تأمّلات عاشورائية من مدرسة الحسين (ع) نتعلّم (4)-الحر الرياحي معلّم الحريّة
لا يختلف في معنى الحرية اثنان... كما لا يمكن لنا أن نتجاوز أجمل كلمةٍ قيلت في حرٍّ استثنائيٍّ من أحرار العالم، ذلك أن القائل هو أبو الأحرار وسيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام، والمستهدف بالقول هو نموذجٌ من نماذج الحرية الفريدة التي لا تضاهى، والمقولة هي تلك العبارة التي خاطب بها الإمام الحسين عليه السلام الحرَّ بن يزيدٍ الرياحيّ ذاك الحرّ الأكبر: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة"[1].
ترى، أي فضيلةٍ كانت لهذا الرجل حتى استحقّ هذه الكلمة من سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة؟
إن معلّمي مدرسة الحسين عليه السلام هم أولئك العشّاق الذين جمعتهم كلمة الحق فاعتصموا بحبل الله جميعًا ولم يتفرّقوا، وكان موعدهم الشهادة.
غير أن جلّهم كانوا معه، في ركابه يسيرون منذ خرج، أو ملتحقونبه إلى حيث وصل وعرّج، إلا الحرّ الرياحيّ، وقلةٌ آخرون.
فأما الحرّ، وهو محور حديثنا، فهو لم يكن فقط خارج ذلك الركب، ولم يكن بعيدًا عن اللحاق به فحسب، بل كان قائد الجيش الموكّل بمواجهة الحسين، حتى الوصول إلى محاربته إن دعت الضرورة.
إن الناظر في سيرة الحر يتملّكه العجب، فقد كان الرجل حسب ظاهر الأمر، ماضيًا في سبيله خلف الطغاة، يجعجع بالحسين يمينًا وشمالًا، ويزعجه ويضايقه، ويحدّد له مساره، وينفّذ أوامر ابن زيادٍ ويزيد، فيُنزله حيث شاؤوا، ويرغم الركب الحسينيّ على تنكّب طريق الكوفة، والمشي في المسارات الصعبة، حتى يصل به في النهاية إلى كربلاء...
وإن التاريخ يدوّن أن الحرّ واجه الحسين في عدة مواقف إبان تلك الفترة، ولكن دراسة تلك المواقف تطلعنا على ما وراء الأكمة، وعلى الاختلاف الجذريّ الذي كان بين الحرّ وغيره من قادة الجيش الأمويّ الذي جُرّد لمحاربة الحسين.
إنه في الوقت الذي كان الحرّ يعلم فيه أنه مناوئ للحسين مخالفٌ له مناصرٌ لأعدائه، فهو لم يسئ الأدب معه بلفظةٍ واحدة، بل كان في كل حوارٍ جمعهما يخاطبه بإكبارٍ وإجلال، فهو مثلًا حين خرج للقاء الحسين بألف فارس، "رهقه عند صلاة الظهر، فأمر الحسين ابنه فأذّن وأقام، وقام الحسين فصلى بالفريقين جميعًا (أي أن الحرّ وجيشه ائتموا بصلاة الحسين مع أنه خارج لمواجهته!)، فلما سلّم وثب الحرّ فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال الحسين: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا الحرّ بن يزيد، فقال يا حرّ أعلينا أم لنا؟ فقال الحر: والله يا ابن رسول الله لقد بُعثت لقتالك، وأعوذ بالله أن أُحشر من قبري وناصيتي مشدودة إليّ ويدي مغلولة إلى عنقي، وأُكَبّ على حرّ وجهي في النار، يا ابن رسول الله أين تذهب؟ ارجع إلى حرم جدّك فإنك مقتول، فقال الحسين عليه السلام:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى * إذا ما نوى حقًّا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورًا وخالف مجرما
فإن متّ لم أندم وإن عشت لم أُلم * كفى بك ذلًّا أن تموت وتُرغما"[2]
إن القراءة المعمّقة في ثنايا الخبر، تطلعنا على أمرين:
أولهما أن الحرّ كان مؤدّبًا ذا خلق، ولم يكن من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق، يعرف حدّه ويقف عنده، وقد خاطب الحسين بأدبه ذاك، واستطاع في الوقت نفسه الذي كان يطلعه فيه على أنه خارجٌ لقتاله، أن ينصحه بمنطقٍ مهذّبٍ لا تطاول فيه على مقامه.
وثانيهما أنه كان عارفًا بأفضلية الحسين وموقعه العظيم من رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن الإسلام كلّه، فهو قد ائتمّ به في صلاته، كما خاطبه بقول (يا ابن رسول الله) مرارًا... ولعمري فإن التاريخ لم يشهد قائد جيشٍ يأتمّ في صلاته بقائد الجيش المعادي له، مما يعني أن الحرّ كان عالمًا بالحق وأهله، ولكنه كان مغترًّا بالدنيا وأهلها، ولعله ظنّ أنه يمكنه أن يحوز الدنيا والآخرة معًا، وأن يجمع النقيضين في سلةٍ واحدة، في ذلك الزمن الأصعب، فلما تبيّن له أن (حب الله وحب الدنيا لا يجتمعان في قلبٍ واحد) واتّضحت أمامه السبل، وقف على مفترق طريقين، طريق الجنة وطريق جهنم، فاختار طريق الجنة رغم وعورة المسلك...
وترجم الحرّ ذاك الصراع الذي عاشه بين نفسه وعقله وروحه، بقوله حينما علم أن لا مفرّ من اتّخاذ القرار المصيري: " إني والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قطّعت وحرّقت."[3]
ترى، كم من إنسانٍ وقف في تلك المعركة وغيرها، من معارك الباطل ضد الحق، قبلها وبعدها، فاستطاع أن يتراجع عن الباطل وأن يتّبع الحقّ رغم أنه قد مضى في الباطل شوطًا بعيدا، وصار قاب قوسين أو أدنى من ارتكاب الخطيئة، ولكنه تداركته رحمة الله فانتشل نفسه من هاويةٍ بلا قرارٍ كاد يتردّى فيها؟
أي درسٍ علّمه الحرّ لمن بعده بذلك الموقف الذي أخرج به نفسه من بؤرة الباطل وزرعها في ميدان الحق؟ وهو لم يكتفِ باتّباع الحقّ فقط، بل وصل إلى قمّة الاتّباع؛ إنها التضحية في سبيل الحق بالنفس والمال والولد...
أما النفس، فهي نفس الحرّ التي كانت تأمره بالسوء وتزيّن له شهوة السلطة وإرضاء السلطان، فلما علم وأيقن أن في ذلك الطريق سخط الرحمن، تراجع وسلك طريق الهدى غير آبهٍ لما يواجهه من مخاطر أكيدة، وقدّم نفسه شهيدًا بين يدي الحسين عليه السلام، مترجمًا ذلك بقوله: "إذا كنت أول من خرج عليك، فأذن لي أن أكون أول قتيلٍ بين يديك..."[4]
وأما المال، فقد كان الحرّ يعلم أنه بمخالفته لأوامر بن زيادٍ والتحاقه بالحسين عليه السلام، سيفقد كل ما يملكه من مالٍ وجاهٍ، فقد كان سيد قومه، وقد زهد في كلّ ذلك في سبيل نصرة الحق، وليس غريبًا على من ترخص أمامه نفسه أن يرخص أمامه كل حطام الدنيا...
وأما الولد، فهي روايةٌ يرويها بعض المحدّثين، أن للحرّ ولدًا يدعى بكيرًا (وقيل بل علي) حثّه الحرّ على الانضمام معه إلى معسكر الحسين عليه السلام، وقدّمه شهيدًا بين يديه.[5]
لقد ضرب الحرّ بنفسه مثلًا لكلّ من تعوزه الإرادة للتوبة والتراجع عن المعصية، بالغًا ما بلغ توغّله فيها، فهو قد تسلّح بقوة إرادته ليتمكّن من الانتقال من الشيء إلى نقيضه، وخيّر نفسه بين الجنة والنار، فلم يختر على الجنة شيئا، وما ذلك إلا لإيمانه اليقيني بالجنة والنار والثواب والعقاب، ولو كان الحرّ كعمر بن سعدٍ مثلًا، لما استطاع اتّخاذ هذا القرار الحرّ الشجاع، حيث أن عمر بن سعد واجه نفس الموقف، ولكنه بدل أن يأخذ قرارًا منقذًاكإياه، خاطب نفسه بالريبة والشكّ قائلًا:
فوالله ما أدرى وإني لصادق * أفكر في أمري على خطرينِ
أأترك ملك الريّ والريّ منيتي * أم أصبح مأثومًا بقتل حسينِ
حسين ابن عمى والحوادث جمة * ولكن لي في الريّ قرة عيني
يقولون إن الله خالق جنةٍ * ونارٍ وتعذيبٍ وغلِّ يدينِ
فإن صدقوا مما يقولون إنني * أتوب إلى الرحمن من سنتينِ
وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة * وملك عقيم دائم الحجلينِ
وإن آله العرش يغفر زلتي * ولو كنت فيها أظلم الثقلينِ
ولكنها الدنيا بخير معجّل * وما عاقلٌ باع الوجود بدينِ
وكانت النتيجة أن عمر بن سعدٍ صار من قتلة الإمام الحسين، فباء بخسرانٍ مبينٍ في الدنيا والآخرة.
إن ما قاله ابن سعدٍ يكفي ليخبرنا بالفارق الجذريّ بين المؤمن الذي أضاع البوصلة قليلًا لكنه يملك الاتجاه الصحيح، ولذا فقد تمكّن من تدارك الأمر قبل فوات الأوان، وبين المنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، حتى إذا واجه الامتحان تهاوى وانجرف خلف أهوائه...
وتبقى كلمة الحرية التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام للأجيال، وشهادته بحق حرّ بني رياح، نبراسًا للأحرار، يضيء على شخصية ذاك العظيم الذي أثبت بالدليل العملي الملموس أنه من عباد الله الصالحين، الذين لا سلطان للشيطان عليهم، وإن ظنّ لبعض الوقت أنه قادرٌ على إغوائهم...
لقد أثبت الحرّ لكل خاطئ أنه قادرٌ على التوبة، وأن باب التوبة مفتوحٌ دائمًا، وأن ﴿رحمة الله قريبٌ من المحسنين﴾، فالإنسان قادرٌ على أن يغيّر ما بنفسه ليتغيّر واقعه؛ ﴿لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾، كما أثبت لكلّ مؤمنٍ أن الحرية الحقّة ليست في التفلّت من القيود، بل في حرية اختيار القرار الصائب رغم كلّ القيود، وكما قال سيد الشهداء: "إن تبتَ تاب الله عليك"، فالتوبة قرار يأخذه التائب في الوقت المناسب، و"أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، أنت الحرّ إن شاء الله في الدنيا والآخرة".
[1] تاريخ الطبري، الطبري، ج4، ص 325
[2]الأمالي، الشيخ الصدوق، ج1، ص218 و219
[3] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص99
[4] اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص62
[5] فرسان الهيجاء، ذبيح الله المحلاتي، ص75