التعددية الدينية بين ضرورة التعايش وخطر الإبادة
تنوع المعتقدات والأفكار في المجتمع والتأكيد على احترامها يعطي للأفراد حرية في التعبير عن آرائهم وما يقتنعون به، هذا التنوع يعكس قبول الاختلاف الديني والمذهبي والفكري دون إكراه أو تمييز وكل هذا ينضوي تحت ما يسمى بالتعددية الدينية والفكرية.
في التحقيق التالي تتعرض (وكالة كربلاء الآن) الى اهم المعرقلات التي تعيق هذه التعددية والخطوات التي تعزز الحوار الديني والفكري بين الاديان ودور الخطاب الديني في خلق بيئة اجتماعية خالية من العنصرية والتطرف.
وبصدد هذه الإشكاليات والخطوات العملية لتعزيز التفاهم المشترك بين الأديان والمذاهب يتحدث الاستاذ الدكتور أحمد الصفار التدريسي في جامعة مانشستر في بريطانيا قائلا ان "تعزيز التفاهم ليس مجرد أمل بل يتطلب وضع منهج متكامل يجمع بين الحوار، التعليم، الإعلام، والتعاون المجتمعي وتحقيق ذلك يحتاج إلى جهود استثنائية وتضافر المساعي من مختلف الجهات..
وفيما يلي أهم الخطوات العملية لتحقيق هذا الهدف:
1- تعزيز الحوار الديني والفكري عبر:
• إنشاء منصات حوار ديني مشترك تجمع ممثلي الأديان والمذاهب المختلفة.
• تنظيم مؤتمرات ولقاءات دورية تجمع قادة الأديان لمناقشة القضايا المشتركة.
• تأسيس مجالس حوار ديني على المستويات المحلية والعالمية لتقريب وجهات النظر.
• نشر وثائق تفاهم مشتركة تؤكد على القيم الإنسانية الجامعة.
• تشجيع الحوار المباشر بين الأفراد، إذ إن رؤية القادة الدينيين وهم يلتقون ويتحاورون ويؤكدون على ضرورة تجنب إثارة الخلافات ستساعد في بناء علاقات قائمة على الثقة والانسجام المجتمعي.
2- تطوير المناهج التعليمية لتعزيز التسامح من خلال
إدخال مفاهيم التعددية الدينية في المناهج الدراسية، فالقرآن الكريم يحتوي على العديد من الآيات التي تحث على التسامح وقبول الآخر.
تدريب المعلمين على كيفية تقديم مفاهيم التعددية الدينية بأسلوب علمي ومتوازن، بعيدا عن التهكم أو التعصب، لضمان إيصال الفكرة بشكل صحيح.
دعم المبادرات التعليمية التي تشجع على فهم الأديان المختلفة وتعزز التعايش المشترك.
3- استخدام الإعلام كأداة لتعزيز التفاهم بواسطة:
إنتاج محتوى إعلامي يعزز قيم التسامح والتعايش.
إنشاء برامج حوارية وثقافية تسلط الضوء على القيم المشتركة بين الأديان.
دعم الدراما والأفلام التي تعرض نماذج ناجحة للتعايش الديني عبر التاريخ، ولدينا في سيرة الأنبياء والأئمة الأطهار العديد من المواقف التي يمكن توظيفها في هذا السياق.
محاربة خطاب الكراهية في وسائل الإعلام من خلال وضع ضوابط قانونية تمنع نشر التطرف والتحريض ضد الأديان والمذاهب.
تفعيل مبادرات إعلامية تهدف إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الأديان المختلفة.
4- تعزيز العمل المشترك بين أتباع المذاهب والأديان
إطلاق مبادرات مجتمعية مشتركة بين مختلف الأديان والمذاهب.
تعزيز التعاون في القضايا الإنسانية، مثل حملات الإغاثة والمشاريع التنموية التي تجمع أفراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
5- وضع قوانين وتشريعات تحمي التعددية الدينية ويكون ذلك:
بتفعيل قوانين مناهضة التمييز الديني، بحيث تكون هناك حماية قانونية لكل الأفراد بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم.
وإشراك الجميع في الحياة السياسية والاجتماعية على أسس المساواة، دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الثقافة.
6- تشجيع الدراسات والبحوث حول التفاهم الديني من خلال:
دعم الأبحاث الأكاديمية حول القيم المشتركة بين الأديان.
إنشاء مراكز بحثية متخصصة في تعزيز الحوار والتعايش الديني.
تحليل أسباب التوترات الدينية والعمل على معالجتها عبر دراسة العوامل التاريخية والسياسية المؤدية إلى النزاعات الدينية، وتقديم توصيات للحد من الصراعات وتعزيز السلم المجتمعي.
العولمة والانفتاح الثقافي يساهمان في زيادة التفاعل بين الشعوب وتعزيز التفاهم المتبادل
ويرى الدكتور الصفار ان "مستقبل التعددية الدينية والفكرية في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية تواجه تحديات وفرصا متجددة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم فمع تطور التكنولوجيا والعولمة فضلا عن تغير موازين القوى يمكن أن تتأثر التعددية إما إيجابيا عبر تعزيز الحوار والتعايش أو سلبيا من خلال تصاعد التطرف والانقسامات".
ويضيف ان "مستقبل التعددية يعتمد على سياسات الدول والمجتمعات في إدارتها فالدول التي تتبنى سياسات الدمج والتسامح ستظل التعددية فيها قوة إيجابية تدفع نحو التطور الثقافي والاجتماعي أما المجتمعات التي تشهد تصاعد الخطابات الإقصائية فقد تتعرض التعددية فيها للتهديد والتراجع مما يؤدي إلى مزيد من الانقسامات والصراعات ومع استمرار التطور التكنولوجي والتواصل العالمي، تبقى هناك فرص كبيرة لتعزيز التعددية عبر الحوار والتعاون الدولي".
ويبين ان "التحديات التي تواجه التعددية تتمثل بتصاعد التيارات المتشددة سواء كانت دينية أو سياسية إذ تؤدي هذه التيارات إلى تقويض القيم التعددية والتسامح ،والاستغلال السياسي للتعددية حيث تستخدم بعض الأنظمة التعددية كأداة لتحقيق مكاسب سياسية أو إقصاء فئات معينة، و التضليل الإعلامي وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي إذ قد تؤدي المعلومات المضللة إلى تأجيج الكراهية بين الجماعات المختلفة، اضافة الى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى الهجرة مما يثير التوترات بين الجماعات المختلفة داخل المجتمعات المتعددة، كما هو الحال في بعض الدول الأوروبية والغربية بشكل عام".
ويوضح ان "الفرص المتاحة لتعزيز التعددية هي العولمة والانفتاح الثقافي حيث تسهم في زيادة التفاعل بين الشعوب وتعزيز التفاهم المتبادل، والتكنولوجيا والتعليم اللذان يمكن أن يسهما في نشر الوعي بقيم التسامح وقبول الآخر والتواصل الدولي والتعاون بين المجتمعات مما يسهم في تعزيز الحوار والتعددية الفكرية والدينية".
كيف نعزز الحوار بين الأديان؟
وعن كيفية نشر ثقافة الحوار يقول الناشط الأيزيدي ومسؤول فريق مجلس شباب الاقليات العراقي سفيان حجي سلو "يمكن تحقيق ذلك من خلال تضافر جهود جميع الفاعلين في المجتمع المدني والحكومي مما يتيح بناء مجتمع يسوده الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل بين أبناء المكونات المختلفة في المنطقة ويتم ذلك عبر متابعة النتائج والخطط والجهود المبذولة بالإضافة إلى المشاركات والفعاليات التي تقام على مختلف الأصعدة والتي تعزز الحوار والانفتاح على الاخر".
ويتابع حديثه ان "المشاركات لابد ان تتناول القضايا ذات الاهتمام المشترك في تعزيز لغة الحوار والتفاهم المتبادل كما تلعب المنظمات الحكومية وغير الحكومية دورا رئيسا في هذا المجال من خلال نشر ثقافة الحوار والتسامح عبر إقامة ورش العمل والندوات وتضمين قيم التسامح في المناهج الدراسية ويجب إشراك جميع الفئات الفاعلة في المجتمع مثل المفكرين والأكاديميين والناشطين لضمان تعزيز ثقافة الحوار وقبول الآخر".
ويسترسل في حديثه عن وسائل الإعلام وتأثيرها على التعددية قائلا "تلعب وسائل الإعلام ومنصات التواصل دورا مهما في تشكيل الوعي الاجتماعي بالتعددية لكنها قد تحمل آثارا سلبية أيضا فمن الضروري التحقق من صحة المعلومات المتداولة والتوعية حول الرسائل التي ننقلها لضمان تأثيرها الإيجابي فيما يجب تعزيز لغة الحوار والنقاش وتشجيع التفكير النقدي وكسر الصور النمطية التي تعيق التفاهم المتبادل كما أن تسليط الضوء على قصص النجاح من مختلف فئات المجتمع والتركيز على الخطابات المؤثرة التي تسهم في بناء السلام وتعزيز التعايش السلمي".
النزاعات السياسية تسعى لزرع العداوات بين الشعوب حتى لا تتوحد وتصبح قوة
عقبات يتطلب تجاوزها
ولمعرفة العقبات الأخرى التي تعيق التعايش الديني والفكري وكيفية تجاوزها، يرى الشيخ كامل الفهداوي الناطق الرسمي بأسم مجلس الرباط المحمدي ان "التعصب سواء كان دينيا أو فكريا هو أول هذه العقبات، مضيفاً ان "التعصب هو انغلاق فكري لا يقبل الآخر ولا يفسر الأمور إلا وفق ما يريده المتعصب وما يعتقده وهذا التعصب هو الذي حاربه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى جاء في كتاب الله مستنكرا "هذا ما وجدنا عليه آباءنا" حيث كانوا يتعصبون لمعتقدات آبائهم دون تفكير".
ويتابع ان "الأمر الآخر هو غياب الحوار فكلما كان الحوار مفتوحا مع الآخر المختلف كانت هناك فرصة أكبر للتعايش والتعاون والله (عزّ وجلّ) فتح باب الحوار مع الجميع ولذلك نجد في قصة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام حوارا مع أقوامهم فعندما يقرأ اليهود القرآن يجدون أن لهم مساحة فيه إذ مدح أنبياءهم وأممهم في مواضع قال تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"، وهذا تأكيد على أهمية الحوار لتعزيز التعايش".
ويواصل الشيخ الفهداوي قوله "ان اهم العقبات أيضا الجهل بالآخر، حيث يعيش الناس في مجتمع واحد بمذاهب مختلفة لكنهم لا يعرفون عن بعضهم إلا ما كتب عنهم وغالبا ما يكون مشوها لذا نحن بحاجة إلى قراءة ما يكتبه الآخرون عن أنفسهم لا ما يكتب عنهم من قبل غيرهم كما أن الجهل بحقيقة الدين ذاته يعد حاجزا كبيرا، فالإسلام دين عالمي وليس دينا خاصا بأمة أو مذهب معين الله عز وجل هو "رب العالمين" ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم هو "رحمة للعالمين" وليس لمذهب أو قومية دون غيرها ومن العقبات الكبرى أيضا التأثيرات السياسية التي تسعى لزرع العداوات بين الشعوب حتى لا تتوحد وتصبح قوة وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم اليوم في نشر العداوة وتعزيز الانقسامات".
ويؤكد "اننا بحاجة إلى تجاوز كل هذه العقبات، والعودة إلى وحدة الأمة التي أرادها الله عز وجل كما قال: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس" وقال تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" علينا العودة إلى المحمدية البيضاء التي أرادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وترك الخلافات لأن ديننا هو دين عالمي قال تعالى: "إنا أرسلناك كافةً للناس بشيرا ونذيرا".
وعن دور الخطاب الديني والسياسي في تعزيز وعرقلة التعايش بين الاديان يقول الناطق الرسمي بأسم مجلس الرباط المحمدي "انه يعد أداة قوية لتعزيز السلام والاستقرار لكنه قد يكون أيضا مصدرا للتوتر والانقسام فالخطاب الديني يمكن أن يعزز قيم التسامح والاحترام المتبادل بين الأديان والثقافات المختلفة حيث تحتوي العديد من النصوص الدينية على تعاليم تدعو إلى السلام والتعايش وديننا الإسلام هو دين السلام قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)وهذا فتح لباب التواصل مع الآخرين".
ويكمل حديثه "يمكن للحوار الديني أن يساهم في تعزيز التعايش خاصة في المجتمعات المتعددة الأديان والمذاهب كما نرى في المؤتمرات والندوات التي تعقد في العراق وغيرها فمن الضروري محاربة الأصوات المتطرفة من خلال تقديم الطرح الحقيقي لمعالم الإسلام المحمدي التي تقوم على الرحمة والسلام والعلم والحضارة".
ويلفت الفهداوي "ضرورة تبني مبدأ المواطنة وإقرار التشريعات التي تحفظ حقوق الأقليات يعزز التعايش كما أن تشجيع الحوار الوطني بين مختلف الفئات الدينية والسياسية تحت قبة البرلمان يسهم في خلق بيئة مستقرة وبالمقابل هناك عوامل تعرقل التعايش مثل الاستقطاب السياسي الذي يقسم المجتمع إلى معسكرات متناحرة والخطاب العنصري والطائفي الذي يعمق الانقسامات فضلا عن تهميش حقوق الأقليات مما يضعف نسيج المجتمع".
ويختم الفهداوي حديثه قائلا ان "الخلاصة التي اود قولها تركز على ان التفاعل بين الخطاب الديني والسياسي له تأثير كبير إما في استقرار المجتمع أو في إبعاده عن التعايش فالمجتمعات المستقرة هي التي تمتلك خطابا دينيا متوازنا وخطابا سياسيا يعزز الوحدة مما يؤدي إلى بناء مجتمع آمن ومطمئن".
هل التعددية الدينية عامل قوة ام مصدر خلاف؟
يجيب على هذا التساؤل الدكتور الاب المسيحي فارس نمس النائب القضائي من محافظة نينوى بالقول "ذلك يتوقف على كيفية تعامل المجتمعات معها فعندما يسود الاحترام المتبادل والتفاهم بين الأديان تصبح التعددية قوة تدفع نحو التعايش السلمي وتعزز التنوع الثقافي والفكري، مما يسهم في بناء مجتمعات متماسكة ومتقدمة. فالتقدير المتبادل بين الأفراد المختلفين دينيا يعكس روح المحبة والاحترام، وهو ما يساعد على تجاوز الخلافات وتحقيق الانسجام والاجتماع".
ويستدرك قائلاً "لكن عندما تغيب هذه القيم، وتظهر التعصب والتفرقة، تتحول التعددية إلى مصدر خلاف وصراع يؤدي إلى تفكك المجتمعات وانتشار الكراهية. فالبعض قد يستغل الاختلافات الدينية لتعزيز النفوذ أو الهيمنة، مما يخلق بيئة مليئة بالتوتر والانقسام".
ويلفت الدكتور فارس نمس الى ان "تحقيق التوازن بين التعددية والوحدة يتطلب تعزيز القيم الدينية التي تدعو إلى التسامح والمحبة، وتشجيع الحوار البناء بين الأديان، إضافةً إلى التعامل مع الجميع باحترام وعدل فالتعددية الدينية يمكن أن تكون نعمة إذا استُثمرت في بناء علاقات قائمة على الاحترام والمودة، لكنها قد تتحول إلى نقمة إن استُخدمت لإشعال الفتن والخلافات".