معجم خطباء المنبر الحسيني .. الجزء الأول

: محمد طاهر الصفار 2025-01-15 06:57

عرّف ابن جنِّي اللغة أنها: (أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم). 

ويلاحظ من خلال هذه الكلمة القصيرة والعميقة الدلالة الإشارة الواضحة إلى أن اللغة هي نظام يتكوّن من رموز صوتية تؤدي وظيفتها في التعبير عن الأفكار والآراء بإيصالها إلى السامع وهي وظيفة اجتماعية في مجتمع بعينه، وقد حصر ابن جنّي تعريفه بقوله: (كل قوم) للدلالة على قانون أساس من قوانين حياة اللغة، فلا تكون لغة ما لم يحتويها مجتمع يتداولها ويتعامل معها، فاللغة تنشأ في مهد المجتمع وهي وسيلته في التفاهم بين أفراده، وهي الواقع الاجتماعي بمعناه الأوفى، وقد عبر الباحثون عن اللغة بأنها (كائن حي ميَّز الإنسان عن الحيوان)، وهي وسيلة لقضاء كل ما يحتاج إليه الإنسان لنقل خبراته وتراثه العقلي من جيل إلى جيل. 

واللغة في تطور دائم فهي تتطور بتطور الإنسان ولكنها لا تفقد وشائجها بجذورها كما لا يفقد وشائجه بجذوره ولا شكّ أنّ نقل الأفكار والتفاهم بين أفراد المجتمع البشري والتعبير عن الأغراض التي أشار إليها ابن جني لا يتأتى إلا بالتفكير ولا يتأتى التفكير إلا باللغة. 

وقد ارتبطت الخطابة باللغة بوشائج متينة وروابط وثيقة فهي تمثل تاريخ الأمة العريق وعاداتها وتقاليدها، فهي الذروة من اللغة والتي من خلالها يكشف عن التاريخ الحضاري للأمة ومدى تطوره عبر الأجيال.

ومنذ أن وضع أرسطو أول كتاب عن الخطابة وسماه (فن الخطابة) وكان الغرض الأهم منه هو عملية الاقناع في مقابل السفسطة والجدل بدأت المدارس الفلسفية بجعل الخطابة الغرض الرئيسي لها في الانتصار لمذاهبها.

والحديث عن الخطابة حديث شيق وما هذه المقدمة إلا لدخول عالم هذا الفن من باب واسع رحب ألم صاحبه بهذا الفن من كل جوانبه وكان على وعي تام بتطور هذا الفن عبر التاريخ في الأمم وهو المحقق الكبير العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي من خلال موسوعته (معجم خطباء المنبر الحسيني) وهو الجزء الرابع عشر من موسوعته الخالدة (دائرة المعارف الحسينية)

يدرج الكرباسي في تعريفه للخطابة في أغراض علم المنطق وهي الصناعات الخمس: الشعر والمغالطة والبرهان والجدل والخطابة أما وصفها بالصناعة فهي الملكة التي تتوفر في الخطيب والتي يستطيع من خلالها استيفاء غرضه وإقناع الجمهور قدر الإمكان 

فاللغة الخطابية التي يحشد فيها الخطيب تأثيراته الصوتية وأبعاده الفكرية وعواطفه هي لغة خاصة معبِّرة أوضح ما يميزها بأنها لغة (مبدعة) فهي تنتمي إلى الأدب أيضا كما عبر عنه الكرباسي بقوله: (تعتبر الخطابة فنا من فنون علم المنطق وهذا لا ينافي كونها فنا من فنون الأدب لأن الأدب هو محصا استخدام جوانب مختلفة للعديد من العلوم كالمنطق والنحو واللغة والصرف ...)

ثم يمهد الكرباسي للدخول إلى هذا العالم الفني بذكر ما تعتمده الخطابة وهي ثلاثة أمور: الخطيب، والجمهور، والمادة

في مبحث المنبر يبحث الكرباسي عن أصل الكلمة لغويا وتاريخيا في المصادر المعتبرة ومن مظانها الصحيحة ويتخلص إلى أن كلمة المنبر هي عربية وأصلها من انتبر ــ أي ارتقى المنبر ــ ونبر الشيء إذا رفعه.

أما في (تاريخ الخطابة) فيبحر الكرباسي في عمق التاريخ وتأتي أهميتها في الإسلام بحيث جعلت جزءا من العبادة في بعض الموارد وصبغتها بصبغة الوجوب كصلاة الجمعة والعيدين ولهذا أصبحت الخطبة في الإسلام مميزة وازدهرت أكثر من الشعر وأصبح لها شأن هام في مجالات العمل الإسلامي بل وسائر المجالات.

ثم يستعرض الكرباسي أهم الأسماء التاريخية في هذا الفن من اليونان والرومان كما يستعرض نماذج من فن الخطابة الإسلامية للمعصومين (عليهم السلام) قبل أن يدخل إلى (الخطابة الحسينية ومراحل تطورها).

ويقسم الكرباسي مراحل الخطابة الحسينية إلى سبع مراحل حسب تسلسلها التاريخي فالمرحلة الأولى تبدأ من استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وحتى الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وهي المرحلة الخاصة بأهل البيت (عليهم السلام) وهي تشمل الفترة التأسيسية وكان أول من مارس الخطابة من الرجال هو الإمام علي بن الحسين (زين العابدين (عليه السلام) ومن النساء السيدة زينب الحوراء بنت أمير المؤمنين (عليه السلام).

أما المرحلة الثانية فتبدأ بعد عصر الغيبة وحتى القرن السادس الهجري وتشمل الدولة البويهية والفاطمية والحمدانية، وتبدأ المرحلة الثالثة مع بداية القرن السابع الهجري وتنتهي مع نهاية القرن التاسع، أما المرحلة الرابعة فهي من القرن العاشر وحتى الثالث عشر، والخامسة من القرن الثالث عشر وحتى الرابع عشر، وتبدأ المرحلة السادسة بعد منتصف القرن الرابع عشر وهي الفترة التي تم إجلاء المستعمرين بها من البلاد الإسلامية، أما المرحلة السابعة فهي مرحلة مستقبلية يؤمل لها أن تتحول إلى مؤسسة عالمية لنشر الأهداف السامية التي قام من أجلها الإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته المباركة

والجدير بالذكر أن هذه المراحل تزدهر وتضمر بفعل الظروف السياسية وطبيعة الحكومات التي تحكم البلاد من ولاء لأهل البيت (عليهم السلام) أو من عداء لهم.

وفي باب (التفنن في الخطابة) يقدم الكرباسي مقاطع من خطب أمير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كأرقى نماذج للخطابة في التاريخ.

ويأبى الكرباسي قطع البحث دون الكشف عن كل جوانبه وحل ملابساته فيتحدث عن أهم أدوار الخطابة وتأثيرها على الجماهير وهو دورها الإعلامي ودور الخطباء في التبشير ومسؤولية الخطيب الحسيني وموقعه ومكانته ومواصفاته قبل أن يترجم لمائة وثمانية خطيب حسيني من دول مختلفة حسب الحروف الأبجدية.

محمد طاهر الصفار


العودة إلى الأعلى