التمهيد للعبادات، جوهرٌ روحيٌّ مكنون (2) (السحور الممهّد لعبادة الصوم أُنموذجًا)
من البديهيّ والملاحَظ أن كلّ تمهيدٍ لعملٍ ما، هو عملٌ سابقٌ له، كما أنه يهيِّئ الجوّ المناسب له. والمتأمّل في العبادات عمومًا يرى أن التمهيد لها يأخذ منها بطرف، فيكون الجذوة التي توقد فيها الحياة، فكما أن النور المشعشع تمهّد له ذرّة ضياءٍ مشتعلة، كذلك العمل الممهّد لكلّ عبادةٍ يحمل جزءا من روحانياتها، ويفتح أبواب القلب على استهلالها والخوض فيها وقطف ثمارها.
وقد أسلفنا في المقالة الماضية أن في التمهيد للعبادة جوهرٌ روحيٌّ مكنونٌ لا تصل العبادة إلى هدفها من دونه، فالصلاة مثلًا لا تصحّ بغير وضوء، وللوضوء شرائطه التي تمتّ إلى الصلاة بصلة، وتشترك معها في الهدف، فلا وضوء بماء متنجّس أو مغصوب، وكذلك الصلاة، لا تصحّ في مكانٍ متنجِّسٍ أو مغصوب، ولا بملابس متنجّسةٍ أو مغصوبة، (ولهذه الأحكام تفاصيل لن نخوض فيها لأنها ليست موضع البحث).
أما الصيام فتمهيده غير المباشر، أي أعمال شهري رجب وشعبان، تفتح أبواب الرحمة والمغفرة، وفيها الكثير مما هو فيه، ولذا فهي تعين على حسن التوجّه في القيام بأعمال هذا الشهر العظيم، الذي فضّله الله على سائر شهور السنة تفضيلا، وكان له دونها منزلةٌ استثنائية، فلئن كان الصيام مستحبًّا في رجب وشعبان، فهو في رمضان واجب، وأما الأدعية والصلوات المستحبة التي ينفرد بها هذان الشهران فهي أيضًا ممهّدةٌ للأدعية والصلوات المستحبة التي ينفرد بها شهر الصيام، وكلّها تصبّ في هدفٍ واحدٍ هو تطهير النفس من أوساخ الغفلة، لتدخل عالم الرحمة الواسعة.
أما السحور، وهو المقصود بهذه المقالة، كتمهيدٍ مباشرٍ لصوم النهار، فهو يتعدّى كونه تمهيدًا، ومع أنه ليس واجبًا كالوضوء للصلاة، إلا أنه قد أخذ نصيبًا كبيرًا من التشجيع عليه والحثّ على عدم تركه، فقد قال النبيّ الأعظم (ص): "السحور بركة"، و"لا تدع أمتي السحور ولو على حشفة"، و" تسحّروا ولو بجرع الماء ألا صلوات الله على المتسحّرين"، و"إن الله تبارك وتعالى وملائكته يصلون على المتسحّرين والمستغفرين بالأسحار، فليتسحّر أحدكم ولو بشربةٍ من ماء"[1]، وغيرها...
إن المتأمّل في هذه الأحاديث يلاحظ الأبعاد المعنوية للسحور، فضلًا عن الأبعاد المادية، فلقد عهدنا الإسلام دينًا يراعي الإنسان بجانبيه الروحي والجسدي، ومن الطبيعيّ أن يكون الصيام، الذي هو عملٌ عباديٌّ يهدف عبر الامتناع عن الطعام والشراب والملذّات الجسدية إلى التطهّر من أدران الذنوب، أن يكون له هذه الأهداف نفسها، عبر استراتيجياتٍ معيّنةٍ توائم العمل الماديّ مع العمل الروحيّ، والسحور بما هو طعام الصائم الذي يتناوله سحرًا، يراعي صحة الإنسان الجسدية لكي لا يتأثّر سلبًا بالجوع والعطش ونقص السوائل في الجسم، كما يراعي صحّته الروحية، إذ يكون بمثابة سببٍ مباشرٍ للاستيقاظ في وقتٍ متأخِّرٍ من الليل، ليأكل الإنسان ويشرب، ثم ليقوم ببعض العبادات المستحبّة، من أدعيةٍ وصلوات، والشاهد ما جاء في الحديث السابق "المتسحّرينوالمستغفرينبالأسحار"، حيث ربط النبي (ص) بين السحور والاستغفار في الأسحار، بحيث جعلهما متلازمين، وهنا مكمن العِبرة، فالبعد المعنوي للتشجيع على السحور والحثّ عليه يتمحور حول هذه النقطة.
هنا نلاحظ أن أدعية السحر المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام يغلب عليها طابع الاستغفار بشكلٍ واضح، كـ"دعاء يا عدّتي"، و"دعاء أبي حمزة الثمالي"، وغيرهما... وكذلك طابع طلب الحوائج وذكر الصفات الإلهية، كـ"دعاء البهاء في السحر" و"دعاء إدريس في السحر" وغيرهما...وكلا الطابعين يرتكزان على تذلّل الإنسان لخالقه، واستشعاره بعظمة ذنبه لقاء رحمته الواسعة، وهنا مكمن رضا الله عزّ وجلّ عن عبده وموطن إجابة الدعاء، فالخالق جلّ وعلا أرحم من أن يرجوه عبده وهو معترفٌ بخطاياه، معظِّمٌ لشعائره ومدركٌ لسعة رحمته، فلا يجيب له دعاءه!
أما نافلة الليل التي يحتاج الحديث في فضائلها إلى بحثٍ مطوّلٍ منفرد، فهي إحدى تلك النشاطات الروحية الراقية التي جعل الله عزّ وجلّ من السحر عمومًا زمنًا لها، ومع أنها ليست مختصة بشهر مضان تحديدًا، إلا أن الاستيقاظ للسحور يعين على المواظبة على أدائها بشكلٍ يوميّ، مما يعوّد المؤمن على هذه العبادة الاستثنائية، ولعله يواظب عليها في سائر الشهور والأيام كذلك.
إن مجرّد انكسار المؤمن في حضرة الباري، ونطقه بالاستغفار مع توجّهٍ وحضور قلب، وطلبه الحوائج بروحية الطامع في ما لدى خالقه من عطايا، لا عن استحقاقٍ منه لذلك، بل عن ثقةٍ بكرمه وجوده، كلها مزايا ترفع من معنويات المؤمن وترتقي بروحياته، ليستقبل يومًا جديدًا من الصيام والامتناع عن المباحات والمحرّمات، تقرّبًا إلى الله بإطاعة أوامره، وتسليمًا إليه في كلّ ما أشار به عليه...
إن السحور بجانبيه الجسدي والروحي، مدرسةٌ سلوكية وعبادية، تمهّد لمدرسة الصيام الكبرى وتأخذ منها بطرف، فأن تجعل لجسمك عليك حقًّا وتعطيه ذاك الحقّ ببضع لقيماتٍ تتقوّى بها على جوع النهار وعطشه، ولا تجحف بحقه وتقسو عليه وتؤذيه، هو بعضٌ من فوائد السحور الجسدية التي تعلن توازن الحكم الشرعي الإسلامي ومراعاته للجانب الماديّ من الإنسان، بخلاف الأديان الأخرى التي تفتقر إلى هذا التوازن. وأن تلتفت إلى حقّ روحك عليك، عبر قيام الليل بالدعاء والصلاة، هو بعضٌ من فوائد السحور الروحية، التي ترفع من شأن الإنسان والعبادة، فلا تجعلها حكرًا على الزاهدين المتفرّغين لها، بل يغدو كلّ إنسانٍ مؤمنٍ قادرًا على التدرّج في سلّم العبادات للوصول إلى رتبة "المستغفرين بالأسحار"...
إن السحور الذي يمهّد للصيام يفتح آفاق الروح على القدرة على الامتناع عن المباحات والمحرّمات، تمامًا كما يمكّن الجسم من احتمال تعب الجوع والعطش، فطعامٌ وشرابٌ قليلٌ إلى جانب دعاء وصلاةٍ مستحبةٍ قد لا تستغرق أكثر من بضع دقائق، هو تعويدٌ للإنسان على الارتقاء من عمل الواجب إلى عمل المستحبّ، وهذه فائدةٌ أخرى قد تتّسع لتشمل حياة الإنسان المؤمن في شهر رمضان وفي غيره من الشهور، فيرتفع المستوى الإيماني للعبد من حيث لا يدري، وهو ما يهدف إليه الإسلام من خلال عباداته الواجبة والمستحبة، التي تهذّب النفس وتطهّرها وترقى بها إلى عليين.
وختامًا، فإن نظرةً عميقةً في عالم الصيام الإسلاميّ بالتحديد، ومقارنته مع الصيام في غيره من الأديان، تجعلنا نفهم حقًّا أي نعمةٍ عظيمةٍ نرتع فيها من حيث لا ندري في هذا الشهر العظيم، وهو بحثٌ مستقلٌّ سنتابعه في المقالة المقبلة إن شاء الله.
[1] الشيخ الصدوق، وسائل الشيعة، ج10، الأحاديث 13059 و 13060 و13062 و13065