وثائق النهضة الحسينية .. الجزء الأول .. عين على التاريخ ورصد الانحراف
المتتبع لأجزاء هذه الموسوعة الضخمة ــ دائرة المعارف الحسينية ــ وتنوع المعارف والعلوم التي احتوتها، وسعة الجوانب والثقافة فيها، وعمق الطرح في بحوثها، وأهمية المادة التاريخية والفقهية والفكرية والأدبية والعقائدية التي ضمتها، يدرك الجهد الكبير والكفاح المرير الذي بذله مؤلفها حتى استطاع أن ينجز هذا العدد من أجزاء موسوعته.
في هذا الجزء الذي يدور في محور موسوعة دائرة المعارف الحسينية وهو الجزء الأول من (وثائق النهضة الحسينية) يواصل الشيخ العلامة الأستاذ محمد صادق الكرباسي رسم الأحداث وتوثيقها بعناية ويتحكم في السرد المتتابع لها بدقة كما يتحكم الفنان بإزميله في النحت.
في تعريف (الوثيقة) يمهد الحديث للدخول في أبواب (النهضة) فيعرِّفها لغة واصطلاحا ثم يبين أهمية الوثائق التاريخية التي أوردها في كتابه لأنها: (تحتوي على ما يتعلق بالسياسة والاجتماع والحرب والسلم إلى غيرها من مناحي الحياة البينية سواء بين الأشخاص أو المجتمعات)، فالوثيقة يجب أن: (تكون معتبرة وإلا لم تكن وثيقة) بل: (لا يصح تسميتها بالوثيقة) لذا فهو يحرص على توخي الدقة في جمع الوثائق وتقديمها لأن: (الاعتماد على ما هو باطل لا يؤدي إلى الحقيقة المتوخّاة من جمع هذه الوثائق) التي تخصّ: (نهضة محمدية علوية حسنية حسينية كانت وستبقى مدرسة للأجيال القادمة)
في كلام الكرباسي هذا يُلاحَظ لغة حركية إشارية استطاعت أن تأخذ القارئ إلى عقود من الزمن سبقت النهضة، وأدت الحوادث التي وقعت قبلها إليها، فهو يريد أن يسلسل الأحداث ويكسر حاجز العزلة بين النهضة والأحداث التي سبقتها، فماهية هذه الوثائق التي أوردها الكرباسي هي (مجموعة من الخطب والكتب (الرسائل) والمقالات والمعاهدات التي صدرت من المعسكر الأموي والمعسكر العلوي خلال ثلاثة عقود من الزمن أو أكثر من ذلك بقليل في محاولة لتقريب الأذهان إلى المجريات التي أدت إلى الخلاف بين الحق والباطل في تلك الحقبة).
فـ (جذور) النهضة الحسينية نمت وترعرعت وشبّت لتقويم الانحراف، وكل انحراف وفساد كان يظهر متسلسلاً بعد وفاة النبي (ص)، كانت النهضة تهيئ أسبابها وترسم أهدافها لإصلاح الأود، فالنهضة لم تكن وليدة عصرها بل جاءت بعد تراكمات من الفساد والانحراف فكانت امتداداً للدعوة المحمدية.
أول انحراف عن الخط الإلهي الذي رسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو تأسيس (الحزب الرباعي الأعضاء) كما يصفه الكرباسي والذي كان يهدف إلى: (معارضة تولي أهل البيت عليهم السلام الخلافة والحكم بعد رسول الله وخطط لهذا الأمر بإحكام وتم تنفيذه يوم السقيفة) ذلك اليوم المشؤوم الذي جلب الويلات والمصائب والكوارث على الأمة الإسلامية ولا تزال تعيش تبعات ذلك الانحراف الأول الذي اعترف به حتى من كان له يد في تأسيسه فوصفه بـ (الفلتة) بعد أن اعترض على رسول الله عندما أراد أن يحصِّن الأمة من التمزُّق والاختلاف والنزاع والتشتت فطلب كتفاً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً فقال: إن الرجل ليهجر ؟
من هنا بدأت بذرة الانحراف التي مزقت كيان الأمة وجرت بسببه الحروب والنكبات وتوالت الغزوات على بلاد المسلمين من قبل المغول والصليبيين وغيرهم ولا يزال إلى الآن ينخر بكيان الأمة ويضعضع أسسها وقد استغله أعداء الإسلام لزرع الطائفية في بلاد المسلمين وتشتيت شملهم وتفريق كلمتهم.
إن هذا الانحراف هو الذي قاد جيوش البغي إلى كربلاء لقتل الحسين (عليه السلام):
يا أُمَّةً كفرت وَفي أَفـــواهِها الــــــــقُرآن فيهِ ضـــلالُها وَرشادُها
وَاللَّه لَولّا تَيــــــــمُها وَعَدِيُّها *** فَرِقَ الخِــلافَ يَزيدُها وَزِيادُها
ضَرَبَتكُمُ في (كَربُلاء) صَوارِمٌ *** يَومَ السَّقيـفَةِ مُزِّقَت أَغمادُها
ويمتد هذا الانحراف ويستفحل يوم الدار أو (الشورى المزيِّفة) التي خَطط لها صاحب الانحراف الأول أيضاً مسبقاً وللهدف نفسه أيضاً، ويتوسع هذا الانحراف ويبلغ ذروته ويأخذ مساحة أوسع ويتصل بالجاهلية الأولى ويُعاد ترميم الأصنام التي كسرها علي وأرغم أنوف عبادها في بلاط معاوية عندما استخلف ابنه يزيد على رقاب المسلمين ودمائهم وأموالهم !
يبدأ الكرباسي بعد أن يتسلسل بالحديث بعد وفاة رسول الله تمهيداً لعرض وثائق التاريخ من هذه المرحلة التي: (بدأت بتمرد الأمويين في الشام على سلطان المدينة المنورة وانقسمت الدولة الإسلامية إلى دولتين دولة تحكم بالحق من الكوفة وأخرى تحكم بالباطل من الشام)
ويعقد الكرباسي حلقة وصل بين هذه الانحرافات من السقيفة إلى كربلاء والإشارة إلى العوامل المساعدة لتوسعها وانتشارها وترسيخها فـ: (الفساد الاداري والاجتماعي بل كل فساد مادياً كان أو معنوياً يبدأ من نقطة صغيرة جداً ثم تنمو وتنفتح لتكبر يوما بعد يوم، وتتوسع رقعتها لتنتشر من مكان إلى آخر في دائرة أكبر من دائرتها الأولى، وكل واحدة منها ترتبط بالأخرى كحلقات سلسلة واحدة تُنَّمي إحداها الأخرى حتى تغزو النفوس فتهوي إليها القلوب، لتصل بها إلى حد العشق بوسوسة شيطانية يصعب التخلي عنها بعد أن ذاق عسيلتها وهذا بالفعل ما حصل)
وقد تفشى هذا الانحراف في الجسد الاسلامي وسخّرت السلطات المنحرفة و(المنضوية تحت لوائه في نفس الوقت) جيشاً من الوضاعين والمرتزقة لترويج انحرافها وتشويه صورة الإسلام الحقيقي، يقول الكرباسي: (حيث أن الأحداث تعاضدت إحداها مع الأخرى فتسلسلت لتولد حالة من الاستبداد والطغيان وقدرة المال السياسي مدعوماً بالإعلام المضاد ضمن سياسة الترهيب والترغيب التي ورثها معاوية ممن قبله واعتمدها في حكمه كأساس ثابت لا يحيد عنه في كل صولاته السياسية والأمنية والعسكرية وقد استولى على الحكم بطريقة غير شرعية، ثم إبرام المعاهدة مع الحاكم الشرعي ونقضها ثم اغتاله وسار في طريق الانقلاب على الحق وعهد إلى ابنه يزيد وتخلى عن جميع القيم والعهود ليدفع الأمور نحو المواجهة مع إمام الحق أبي عبد الله الحسين عبر تنصيب ابنه ولياً للعهد)
هنا يصل الكرباسي إلى المراد عبر توثيقه الخطب والكتب (الرسائل) والمقالات والمعاهدات ما بين سنتي (40 ــ 60 هـ) ويشرح شرحاً مفصلاً دواعي هذه (الوثائق) ومصادرها، فجاء كتابه وثيقة كبرى تدين السياسة المنحرفة المعادية لأهل البيت (عليهم السلام)
محمد طاهر الصفار