الأصول الفكرية القديمة المغذية للاستشراق الحديث
لا تكمن عوائق الاتصال والتواصل بين العالمين الإسلامي والمسيحي بالاختلاف في المنظومة التفكيرية (التوحيد والتثليث) التي تهندس هذه العلاقة وترتب تفاصيلها بين التجاذب والتنافر فحسب، وإنما تتعلق بما لحق المسلمين من حيف طويل نتيجة الظلم الكبير الذي مارسته الكنيسة الموجّهة للسياسات الأوربية قديما وحديثا بحق المسلمين على مستوى التأجيج والتعبئة للحرب ضد المسلمين، وعلى مستوى صناعة الأفكار من خلال الكتابات التي دوّنت في العصور القديمة ضد محمد (نبي الإسلام الكريم) وأتباعه.
الكنيسة واللبنات الأولى لصورة الإسلام
ولما كانت الكنيسة تسيطر على كل مقدرات الأوربيين في العصور القديمة بسبب تخلف الحياة الثقافية والعلمية، فلذلك شجّعت أتباعها من الرهبان والقساوسة منذ بزوغ فجر الإسلام وظهور الدعوة المحمدية في أوائل القرن السابع الميلادي على الكتابة عن هذا الدين الجديد، ولا سيما بعد أن جمع (هرقل) زعيم الدولة البيزنطية المنهزمة الرهبان الجوّالين في بلاد المشرق العربي لتقديم تصور أولي عن محمد العربي وأتباعه البدو الذين استطاعوا في معركة مؤته هزيمة جيش عظيم كجيش الروم المدجج بالأسلحة وبالفرسان المشهود لهم بالقوة وبالصلابة.
وهكذا ظهرت مجموعة من المؤلفات المختلفة الحجوم والأفكار تدور كلها عن الإسلام وصاحبه العظيم وكتابه القرآن، ومن هذه الكتب التي حققت ونشرت أغلبها لاحقا مثلا : ( عقيدة يعقوب 634م) و( كسرة حول الغزوات العربية 636م) و( ترتيلة حول قديسي بابل الصغار 644م) فضلا عما كتبه في القرن اللاحق أي السابع الميلادي الموافق للقرن الأول الهجري كل من (سيبيوس) و(يوحنا الدمشقي) و(استيفيانوس الأسكندري) و(نيقولاس) وغيرهم، لتشكل هذه الكتابات النواة الأولى لما تبنته الكنيسة من أفكار رئيسة عن الإسلام ستظل بمثابة اللبنات الأولى للموقف الاستشراقي الحديث إزاء الإسلام وديانته كما سيتضح لنا في الأسطر القادمة. والغريب في أن هذه الكتب عرفت الظهور في العالم المسيحي القديم كالقسطنطينة وأرمينيا وجورجيا وروما وغيرها قبل أن يظهر كتاب الإسلام نفسه – أي القرآن- مدونا بعد جمعه وكتابته بالترتيب المعروف عليه اليوم.
الأساطير المسيحية عن النبي (ص)
وقد ازدادت هذه الكتابات في القرون اللاحقة مع المحافظة على الطابع العام الذي يجمعها ومع تمحورها على الصور النمطية التي تبخس الإسلام حقه بهدف بخس صورة صاحبه الذي أعلى الله مقامه في كتابه السماوي (القرآن الكريم) وقد أكدت ذلك الكتب السماوية السابقة لظهور الإسلام وأعني (التوراة والإنجيل) ففي كتاب الراهب (نيقولاس) المسمى: الأساطير حول محمد، وهو من المخطوطات التي تعود للقرن الثالث عشر الميلادي (1262م) , وإن كتابته قد تسبق هذا التاريخ، إذ يصرّ (نيقولاس) وهو أحد (الكرادلة) الخدام في الكنيسة الرومانية على أن محمدا زعيم (السرسنيين أي العرب نسبة إلى إحدى زوجات إبراهيم سارة) ليس نبيا مرسلا، وهو في الأصل ناسك مسيحي تحصّل في طفولته على بعض العلامات المهمة التي ستجعله مهما، وقد أعانه قريب له نصراني (ورقة بن نوفل) على معرفة الإنجيل وأسراره التي هيأت له أن يمسّه وحي غريب ليخبر على إثر ذلك زوجته خديجة الغنية التي روجت لأفكاره بين العرب ودعمته ليصل إلى مراده.
ولما كانت المسيحية حتى قبل ظهور الإسلام عبارة عن مجموعة متعددة من الفرق والمذاهب التي تعتنق أفكارا متنوعة وتدين بطقوس مختلفة، فإن القرآن الكريم حدد موقفه من هذه المجاميع بما يتفق والرؤية القائلة بأن السيد المسيح هو بشر مخلوق يوحى إليه، وليس ربّا أو إلها كما كان ترى الطائفة (الملكيّة) التي تمثّل الديانة الرسمية للحكومة البيزنطية القائمة آنذاك ولأتباعها من المسيحيين المنتشرين في مناطق عديدة من العراق وبلاد الشام في القرن السابع الميلادي وما قبله.
بداية الصدام
ولذلك فقد اصطدمت المسيحية (الملكية) بالإسلام واصطدم هو بها أيضا، بسبب تعارض الرؤيتين واختلاف الموقفين على العكس من غالبية النصارى الذين كانوا يقولون ببشرية النبي عيسى عليه السلام، وقد اتخذ هؤلاء من أرض الجزيرة ونجران واليمن مكانا لإقامتهم تحت مسميات عديدة منها (الآريوسية) و(النسطورية) وسواهما، وقد كان من نتيجة هذا الاصطدام رغم أن الإسلام قد ترك هامشا من الحرية واسعا لكي يقول المسيحي (الذمي) ما يشاء شريطة أن لا يسيء للقرآن الكريم ولا للنبي العظيم، فقد ارتسمت في كتابات لاهوتيي المسيحية ممن هم تحت رعاية المسلمين صورا شتى لمعارضة الإسلام وانتقاده، وكان من أشهر هؤلاء (يوحنا الدمشقي) الذي عاش إبان القرن الثامن الميلادي الموافق للقرن الأول الهجري، وتيودور أبي قرة وعبد المسيح الكندي في القرن التاسع الميلادي، والراهب السمعاني في القرن الثالث عشر الميلادي، وغيرهم.
يوحنا الدمشقي والصورة النمطية للاسلام
إذ كان يوحنا الدمشقي المدعوم من بني أمية أول من رسم صورة نمطية للإسلام والمسلمين صارت صورة متداولة عبر القرون اللاحقة عند أغلب المسيحيين مشرقا ومغربا، فهو لا يسمي المسلمين بأسمائهم أو بالمحمديين، بل كان يطلق عليهم لقب غامزا هو: ( الإسماعيليين أو الساراسانيين أو الهاجريين نسبة لزوجات النبي إبراهيم (ع) سارة وهاجر)، وهم أي المسلمين عنده وثنيون يعبدون كوكب الزهرة أو نجمة الصباح الكبيرة، وقد قام بينهم –دون شاهد أو دليل- رجل منهم خبر كتب اليهود والنصارى، فجاء بكتاب من عنده على هديهما، ولو تأملنا كلام يوحنا الدمشقي لأدركنا قيمة التعالي والتكبر والبغض للإسلام ونبيه العظيم الذي يطالبه بشهادة ودليل على صدق دعواه!!
ويبالغ يوحنا الدمشقي في تعميق أبعاد هذه الصورة المشينة والجاهزة متّخذا موضوعا آخر متعلقا بعادات المسلمين وتقاليدهم الاجتماعية، إذ يتخذ من تعدد الزوجات في الإسلام مادة للسخرية واللمز، دون أن يخوض في المبررات التي تدعو المسلم إلى الزواج بأكثر من واحدة في ظروف معينة، ودون أن يناقش حثّ الإسلام على إقرار العدل بين الزوجات، والاكتفاء بواحدة إن خشي الرجل من إحقاق الحق، علما إن ظاهرة تعدد الزيجات ليست مقتصرة على المسلمين، فهي ظاهرة معروفة عند العرب قبل مجيء الإسلام، كما هي ظاهرة معروفة في مجتمعات أخرى قديمة وحديثة ولا ترتبط بالإسلام دون سواه، كما تصورها الأدبيات الاستشراقية الحديثة التي ارتكزت على آراء قالها الدمشقي المغرض قبل أربعة عشر قرنا.
عبد المسيح الكندي والحط من الاسلام
ولا يختلف عبد المسيح الكندي عن صاحبه كثيرا في التشنيع على المسلمين والحط من قيمتهم بين الأمم، فهم –عنده- بدو لا شريعة لهم إلا الغزو والسلب، أما حكمه في الزواج وتعدد الزوجات واستحلال النساء فهو كحكمه في سائر الشهوات الدنيوية التي أقرتها الشريعة الإسلامية، أما عند الكندي فهي شبيهة إلى حد كبير بالغرائز الحيوانية غير القابلة للإشباع، وفي مجادلته للمسلمين كما ينقلها (البيروني) المؤرخ المعروف يسفّه الكندي فريضة الجهاد عند المسلمين عادا إياها وسيلة للسلب والنهب وفرض الإرادة بقوة السيف على الخصوم، ومنكرا مبدأ الشهادة الذي حببه الإسلام إلى أتباعه للذب عن دينهم ومقدساتهم، وذاهبا إلى أن الشهداء الحقيقيين هم شهداء النصرانية وحدهم؛ لا شهداء غيرهم من الملل والطوائف الأخرى.
الكنيسة البيزنطية تفسر هزيمتها
أما الكنيسة البيزنطية فقد كانت تقدم لأتباعها تفسيرا واحدا يبرر هزيمتها أما المسلمين، وكان هذا التفسير يقوم على مبدأ يتمثل بأن أتباع الكنيسة بسبب هرطقتهم ودخولهم في الجدال غير المجدي حول ألوهية المسيح وإتباع تعاليمه كان وراء الهزيمة المدوية أمام المسلمين، فيما فُسّرت هذه الهزيمة على أنها مجرد تطهير ضروري للمسيحيين في العصور الوسطى من أجل غسل الذنوب والمعاصي، ومن أجل ابتداء لحظة جديدة لمواجهة الإسلام وجيوشه والتصدي لهم بكل السبل، إذ لا يمكن بحسب قساوسة هذه الكنيسة أن يخسر البيزنطينيون حروبهم مع بدو همج رعاع أقل منهم حضارة إلا بمشيئة ربانية تريد لهم الخير لاحقا جراء هذه الهزائم المتكررة التي بدأت تقوض ممالكهم الممتدة في بلاد الرافدين وفارس والشام وأنطاكية وشمال أفريقيا.
ولذلك استحق العرب الإسماعيليون رغم انتصاراتهم الساحقة ألوانا من القدح والذم والشتائم المتواصلة التي ستستقر مخزونا لا ينضب من الذاكرة الصورية التي تعاود الظهور على مر السنين، بل وسيعاد تشغيلها عند المستشرقين المعاصرين الذين ادعوا الالتزام بالعلم والموضوعية والتجرد للحقيقة المعرفية الخالصة عند مواجهة الحقائق التاريخية والعقائدية والأنثربولوجية التي تمثل قمة مستويات الصراع بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.
وهكذا فان أغلب المستشرقين المعاصرين لم يستطيعوا أن يكونوا إطارا خاصا بهم في معرفتهم للإسلام وتعاليمه ورسوله الكريم، بل استندت معارفهم إلى الإرث المسيحي – الكنسي القديم الذي لم يقدر على استيعاب حركة الإسلام وتأويلها تأويلا صحيحا يسهل التعامل معه، لا سيما وإنه دين توحيدي سماوي يؤمن بالحوار والتعاون والاحترام المتبادل كما شرعت ذلك نصوصه المقدسة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات المختلفة، وخصوصا الديانات السماوية التوحيدية منها.
د. علي ياسين