إذن الدخول.. انفتاح القلوب على معنى الوصول

تعترف القلوب بسلطة المعبود وسلطة المحبوب، وتعترف العقول بسلطة المنطق السليم المقبول، وتعترف الأجساد بسلطة الشهوات والرغبات، مع انضباطها وإذعانها للعقل والشرع والدين، إن كان الإنسان معترفًا بسلطة رب العالمين.

وتبقى المراقد المطهّرة لأهل بيت النبوة، صلوات الله عليهم أجمعين، مراكز إشعاعٍ واستبصار، تهوي إليها أفئدة المؤمنين وتلتمس منها الهداية والنور المبين، وقد حافظت هذه المراقد الشريفة على قدسيتها رغم مرور القرون والسنين، ورغم محاربة الظالمين لها ولرمزيتها ودلالاتها، ولكن ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَيَأْبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ﴾[1]


لقد وعى لأهمية الزيارة علماؤنا الأولون، وأخذوا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)ما أخذوه من المأثورات، التي صُنِّفت ووضعت في موضعها اللائق من كتب الزيارات والأدعية المعتبرة، كما وضعت في أماكن بارزةٍ من المراقد المطهّرة، لتعين الزائر على أداء الزيارة بالشكل الأمثل.

ولكن، ترى... ما هو الشكل الأمثل للزيارة؟

وكيف يمكن لنا، ونحن البشر الخطّاؤون، أن نلج بيوتًا مطهّرةً جعلها الله لنا أعلام هدايةٍ وسبل نجاة، لنستمد منها حقائق الحياة؟

هل مجرد الخطو وأجره العظيم نحو ذاك المكان المقدّس يكفي؟

وهل تلاوة الزيارة وثوابها الجزيل داخل المقام المقدس في مقابل شباك الضريح تكفي؟

ولماذا يشكو الكثيرون منّا من ضعف التوجّه وجمود الدمعة وعدم استشعار الثمار الروحية للزيارة؟

هي أسئلة تراودنا أحيانا، وتطرح نفسها على قلوبنا الحائرة الظامئة التي تبحث عن الحقيقة، وتستشرف وجودها في هذه الأمكنة التي تقدّست وتطهّرت بأجساد الساكنين فيها من خيرة البشر، فهل إلى الريّ وقطف الجنى من سبيل، والحدائق زاخرةٌ بما لذّ وطاب من ثمار الجنة ومائها السلسبيل؟

يغفل الكثيرون عن أن لكل بيتٍ باب، ولكل مسجدٍ محراب، وأن التوجّه للزيارة لا يكون كاملًا إلا إذا استكمل الإنسان لوازمها.

تبدأ اللوازم طبعًا بتحضير النفس بالاستغفار قبل نية الزيارة، وغسل الزيارة أيضًا واردٌ استحبابه، وهو من التحضيرات المهمة، كما أن قلة الطعام والشراب والكلام تساعد على حسن التوجّه، لئلا ينشغل الجسد بهضم الطعام الثقيل ويتعب، ولئلا تنشغل النفس بمشاغل الحياة ومشاكلها فتلتفت عن الهدف الأساس من الزيارة...

بقي الالتفات إلى قرع ذلك الباب المفتوح للطالبين، وهنا بيت القصيد!

هو بابٌ مفتوح، فعلام إذن الدخول إذًا؟

ليس موصدًا كأبواب السلاطين، مع أنه أرقى منها وأثمن...

ليس مغلقًا في وجوه الزائرين السائلين الطالبين رضا الله في التقرّب من أوليائه، بل هو مفتوحٌ دائمًا وأبدًا...

ولكن هذه الحقيقة نفسها تجعل البعض يغفل عن قرعه... وأخذ الإذن بالدخول!

ونعود إلى آداب الزيارة... نعود إلى ما أُثر عن أئمتنا في مواردها المختارة...

ويأتينا الأمر الإلهيّ في كلام المعصومين، وفي كتاب الله الحكيم، حين نجد أن إذن الزيارة يتصدّر الموقف، فهو القرع الأول على باب الجنة، وبعده تأتي سائر الخطوات...

"اَللّهُمَّ إِنِّي وَقَفْتُ عَلى بابٍ مِنْ أَبْوابِ بُيُوتِ نَبِيِّكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَقَدْ مَنَعْتَ النَّاسَ أَنْ يَدْخُلُوا إِلاّ بِإِذْنِهِ فَقُلْتَ : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ... ﴾[2]"

نعم إن هذا هو السبب الأوليّ للإذن، فأنت حين تستشعر لذة القرب من المحبوب، تتهيّب هذا القرب، وتلاحظ النهي الإلهي عن الدخول إلى بيوت النبي، إلا بعد أخذ الإذن بذلك...

ولكن، كيف نعلم أن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد أذن لنا بالدخول؟

إن مجرّد أخذ الإذن لا يكفي، بل نلاحظ أن كيفيته تساعد على فهم مغزاه، حيث نتابع ونحن نتوجّه بقلوبنا إلى الخالق جلّ وعلا، وهو من رفع قدر هؤلاء الأولياء وجعلهم لنا قدوةً وأمنا:

"اَللّهُمَّ إِنِّي أَعْتَقِدُ حُرْمَةَ صاحِبِ هذا المَشْهَدِ الشَّرِيفِ فِي غَيْبَتِهِ كَما أَعْتَقِدُها فِي حَضْرَتِهِ ، وَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَكَ وَخُلَفاءَكَ عليهم‌السلام أَحْياءٌ عِنْدَكَ يُرْزَقُونَ يَرَوْنَ مَقامِي وَيَسْمَعُونَ كَلامِي وَيَرُدُّونَ سَلامِي ، وَأَنَّكَ حَجَبْتَ عَنْ سَمْعِي كَلامَهُمْ وَفَتَحْتَ بابَ فَهْمِي بِلَذِيذِ مُناجاتِهِمْ".

إن جوهر الزيارة يكمن ها هنا، فصاحب المقام الشريف حيّ عند الله، يراني ولا أراه، ويسمعني ويردّ سلامي بقدرة مولاي ومولاه، ولئن لم أسمع ردّ السلام فذاك لقصور وتقصيرٍ فيّ لا فيه، حيث تشدّني الدنيا ويملأ سمعي وبصري تراثها الترابيّ الذليل، ولا تنكشف لي الحقائق بالبصر وغيره من الحواس، بل بالبصيرة والفهم وعمق الإحساس.

وأنّى لباب فهمي أن يستمتع بلذيذ المناجاة، إن كان موصدًا على حبّ الدنيا والذات؟

إن طلب الإذن بالدخول إلى المقام الشريف يهزّ الكيان ويوقظ في أعماق النفس حقيقة الوجدان، ويرقى بالعبد الخاطئ إلى حقيقة الإيمان...

"وَإِنِّي أَسْتأْذِنُكَ يا رَبِّ أَوَّلاً وَأَسْتَأْذِنُ رَسُولِكَ صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ثانِياً وَأَسْتَأْذِنُ خَلِيفَتَكَ الإمام المُفْرُوضَ عَلَيَّ طاعَتُهُ وَالمَلائِكَةَ المُوَكَّلِينَ بِهِذِهِ البُقْعَةِ المُبارَكَةِ ثالِثاًأَأَدْخُلُ يا رَسُولَ الله أَأَدْخُلُ يا حُجَّةَ الله أَأَدْخُلُ يا مَلائِكَةَ الله المُقَرَّبِينَ المُقَيمِينَ فِي هذا المَشْهَدِ"

هو التأدّب في الطلب، واستشعار عظمة المطلب، فأنت لا تدخل إلى بيت إنسانٍ استثنائيٍّ فحسب، بل إلى بيتٍ من بيوت الله العامرة التي ﴿أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه﴾[3].

ولكن، لا بدّ من ترجمةٍ عمليةٍ للردّ الإلهيّ على طلب الإذن، ولا بدّ للمناجاة التي تبدأ عند الباب من صدىً يتغلغل ويترجم الجواب: إنه خشوع القلب الذي ينتاب العبد مع تلفّظه بهذه الكلمات، وإنها الدموع التي تجول في المآقي مع تردّد الخفقات...

ويزيد الخشوع أو يقل، وتنساب الدموع مدرارًا أو تشحّ، ولكن كرم الخالق يبقى هو الدليل الأجلّ:

"فَأْذَنْ لِي يا مَوْلايَ فِي الدُّخُولِ أَفْضَلَ ما أَذِنْتَ لأحَدٍ مِنْ أَوْلِيائِكَ ، فَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلاً لِذلِكَ فَأَنْتَ أَهْلٌ لِذلِكَ."[4]

وهنا يخبرنا العلماء والعارفون، أن طلب الإذن بخشوعٍ وخضوع ورقة قلب، ستصاحبه حتمًا دمعةٌ ما... فإن لم تكن فلا بأس بالتباكي، من قبيل محاولة استدرار الدمعة رغبةً بها وبعظيم ثوابها وجلال قدرها...

إنها دمعة الدخول إلى فناء قدس الله، ورحاب معرفة الله، أفلا تكون من تلك الدموع التي تفتح الأبواب الموصدة، فكيف بأبواب رحمة الله المفتوحة لعباده؟

إذن الدخول إذًا هو أول قرعةٍ على باب المحبوب، وأول دمعةٍ تذرفها عيون العاشقين في مطلع الدروب، وتكرّ بعدها الخطوات والدموع، وتنفتح آفاق المقام عن شمسٍ لا تعرف الغروب...

وأقولها لكلّ زائرٍ يريد أن يحظى بجوهر الزيارة المكنون: لا تهملنّ إذن الدخول، فهو الركن الأول ومفتاح الكنز الأمثل، ولئن دخلت بيت الله بعدما استشعرت ذاك الإذن المبارك، فلقد فُتحت لك أبواب رحمته الواسعة، ولا مغلق لما فتح الله، فعلى بركة الله تمضي، وبين يديه الكريمتين تضع قلبك وروحك وحوائج دنياك وآخرتك، فأحسن الظن بما عنده، وتوكل عليه يكفك، وتكلّل بطاعته ورضاه.


[1] سورة التوبةن الآية 32

[2]سورة الأحزاب، الآية 53

[3] سورة النور، الآية 36

[4] دعاء الإذن، بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج99، ص145


العودة إلى الأعلى