" أم اللغات ولغة القرآن الكريم، بين الماضي والحاضر والمستقبل" (1)

تمهيد: ليس هذا عزيزي القارئ بحثا لغويًّا، ولا مقالًا تخصّصيًّا يزخر بالألفاظ البلاغية والمصطلحات النحوية، بل هو رؤيةٌ وتحليلٌ لحقيقةٍ إنسانيةٍ رفيعة المستوى، ومحاولة لرصد معالم الثراء والاستثناء في اللغة العربية الشريفة، التي اختصها الباري تعالى بما لم يختص به أي لغةٍ أخرى، فحقّ لنا أن نطرح الأسئلة وأن نحاول الإجابة عليها، بما يقنع القارئ ويثري فكره ويغني فؤاده، فنكون السائل والمجيب في آنٍ معًا.

 

وبما أن الموضوع واسع ومتشعّب وذو جوانب متعددة، فإننا سنقوم ببحثه على مراحل، عبر سلسلة مقالاتٍ نحاول من خلالها استيفاء المقصود، والله هو الموفق.

لماذا العربية؟

سؤالٌ وجيهٌ يتبادر للأذهان، أن؛ لماذا اختار الخالق اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم، الكتاب السماوي الأخير الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، ودستور حياة الإنسان المتكامل الذي حفظه الله من التحريف والتحوير، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]؟

ومع يقيننا بأن الخالق عز وجل لا يختار لعباده إلا الأفضل والأرقى والأمثل، فإننا نحاول من خلال هذا السؤال أن نرصد أفضلية اللغة العربية على سائر اللغات الإنسانية، لا من قبيل التحيّز للقومية العربية والعرق العربي، فقد نهانا الله ورسوله عن التفاضل والتمايز إلا من خلال التقوى؛ "إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد كلكم لادم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[1]، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]

 إن ما نحاول رصده من أفضلية العربية هو من قبيل استكشاف مواطن القوة والتميز التي رفعت من شأن هذه اللغة العظيمة، حتى كانت لسان القرآن الناطق، ولسان النبي والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولسان الصلاة والدعاء... إلى آخر ما هنالك من جوانب ترتكز عليها وتتميز بها، في إطار دين الإسلام خاتم الأديان والشرائع وأكملها وأتمها.

لا بد لنا للإجابة على هذا السؤال من أن نبدأ بالمنبع الأساس لكل إجابة، إنه كلام الله عزّ وجل، كما جاء في الذكر الحكيم، وكما وصف به جل شأنه اللغة العربية في محكم آياته، فالقرآن الكريم يؤكد على عربيّة لغته في آيات عديدة، منها قوله تعالى:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]

﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: 7]

﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر: 28]

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾ [الشعراء: 192-195]

﴿وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ﴾ [الأحقاف: 12]

﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103]

حيث يُبَيّنُ عز وجل أن لغة القرآن هي اللغة العربية الواضحة والدقيقة، التي نزل بها على قلب نبيه ليتمكن الناس من فهمها...

لعل فهمنا القاصر لن يتمكن من إدراك الغاية لهذا الاختيار الإلهي، لولا أننا نستعين بذكر الله نفسه، وبما ورد عن النبي وأهل بيته الكرام، في هذا الشأن، كما نستعين بالتفسير المبين للآيات السابقة، ونحاول أن نستدرك ما خفي علينا بالمقارنة والتحقيق والتحليل، للوصول إلى الجواب الشافي.

وفي صدد الإجابة عن سؤال: لماذا نزل القرآن بالعربية؟

فإن ما يحضرنا، على سبيل المثال لا الحصر، وما خفي عنا من حكمة الباري أعظم، أن التوازن بين الدواعي اللغوية النظرية والواقع التاريخي والبيان الإلهي، يجعلنا نقترح الإجابات الآتية:

1.    لأن النبي (صلى الله عليه وآله) عربي وأمّته عربية، واللغة العربية هي الأمثل للتعبير ولفتح الحجة عليهم.

ومصداق ذلك قول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم﴾ (سورة إبراهيم، الآية 4)

2.    لأن العربية أوسع اللغات وأفصحها، وتتميز بكثرة المفردات، واشتقاق الكلمات، ووفرة قواعدها، وفصاحتها، وبلاغتها...

﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ

3.    القرآن نزل بالعربية لكنه معهود للتفهّم بكل لغة

الخلاصة

·       اللغة العربية اختيرت لهذا المقام لكونها لغة النبي ﷺ وقومه، وأيضًا لبلاغتها الواسعة.

·       المقصد الإلهي عام لكل البشريّة، وقد جعل الله القرآن مفهومًا في سائر اللغات، رغم أنه نزل باللغة العربية كنواة أساسية للإبلاغ والحجاج.

·       اللغة العربية كانت الوسيلة المثلى في الواقع التاريخي، وكذلك الأنسب من الناحية التعبيرية والدقة البلاغية.

إنه من المتعذر على كل حال، الإحاطة بكل الأسباب التي أدت إلى هذا الاختيار الإلهي، فما خفي عن أذهاننا القاصرة أكثر مما نعلمه، وقد كتب الله على عباده أن لا يحيطوا من علمه إلا بما شاء، ومن هنا فإننا نكتشف في كل حين ومع تقدم العلوم والمعارف، أسبابًا جديدة للاختيارات الإلهية للبشر، وتبقى أسرار اللغة العربية، لغة القرآن المختارة، ولغة أهل الجنة كما ورد في الأحاديث الشريفة، تنتظر من يكشف كل يومٍ عن جديدها...

ولعلنا نحاول في المقالات اللاحقة أن نقوم برصد بعض معالم القوة والتميز والفرادة في هذه اللغة العظيمة، نظريًّا وعمليًّا، وكما أثبتت لنا الوقائع والأحداث عبر التاريخ.


[1]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٣ - الصفحة ٣٥٠


العودة إلى الأعلى