"الحجاب بين الوجوب والاستحباب- في الحديث والكتاب" (2)

بعدما عرّفنا الحجاب لغةً واصطلاحًا، وطرحنا سؤالنا العتيد، أن "لماذا استقطب حجاب المرأة الإسلاميّ اهتمام الغرب والشرق بشتى أطيافهما؟ ولماذا أثيرت من أجله هذه الضجة الكبرى، حتى غدا في نظر بعض المستشرقين والمستغربين (نسبةً إلى الغرب)، حائلًا يحول بين المرأة والتطوّر...؟"


نحاول في هذا القسم من البحث أن نعالج الجواب... ولعله من الضروري لنعرف الجواب أن نعرّج على نظرة المجتمع الغربي والشرقي قديمًا وحديثًا للمرأة، إذ لا يمكننا عزل هذه النظرة عن فكرة الحجاب والموقف منه.

أ‌-    مكانة المرأة عند الأمم القديمة:

إن المتأمّل في عالم الغرب القديم والحديث، يلاحظ تلك المفارقة الكبرى بين وضع المرأة في كليهما، فالمرأة قديمًا، عند اليونان والرومان وغيرهما من أمم الغرب، كانت مورد تساؤل حول أصل إنسانيّتها، فقد طرح بعض فلاسفة الرومان مسألة إنسانية المرأة كأمرٍ مشكوكٍ فيه!

لقد كانت المرأة في المجتمع اليونانيّ القديم محتقرة مستعبدة تباع وتشترى، مسلوبة الإرادة والحريّة، لا تستطيع التصرّف فيما تملك، وحتى زواجها كان موكولًا للرجل، أما عند الرومان فقد شابه الأمر ذلك، حتى أن عقد الزواج الذي كان يسجّله القانون كان يسمى "اتفاق السيادة"، أي أنه صكٌّ اسمه حق سيادة الرجل عليها.

أما عند الهنود فقد سلبت عن المرأة كافة الحقوق، حتى حقّ الحياة، فهي يجب أن تموت مع زوجها يوم موته، وأن تحرق معه حيةً على موقدٍ واحد!

وإذا أتينا إلى وضع المرأة في الأديان السماوية التي طالها التحريف، أي اليهودية والنصرانية، نجد أن المرأة عند اليهود كانت في مرتبة الخادم محرومةً من الميراث، وهي عندهم لعنة، لأنها بحسب اعتقادهم أغوت آدم وأخرجته من الجنة... حتى جاء عندهم في التوراة: (المرأة أمرّ من الموت...). بينما نجد أن حالها عند النصارى لم يكن أفضل، فقد حمّلها رجال الدين النصارى مسؤولية الانحلال الخلقيّ الذي كان عليه المجتمع الرومانيّ، حتى أن سؤالًا طُرح في مؤتمر فرنسا عام 586 م هو: هل تُعدّ المرأة إنسانًا أم غير إنسان؟! وأخيرًا قرّروا أنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب... وحتى الثورة الفرنسية التي قامت لتحرير الإنسان من العبودية، لم تشمل المرأة...

كل هذه الحقائق التي نقلها لنا التاريخ وعجّت بها كتبه، تؤكّد دونيّة النظرة الغربية للمرأة في العصور القديمة والمتوسطة، وهنا سؤالٌ يطرح نفسه: "هل كان لحجاب المرأة في تلك العصور علاقةٌ بنظرة المجتمع الدونية إليها؟"

ب‌- ارتباط حجاب المرأة بمكانتها ونظرة المجتمع إليها:

إننا إذا قمنا بالبحث حول حجاب المرأة عبر التاريخ، نجد أن الاضطهاد الإنسانيّ الوجوديّ الذي استهدف المرأة كإنسان، كانت له علاقةٌ بالحجاب الذي ارتدته نساء ذلك الزمان، مع الإشارة إلى أن فكرة الحجاب ليست من ابتكار الدين الإسلاميّ، فقد وُجد الحجاب منذ أقدم العصور، بأشكال مختلفة، ولكن المفارقة هي أن الحجاب كان عادةًدلالة على تكريم المرأة عند القدماء... ومع أن الرومان واليونان وغيرهم من الأمم القديمة كانوا من أكثر الأمم تعنّتًا في حقّ المرأة، إلا أن الحجاب لديهم كان مختصًّا بالمرأة الحرّة ذات المكانة، بحيث أن الجارية المستعبدة لم تكن ملزمةً به، فالحجاب عندهم كان دلالةً على المحافظة على المرأة من عيون الغرباء، ولئن زاد به بعضهم بسبب اضطهاده لها، فحجبها عن الحياة العامة وبالغ في ذلك، فلأن نظرتهم الدونية إليها غلبت على فكرة المحافظة والحماية، حتى وصلت إلى حدّ التسلّط!

نستنتج من هذا كلّه، أنّ الحجاب الذي ربما كان مظهرًا من مظاهر اضطهاد المرأة في تلك العصور، كان زائدًا عن حدّه، وكان حجبًا لها أكثر مما هو سترٌ مرخى عليها... ذلك أن مصطلح الحجاب الذي التزمت به نساء تلك العصور لم يكن يوازي مصطلح الحجاب الإسلاميّ، فقد كان ينطلق من ثقافة الأمة التي تتبنّاه... وبما أن مكانة المرأة عندهم لم تكن محترمةً حائزةً على حقوقها الإنسانية، فقد كان حجابها يتماشى مع تلك المكانة، إمّا مبالَغًا فيه حدّ العزل الكامل للمرأة الحرة، وإمّا مفرَّطًا فيه للجارية المستعبدة، ذلك أنهم لم يكونوا يرون في الحجاب وسيلة لحماية المرأة عمومًا والمجتمع، كما هو الحال في الحجاب الإسلاميّ.

ت‌- المرأة الغربية في ظلّ العلمانية بعيدًا عن الحجاب:

إننا لو أردنا أن ننظر إلى مكانة النساء في عالم الغرب الحديث، لوجدنا أنهن حصلن على حقوقٍ سلبت منهن بفعل تسلّط الحضارات المتلاحقة، كما فقدنَ حقوقًا أخرى تخلّين عنها بمحض إرادتهن، إذ تخلّين عن الكيان الأسري والأمومة المقدّسة، ليلهثن خلف تحدّي الرجل في عمله خارج المنزل، بدل التكامل معه لبناء الأسرة الناجحة.

ولم يكن موضوع الحجاب لدى الغربيّات إذذاك أمرًا ذا بال، ولكن العلمانية التي نادى بها الغرب قامت على عزل الدين عن الدولة، فغدون جزءًا من تلك الخطة... وبما أن الكنيسة كانت داعمةً للسلطة الظالمة التي أرادوا تحجيمها وإبعادها، فقد نشأت الفلسفات الإلحادية والوجودية التي لم تنكر الدين فحسب، بل أنكرت الله معه...وهكذا أعلنوا "موت الله!" في ثورة شعواء رافضةٍ لكل الأديان والقيم الإلهية، وكان حصاد ذلك ما يعانيه الغرب الآن من فسادٍ أخلاقيٍّ شنيع، ليس هنا محلّ دراسته...

ث‌- أسباب استهداف الحجاب الإسلامي:

لقد أراد المستشرقون والمستغربون أن ينقلوا إلى المجتمع الإسلاميّ تجربتهم التي أثبتت فشلها من جهة، وأن يقهروا إرادته وقوته المنبعثة من التزامه بالدين الإسلاميّ، وكانت المرأة أبرز أهدافهم، فهي نصف المجتمع والمؤثرة في نصفه الآخر، إن صلحت صلح وإن فسدت فسد.

من هنا نفهم أن محاربة الحجاب الإسلاميّ من قبل دعاة التحرر ليس إلا امتدادًا لمحاربة الأديان والقيم تلك، وبما أن حجاب المرأة في الإسلام مرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ بالتشريع الإلهي بحقّها، فقد كان التركيز عليه من ضمن خطة التحرير المزعومة، التي لا تهدف إلا لتقويض دعائم المجتمع الإسلامي، عبر التشكيك أولًا بوجوب الحجاب، ثم التفلّت منه، ثم يكون الفساد الأخلاقيّ الذي يرمون إليه، ثم تكون سيطرةٌ كاملةٌ على الإنسان ومجتمعه... أي أن هذه الدعوة البرّاقة التي تدعو إلى الحرية، ما هي إلا دعوةٌ للفساد الذي يرمي بالمجتمع برمّته في التهلكة، ليكون لقمة سائغةً في فم الاستعمار... ومن هنا يظهر أن هذه الطبول التي يقرعها المنادون بتحرير المرأة ورفض الحجاب، ليست إلا طبول الاستعمار الفكريّ نفسها، وإن المتعمّق في البحث يدرك ما وراء الأكمة بلا ريب.

إن الحجاب الإسلاميّ كما رأينا لا يمتّ بصلةٍ إلى حجاب الأمم السابقة، فهو يختلف عنه شكلًا ومضمونًا، لأن نظرة الإسلام إلى المرأة ومكانتها في التشريع الإسلامي تختلف عن مكانتها في كلّ تشريعٍ آخر، سماويّ أو غير سماويّ، كما أن للحجاب الإسلاميّ ضوابط ومقوّمات سنتحدّث عنها في القسم التالي من المقالة، كما سنقوم بالتعريج على مكانة المرأة وحجابها في الجاهلية، ليكون مقدّمةً لتتمة البحث.



العودة إلى الأعلى