عبد الله ابراهيم (1957-....) تجاذبات المركز والأطراف!

2024-01-29 08:02

ظل العقل النقدي العراقي منذ انبثاق مشاعل النهضة الفكريّة مطلع القرن الماضي وحتى يومنا هذا عقلا فاعلا ومؤثرا في جسد الثقافة العربية من خلال مجموعة طروحاته التي لامست الواقع بإشكالياته ومداخله المتعددة، وقد تكثفت جهود هذا العقل منذ منتصف القرن الماضي- أي بعد جيل الروّاد- لتنتج في العقدين الثمانيني والتسعيني جيلا جديدا من النقاد والمفكرين الخارجين من متاهات الحروب والحصار والدكتاتوريّة والباحثين عن الأحلام وعن إجاباتٍ مقنعة لبعض الاسئلة الحارقة والمحيّرة بغية الوصول إلى اعادة صياغة الواقع وتشكيله من خلال نوافذ عديدة جديدة، منها: محاولة تفكيك العلاقة مع الآخر الغربي، والموقف من الموروث وطريقة النظر إلى الذات وإلى المستقبل وسوى ذلك من أمو أخرى .

ويقف عبد الله إبراهيم المولود عام 1957م بإحدى القرى التابعة  لمدينة كركوك المعروفة بالتآخي والتآلف بين قومياتها وعرقيّاتها ودياناتها المتنوعة في العام 1999 على قائمة النقّاد والمفكرين الجدد الذين قدموا قراءاتهم وتصوراتهم المعرفية الجديدة والمغايرة لإشكاليات الواقع الثقافي والتباساته العديدة. 

بدأ عبد الله إبراهيم كاتبا للقصة في أول ظهور ثقافي له، وذلك من خلال مجموعته القصصية المسماة( رمال الليل عام1988) وقد قاده عشقه لعالم القص إلى استكناه البعد المعرفي للسرد العربي واستنطاق عوالمه الرحبة والغامضة إلى درجة تحوّل ذلك العشق بمرور الأيّام إلى مشروع فكري أخلص له إبراهيم فأثمر قرابة العشرين كتابا متميّزا في الدراسات السردية يقف في مقدمتها أطروحته للدكتوراه من جامعة بغداد عام 1991م والموسومة (السردية العربية، بحث عن البنية السردية للموروث الحكائي العربي، ثم تلا ذلك دراساته العديدة كالمركزية الاسلامية والمطابقة والاختلاف والثقافة العربية والمرجعيات المستعارة وسوى ذلك من دراسات وبحوث اخرى.

 وقد مرّ هذا المشروع  بطورين رئيسين:  أولهما تعامل من خلاله الناقد المفكّر مع السرد على أنّه وسيلة أدبية مخصوصة بالكتابة الفنيّة فقط، ويظهر ذلك جليا في كتاباته ودراساته الأولى، وثانيهما يرتقي فيه إبراهيم بمفهوم السرد من خلال ربطه بـ (المركزيات الثقافية) لينفتح بذلك على دلالات جديدة اشتملت على المرويات الدينية، والتاريخية، وكافة السرديات الحاضنة لفكرة الهوية، والحداثة، والأعراق، والأقليات، ومجمل التخيلات التي ترسمها المجتمعات لنفسها بنفسها ولغيرها.

ولما كان العالم عبارة عن مركز بمقابل اطراف، وصورة العالم هذه لم تكن إلا هيأة خضعت لتراتبية أنتجها الفكر البشري عبر السنين، لذا فإن المركز والأطراف متتابعان ومتلازمان وراء مساحة واسعة من الصراع حيث لولا المراكز لما ظهرت الأطراف، فضلا عن أن المركز هو عامل محفّز أحيانا على خلق الإبداع ومحاولات الرقي والتطلّع للأفضل عند الهامش من خلال المنافسة ومحاولة استعادة أدوار الغلَبَة والاستقواء والهيمنة ، ومن هنا يركز عبد الله ابراهيم في دراساته المذكورة على محاولة إعادة النظر في هذه التراتبية ومحاولة تعرية الأدوار التابعة لها من خلال تقديمه مفهوما للتمركز يقوم على صورة مزدوجة للأنا والأخر ترتسم فيها ملامح التعالي/الانتقاص، أي أن صورة الأنا تتسم بالنقاء المطلق والأفضلية والقوة بينما تظهر صورة الاخر مقرونة بالانتقاص والجهل والدونية، وبذلك سيكون التمركز ما هو إلا نمط من التفكير المترفع المنغلق على الذات حيث لا تبدو الأشياء لهذا النمط إلا بالمرور من خلال مفاهيمه ومقولاته ورؤاه التي قد تأخذ مسميات العقلانية والإنسانية والتقدم لمواجهة حضارة الآخر الذي يعدّه متخلفا ولا إنساني!  

وبخصوص بحوثه المتعلقة بمسائل الهوية والعلاقة الثقافية مع الاخر والعلاقة بالتراث فإن عبد الله إبراهيم يرى أن هذه العلاقة حتى داخل إطار ثقافتنا العربية المشتركة لم تأخذ شكل الحوار والتفاعل وإنما امتثلت لطرف واحد هو إما الإقصاء والاستبعاد او الاستحواذ السلبي والاستئثار في معادلة المثاقفة مما أدى إلى نتيجة خطيرة وهي: أن الثقافة العربية الحديثة أصبحت ثقافة مطابقة لا ثقافة اختلاف، فهي إما مهتدية بـ(مرجعيات ثقافية) متصلة بظروف تاريخية مختلفة عن ظروفها، أفرزتها منظومات حضارية لها شروطها الخاصة، وإما متطابقة مع مرجعيات ذاتية تجريدية متصلة بنموذج فكري قديم أدى إلى علاقة ملتبسة يشوبها الإغواء الأيديولوجي مع الآخر ومع الماضي.

ويطرح عبد الله إبراهيم المفكّر والناقد اقتراحا للخروج من هذه الإشكالية أو الأزمة التي قد تطيح بمرتكزات هذه الثقافة التي تعيش عصرا مخيفا وهجمة شرسة كشرت عن أنيابها من خلال دعوات العولمة والترويج للنموذج الثقافي الغربي الذي ليس من الضرورة ان يصلح لكل المجتمعات البشرية، أما هذا المقترح فيتمثّل بسلاح النقد والعمل على تقبله وإشاعته كمبدأ ضروري في نسغ الحياة الثقافية للمجتمعات لا سيما وان النقد قادر بما يمتلك من مستلزمات على فضح المضمرات الكامنة في كل ثقافة متمركزة مثلما هو قادر على التهيئة والاعداد لهوية ثقافية جديدة متحولة تؤمن بالاختلاف والتعددية والانفتاح على كل ثقافات الأطراف المقصاة والمهمّشةّ!

بقلم: الدكتور علي ياسين 


العودة إلى الأعلى