاطبه الأخوند قائلا: ما أنت والفقه؟ اسكت لأنك لا تجيد إلا أن تقول: يا غزال الكرخ وواجدي عليك! وهي من غرر قصائد الحبوبي –آنذاك- وقد حزّ ذلك القول في نفس الشاعر الذي آثر على نفسه أن يتقن الفقه ويبرع فيه، وقد تم له ذلك في سنوات معدودة حتى أصبح من علماء النجف ومن فقهائها الذين يشار لهم بالبنان في ظرف زمني محدود!
وبخصوص شعر الحبوبي فقد ذكر النقّاد والمهتمون أن قصائد الحبوبي هي من أجود قصائد الشعر العربي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ أحيا الحبوبي فن الموشحات وأضاف لها روحا عصريا وأجواء رومانسية ورؤى شعرية عضدتها رقة في المفردات وخفة في التراكيب ونغم مبتكر جعلت الحبوبي من أرق شعراء الغزل والنسيب في تلك الفترة.
وبعد دخول القوات الإنجليزية الغازية للعراق مع العام 1914م، حدث تحول آخر في حياة الحبوبي الذي فضّل سوح الجهاد وآثر مرافقة أبناء العشائر العراقية التي هبّت لمواجهة المحتل ولم يكن دوره مقتصرا على إلقاء الخطب الحماسية التي تشد من أزر المقاتلين أو تحثهم على مواصلة الجهاد، وإنما كان له دور قيادي حيث كان في الصفوف الأولى التي تحمل الأسلحة المتواضعة لمواجهة جيش مجهز بالمدافع والعربات الجرارة والسفن الحربية المتطورة، وهناك صور كثيرة تظهر السيد الحبوبي ممتشقا بندقيته القديمة (البرنو) باعتزاز وفخر واستعداد لتقبّل الشهادة التي رزقه إياها الله بعد إصابته البليغة في إحدى معارك الشعيبة بالبصرة، وقد نقل إلى مدينة الناصرية (المدينة التي يتوسطها تمثال شامخ له للآن) لتلقي الاسعافات الأولية، غير أن إصابته البليغة التي أقعدته عن الحركة لأسابيع طويلة كانت سببا في انتقال روحه الطاهرة إلى بارئها في العام1915م، وقد استقبلت النجف جثمانه الطاهر عن بكرة أبيها وأرخ كثير من الشعراء حدث وفاته الذي زلزل النفوس وبغّض إليها الغزاة والمحتلين القادمين من خلف البحار تحدوهم أطماعهم ومآربهم الخبيثة، وقد كانت شهادته في الدفاع عن حياض الوطن هي أعزّ الألقاب التي حازها هذا الفقيه الربّاني والعالم الشاعر والأديب المبدع، كما أثبت ذلك من أرخ له اعتمادا على ما تركه السيد الحبوبي من أقوال ووصايا تناقلتها الألسن وجرت بها الأقلام، كما كانت هذه الشهادة إيذانا لاستمرار مسلسل الرفض والثورة ضد هذا المحتل الطامع، وقد تجسد ذلك الرفض بوضوح من خلال ثورة العشرين المباركة التي حدثت بعد زمن قصير من استشهاده، فزلزلت أقدام الإنجليز وغيّرت الكثير من حساباتهم في التعامل مع العراقيين أصحاب الإرث الحضاري الممتد عبر التاريخ...