الإيجاز لبلوغ التدليل في النص البَصًري .. قراءة في خصائص أعمال المشهد "العاشورائي"

التشبه والتقمص

السؤال الأول

هل يمكن للنصوص البَصًرية، أي كانت أجناسها، أن تستًعير لغة الإيجّاز بدافع تحقيق الإطناب لتأكيد رسائل خطاباتها حد المبالغة، بحيث يصبح الإيجاز إسهابا مفرطا؟

في سياق هذا السؤال نحاول الإجابة على بيان مفهوم الإيجاز في لغة التعّبير البَصًري، من خلال تحليل نتاج عدد من المصورين الذين يوجدون في مراسم أحياء واقعة "الطف" سنويا، وينشطون فيها للقّبض على ألواح بَصًرية تترصّد تفاصيل الحدث "العشورائي" ويحاول بعضهم أن يتجاوز الآثار المألوفة، ويغادر طريقة المسّحات البَصًرية السابقة، ويبحث عن لغّة تعبير موجزة، لتكون مفعمة بإحساس فني. خارج حدود أطار التسجيل العاطفي.

Card image cap

الأثر النقدي

لا شك أن الانتفاع من الفعل النقدي، المعزز لثقافة المصور، قد أسهم إلى حد كبير في تحقيق هذه الانتقالة الجمالية في مشّهد "الفوتوغراف" العراقي، وساعد على تحسين مخرجات نتاجاته. وبدأ بسببها الكثير من المصورين يغادرون طريقة اللقَطْ التقليدي لمفردات الواقعة الحسينية، ويستبدلونها بصناعة لوحات "مرئية" تتجاوز الغرض التوثيقي للواقعة، لتحقق أفعالاً بَصًرية ساردة.


الأبعاد القيمية والمكانية

بعيدا عن ثراء قيم الخطاب المعرفي، اللامتّناهي لقضية نهضة الإمام الحسين (ع) وأهدافها التغييّرية وبعدها الإصلاحي، ألا إن حدود "المخّيال" الفني للتعامل مع الواقعة لا تسمح، بالتفريط والإفراط لمضمونها العقائدي، ولا تقبل التضعيف، أو التهّويل لدلالة عناصرها الفردية والمادية المقتصرة في بيئتها الواقعية على (الفرسان - الخيول - السيوف - الخيام - الرايات - النار- الماء -الدخان- الغبار)، التي توزعت على سماطين متضادين لمعايّير قّيم النبل، ويمثل عناوينها الجوهرية (الإمام الحسين، وأخيه ابي الفضل العباس، وأخته الحوراء زينب، وولده علي الأكبر، وأهل بيته، وأصحابه عليهم السلام)، مقابل شخوص تمثل عناوين رئيسة للوضاعة والخسّة، وهم: (عبيد لله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وحجار بن ابجر، وحرملة، وغيرهم في رهط جيش المارقين)، مع اختلاف جوهري لموازين القوة والمقدرة، والعدة والعدد عند الطرفين. إذ تمثلت في خطاب المعسكر الأول، مبادئ رسالية عناوينها (العدل-الحق-الأيمان-الشجاعة-الإيثار-التضحية-الجود-الصبر). قبال سلوكيات مظاهرها (الهمجية-الكفر-التسلط-الطغيان-الجبًروت-الغرور-الباطل-الطمع- النفاق) في خطاب المعسكر الثاني.


وما دون هذه الموسومات القّيمية والمكانية والشخصية، فهي مسهبات للغلو في التعبير وإضفاء تمثّلات تصورية من خارج حدود واقعية الواقعة، وتُرك "للمخيال" الفني والسردي التمّاهي معها بشيء من الجموح، أسقطها أحيانا في دائرة الأسطورة والخرافة، خارج حدود بعدها التاريخي الواقعي والموهن لقيمها العظيمة.


لكن تبقى واقعة "الطًف" تحتفظ بثوابت مكانية، وصًيرورة عقدية، لا يمكن تقليل قِيمها عند التفاعل الفني مع قضيتها بمختلف الأجناس البَصًرية، ومن أبرزها حضوراً وانتشاراً هو "الفاعل الصْوري" الأكثر انغماسا مع أحداثها سنويا، وتشكل مخرجاته "انسكلوبيديا بَصًرية" تهيمن على كل مساحة الهويات البَصًرية للمشهد "العاشورائي"، تنقل للمتلقي القريب والبعيد تفاصيل سرديتها المأساوية. وتعكس حجم مبثوثتها الحسية والشعورية.

وللوقوف عند محصلة الناتج الجمالي للمجس "الفوتوغرافي" في موسم عاشوراء العام 2024، اخترنا مجموعة من أعمال عدد من المصورين، تميزت خصائصها بعلامات تجاوزت تقليديتها المتكررة، وعملت على استخدام لغة الإيجاز والاختزال في أدواتها التعبيرية، للتدليل عن مضامينها وإيصال رسائلها.

Card image cap

التجلي "العاشورائي" بَصًريا

يتفاعل "المصورون" سنويا مع التجّليات الضوئية التي تشكلها مشاهد مسرودات الواقعة، سواء الحكائية منها، المنقولة بلسان الخطباء أو التي ينشدها "الرواديد" على لسان الشعراء، أو تلك المرتبطة بردة تفاعل الجمهور المعزي. تلاحق عدسات المصورين انطباعات ما ينعكس على وجوه المشاركين من آثار الحزن والتأسي. أو من خلال رصدهم للولادات الضّوئية النازلة من فتحات السقوف، وَالْمُشْكِلَة مع حركة وألوان الرايات المرفوعة، مناخات ضّوئية يرصدون تكويناتها بمهارة فنية.

ويسعى قسم آخر منهم بملاحقة الأفعال الدرامية، المعاد مسرحتها داخل مسرودات الواقعة، لزيادة حجم التأثير العاطفي في النفوس. كما في مشاهد انفعالات المعزين، وهم يتعاطفون مع الممارسات الطقسية لأيام عاشوراء، ومن أبرز أحداثها، إضرام النار في الخيام، أو ملاحقة "التشابيه"، التي تتقّمص شخصيات وأحداث مهمة في سردية واقعة الطف، حرص؟المصورون على توظيفها في مسوحاتهم البَصًرية. وهي في غالبيتها هذا العام أعمال متميزة، على مستوى الكم والنوع. نتوقف في أجزاء دراستنا عند بعض تجّليات خصائصها الجمالية.


أيقونة رحيم السيلاوي "العباسية"

لطالما جذبت أعمال المصور "رحيم السيلاوي" الباعث النقدي لمساحاتها، وهو الأوفر حضاً من بين زملائه في الملاحقات النقدية، لتميز أعماله بخصائص جمالية متفردة. وفي موسم هذا العام ترك لنا جّملة أعمال مهمة قدمها بلغة تعبيرية مختلفة، اخترنا منها عملاً مهما لاحق فيه التجسيد الدرامي "لمُشبه" امتطى صهوة جواده ليتقمص شخصية أحد أبرز رموز الواقعة، هو البطل عبْاس (ع).


من التشبيه للتقمص

"السيلاوي"، وهو ينشغل في ملاحقة أداء هذه الشخصية العظيمة، لم يكْ يشغله التوثيق "البورتريهاتي" كما فعل بعض المصورين، بل سعى ليقتنص في هيئته الجسدية فعلاً درامياً، تمكنه أن يخّتزل فيه كل مآثر المسرودات، والصور الذهنية المتخيلة عن شخصيته المثيرة للاهتمام. فعمل بخبرته وثقافته التشكيلية على إنتاج تكوين بَصًري حقق فيه التقمص الكامل للتعبير عن الدلالة المعنوية والجسدية للشخصية التي تشكل المحور الأكثر حضورا في المشهد "العاشورائي".


المعالجة البصرية

أنشأ "السيلاوي" معادلة بَصًرية بثلاثة مستويات، وظف في مساحتها العلوية الشعار العقائدي (يا ثارالله). ولأن هذا النداء يعتبر هدفٌ محوري لنصرة الإمام الحسين (ع) جّعل مساحته تهيمن على الجزء الأكبر لمعادلته. وفي النقطة الذهبية ترك في الوسط "بورتريه" لرمزية الفارس الشجاع، وقد أظهرت تعابير نظراته إرادة العّزم والقوة، باعتباره المتّبني الأقوى والأقرب لعقائدية الشعار، وحامل لوائها. وترك المستوى الأسفل تنعكس فيه دلالات مستقبل مرئيته المتمثل بوجود طفلين،انعكست على قسًمات وجهيهما تعابير الترقّب والغّضب، وهما يراقبان جموح الفارس وانفعال فرسه ليساعد حضورهما المضمر على تنمية التأثير الدرامي للمشهد.

Card image cap


بلوغ هدف التدليل

"السيلاوي" بمرئيته "العباسية" اثبت قّدرته على تحقيق مهارة بَصًرية، وهو يتعامل مع فعل درامي ممسّرح، بدتْ مشهديته، أقرب لفعل الواقع منها إلى التَّشْبِيه. ولم يكتفْ بهذا الرصد الموجز لبلوغ التدليل المتكامل للمشهد "العاشورائي"، بل ذهب بإحساسه التشكيلي يستكمل رصّد فصوله المتعددة، وينتج منها مرئيات مؤثرة، ومن أبرزها أعماله المتميزة في مشهد حرق الخيام، قدم فيها لوحات مرسومة بلغة الضوء، استطاع ضبط توازن مناخاتها اللونية لزيادة تأثيرها الدرامي.

وبمجموع ما قدمه هذا العام، نجح "رحيم السيلاوي" أن يكون القّانص البَصًري الأكثر قدرة على استثمار لغة الإيجاز، وأتقان توظيفه بجماليات بَصًرية متقنة.

المرفقات

العودة إلى الأعلى