الخطاب الحسيني الفعّال

2025-06-28 11:35

بقلم رضي منصور العسيف


في صباح يومٍ لا يشبه سائر الصباحات... يومٍ سُطّرت فيه أنقى معاني الشجاعة وأعلى مراتب الوعي، وقف الحسين بن عليّ (عليه السلام) أمام جموعٍ غفيرة، كأنها السيل، تموج بغرور الدنيا وتضجّ بصخب الغفلة. نظر إليهم نظرة من يقرأ ما وراء الوجوه، ثم وجّه إليهم خطابه الخالد، فقال:

" الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته، وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين" (1).


كان ذلك الخطاب الحسيني، منذ لحظة انطلاقه، يعبُر الحناجر إلى القلوب، ويهزّ الضمائر من سباتها، لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يوقظ النفوس ويدعوها إلى التحوّل... إلى الحياة.


كلمات تُشعل الوعي

الخطاب ليس مجرد ألفاظ تُقال، بل روح تُنفخ في أمة. وقد كان خطاب الحسين (عليه السلام) منذ خروجه من المدينة وحتى لحظات كربلاء، نارًا توقظ، ونورًا يهدي. تفتّحت به العيون التي غشيها غبار الطمع، وتحركت به قلوبٌ كانت ساكنة على عتبات الخوف أو المصالح.

لقد سمعه بعضُ رجال المعسكر الآخر، فتزلزلوا من الداخل، وتهاوَت أمامهم حجج السلاطين، فعادوا إلى ضميرهم، وتحوّلوا من خصوم إلى أنصار، ومن خذلان إلى فداء.

ولهذا... حاول ابن سعد عبثًا أن يُخرس هذا الصوت، فأمر بقرع الطبول، وإثارة الضوضاء، لئلا يسمع الجنود تلك الكلمات النورانية التي كانت تهدم بنيان الظلم من الداخل.


أسرار التأثير في الخطاب الحسيني

إن الخطاب الحسيني لم يكن خطاب لحظة، بل خطاب مشروع ونهضة. وقد تميّز بعدة خصائص جعلته يتجاوز الزمان والمكان:


أولًا: الكاريزما الروحية والحضور المُلهم

لم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) فقط ابن رسول الله، بل كان الحضور الذي يأسر الأرواح قبل الآذان. يقف أمام الآلاف من الأعداء، في ساحةٍ ملأى بالرماح والسيوف، ومع ذلك، يخطب بثبات، وملامحه تفيض يقينًا، وصوته يشقّ صمت التاريخ.

هذه الثقة، وذلك الثبات، هما من أبرز صفات الخطيب الفعّال: أن يتحدث لا وهو يخشى، بل وهو يُشعّ قوة، يحرّك قلوب المستمعين لا بالكلمات فقط، بل بنبض الشخصية واتزانها.


ثانيًا: تشخيص دقيق للداء الاجتماعي

قال الإمام عليه السلام:

 "وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه..."

بهذه العبارة العميقة، لم يكتفِ بوصف الجريمة، بل عرّى جذورها، وأضاء الخلل الأخلاقي والاجتماعي الذي أصاب القوم. إن قدرة الخطيب على تشخيص العلّة، وبيان آثارها، هي مفتاح التغيير. وهذا ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام): واجه المجتمع بأخطائه، لا ليُدين فقط، بل ليوقظ ويدعو إلى الإصلاح.


ثالثًا: خطاب يحمل روح التجديد

عاشوراء ليست مجرد ذكرى... إنها نبض مستمرّ للتجديد. وكل خطاب يرتبط بالإمام الحسين (عليه السلام) يجب أن يحمل هذا البُعد: أن يُعيد إحياء القيم، ويبعث في الأمة روح النهوض.

فالخطاب الحسيني الفعّال هو الذي يعبر القرون، ويجدّد في كل عصر رسالته، بأسلوب معاصر، دون أن يُفرّط في جوهره. هو خطاب يُترجم القيم إلى حركة، ويُحوّل الذكرى إلى مشروع تغيير دائم.


رابعًا: خطاب يصنع الأمل... ويُشعل التحوّل

حين جاء الحر بن يزيد الرياحي، وقد تملّكه الندم، سأله الإمام الحسين (عليه السلام):

"ما اسمك؟"

قال: "الحرّ بن يزيد."

قال الإمام عليه السلام:

"أنت الحرّ كما سمّتك أُمك... أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة."

بهذه العبارة المضيئة، لم يُعنّفه، ولم يُذكّره بخذلانه، بل فتح له نافذة من نور، جعلته يتحوّل من قائد في جيش ابن سعد إلى بطل من أبطال كربلاء.

هكذا هو الخطاب الحسيني: لا يقتل الأمل، بل يغذّيه. لا يعلّق الناس بالماضي، بل يدفعهم إلى مستقبلٍ من النور والعزّة. هو خطابٌ لا يكتفي بالبكاء، بل يُريد من البكاء شرارة تغيير... من الدمعة انطلاقة نحو العمل.


فلنكن على خُطى الحسين... في خطابنا

في كل موسم من مواسم عاشوراء، لنجعل خطابنا امتدادًا لخطاب الإمام الحسين (عليه السلام). لا خطابًا تقليديًا يُعاد ويُكرّر، بل خطابًا ينبض بالحياة، يُوقظ الوعي، يُبشّر بالأمل، ويصنع التغيير.

ليكن خطابنا حسينيًا لا في الذكرى فحسب، بل في الروح، في الهدف، في الرسالة... ليكن خطابًا يُبكي العين، ويُحرّك الضمير، ويصنع إنسانًا جديدًا ينهض من بين الركام، ويقول كما قال الحسين (ع):

"إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي..."

العودة إلى الأعلى