إسبانيا المسلمة

2024-02-06 07:38

لم يبق الإسلام في دولة ليست مسلمة كما بقي في إسبانيا - الدولة الأوربية التي ازدهرت وتجاورت فيها الأديان السماوية التوحيدية الثلاث أكثر من غيرها- وهناك من يرى أن الإسلام لم يرحل مع رحيل آخر حكامها من العرب، فالقرون الثمانية التي حكم فيها المسلمون هذا البلد كفيلة أن تثبت الأثر القوي لهذا الدين، في ذاكرة الأجيال التي تلت، وفي أذواقها، وفي أسماء أعلامها، وفي طابع عمرانها، وفي حكاياتها ومخيالها الشعبي العام.

ولعل طبيعة اسبانيا الجغرافية واعتدال مناخها وخصوبة أرضها ووفرة مياهها جعل منها قبلة للغزاة على اختلاف مشاربهم وعلى مرّ العصور فمن الرومان إلى الجرمان ومن الغاليين (الفرنسيين) إلى العرب المسلمين حتى أن الأسبان أنفسهم لديهم طرفة بهذا الخصوص تقول : (في أسبانيا لا يوجد شيء إسباني خالص!) وهذا ما جعل من شبه الجزيرة الإيبيرية (أسبانيا والبرتغال الحاليتين) تختلف عن بقية بلدان أوربا في كون حاضرها يزدري البعد الرأسمالي الذي يهيمن على الأنشطة التجارية في عموم أوربا، وفي كون ماضيها الغابر هو عبارة عن ماض غامض وضبابي ويحتوي على الكثير من الإشكاليات حتى بالنسبة للأسبان أنفسهم...

وقد شكل الدخول الإسلامي إلى إسبانيا منعطفا كبيرا في الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية لهذا البلد البعيد -نسبيا- عن ديار المسلمين، ومع أفول القرن الأول الهجري وفي سنة 92هجري الموافق 711 ميلادي دخل المسلمون شبه الجزيرة الإيبيرية التي كانت بدورها خاضعة للاحتلال القوطي (نسبة للقوطيين) وهم قبائل بربرية وفدت من أوربا الغربية واحتلت اسبانيا متخذة من طليطلة عاصمة لها، وقد استبدت هذه القبائل المتوحشة في حكم أهل اسبانيا ومواطنيها الأصليين وبالغت في ظلم عامة الناس، مما دفعهم إلى الاستنجاد بالمسلمين على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وقد كانت تربطهم بهم علاقات جيرة وتجارة ومصاهرة، وهو ما دفع المسلمين إلى تلبية هذه الدعوة والتحشيد لها انطلاقا من كون الإسلام يدعو إلى نصرة المظلوم وإلى دفع الظلم عنه.

وقد استقبل الأسبان جيوش المسلمين استقبال الفاتحين وكان كثير منهم قد انخرط مع هذه الجيوش لقتال القوطيين، في حين اشتغل البعض منهم كأدلاء وكمساعدين للقيام بشؤون هذا الجيش الذي قاده القائد الأفريقي المسلم (موسى بن نصير) وفتح من خلاله عموم أسبانيا بظرف زمني قياسي هو ثلاث سنين لا أكثر.

وإذا كانت القبائل القوطية البربرية لم تحمل لسكان شبه الجزيرة الإيبيرية سوى الخراب والدمار والقتل؛ فإن الميراث الديني والسياسي الذي حمله العرب المسلمون كان كافيا لالتفاف الناس حولهم ولتأسيس بلاد إسلامية ذات عمران ورخاء على تخوم أوربا هي (بلاد الأندلس)، فالمسلمون وحدهم كانوا هم أصحاب أرقى حضارة فكرية آنذاك، غير أن الخوف الذي دبّ في أوصال أوربا من هذا القادم الجديد (الإسلام) دعا الشعوب القريبة من أسبانيا وخصوصا الفرنسية والجرمانيّة إلى مراجعة حساباتها ونسيان خلافاتها ومحاولة بعث المسيحية كدين قادر على مواجهة هذا الدين الجديد، وهنا وجد المسلمون أنفسهم في مواجهة طويلة استمرت لقرون طويلة قللت –بالنتيجة- من قدرتهم على النهوض بمهمة التبشير للمناطق الأخرى التي لم تخضع لسيطرتهم داخل شبه الجزيرة الإيبيرية.

وبعد انكسار المسلمين وزوال سلطتهم السياسية في العام 1492م تقريبا بقي في أسبانيا مئات الآلاف ممن كانوا يدينون بالديانة الإسلامية من الأسبان الأصليين ومن العرب المسلمين الذين أصبحوا رعايا للملك فيليب الذي آثر إبقاءهم للإفادة منهم في أغراض الخدمة والبناء والتعليم والترجمة والحرب وسوى ذلك من أمور أخرى، وقد أطلق على هؤلاء المسلمين الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم الإسلامية لقب المورو أو (الموريسكيون) الذين كان لهم تأثيرهم الواضح في أسبانيا منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا.

ففي أسبانيا اليوم الآلاف من الألفاظ والمصطلحات العربية الحيّة، كما أن الأدب الأسباني استلهم المصادر العربية التي يتضح استلهامها في (قواعد الكهنوت) الذي كان عبارة عن حكايات وعظية ذات أصول (موريسيكية- عربية) ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي. كما أن قواعد التصوف والزهد التي وضعها القس الأسباني (سان خوان دي لاكروث) لا يمكن فهمها بعيدا عن مؤثراتها المورسيكية حيث كان التصوف والزهد عبارة عن سلوكيات أخلاقية ودينية يمارسها العرب القشتاليون.

وبالرغم من هزيمة المسلمين في أسبانيا آخر الأمر إلا أن أعداءهم من الأسبان أذعنوا بتفوقهم في مجالات عديدة أهمها المجال العقلي والإحاطة من خلاله بالعلوم الطبيعية الممكنة، ومن أسبانيا تمت ترجمة أول الكتب العربية العقلانية والفلسفية التي خلفها المسلمون هناك ثم نقلت إلى عموم أوربا.

وحينما دخل هؤلاء الأعداء مدينة (أشبيلية) التي لا تزال عمائرها الإسلامية قائمة حتى يومنا هذا؛ فإن الجنود الشماليين من الأسبان المنتصرين لم يقدروا على إخفاء إعجابهم بعظمة المدينة التي دخلوها حيث لم يكن لديهم عمران وقصور وأبنية بهذه الروعة والرفعة، وبكل هذا الرخاء الاقتصادي والمدني الذي توحي به هذه العمائر الإسلامية الطابع والمهيبة والمحاطة بغابات من الورود والأزاهير.

إن من بقي من رعايا المسلمين في أسبانيا ، أي المورو، الذين ذهب غالبيتهم نتيجة للتصفية الجسدية لرفضهم اعتناق غير الإسلام دينا بينما راح البعض الآخر يخفي إسلامه متظاهرا بالارتداد عن الإسلام ودخول المسيحية، في حين أسهم –تحت تهديد السلاح- من بقي منهم حيا في تشييد العديد من الأبنية والقصور الملكية التي ظلت شواهد على عظمة العقلية الإسلامية التي أبدعتها حتى يومنا هذا، أما المسلمون الأسبان الذين طردوا من أسبانيا فقد أحدثوا عند عامة الشعب الأسباني –آنذاك- لغطا كثيرا واحتجاجا واسعا ضد الملك فيليب الثالث لما تركه إبعادهم القسري من أثر سيء على الحياة الزراعية والاقتصادية والتجارية، وكما تتكلم المصادر الأسبانية فإن الأرض بعدهم عادت بوارا وأن حقول الفواكه أهملت وتيبّست وأن صناعة النسيج والبناء كسدت وفقدت بريقها العربي الإسلامي القديم.

(ناصر الخزاعي)

  

 



العودة إلى الأعلى