من أكسب الثقافة الغربية حق الكلام نيابة عن الجميع؟

: اسراء الربيعي 2024-06-26 08:14

يدعي الكثير من دعاة الثقافة الغربية والفلاسفة والمفكرين المنضوين تحت خيمة هذه الثقافة بأن الغرب وحده من يمتلك حق تحديد المفاهيم والقيم الأخلاقيّة للبشر، بما أن هذه الثقافة قد قطعت أشواطا طويلة في التطور والتقدم ومواكبة روح العصر، بحسب ما يدعي هؤلاء المتحمسين لهذه الثقافة، والمدافعين عن منجزاتها، والسؤال هنا هو من أكسب هؤلاء حق الحديث نيابة عن كل البشر الذين خلقهم الله متساويين في بعض العموميات ومختلفين في الكثير من الخصوصيات ؟


وعلينا قبيل الإجابة عن هذا السؤال المعقد أن نقرن الثقافة الغربية بنمط آخر حضاري مختلف، وهو نمط الثقافة الإسلامي الذي ترك لنا منجزا كبيرا ضمن منجزات البشر في الجوانب الحضارية والأخلاقية، فمن المعروف أن أوربا كانت في القرون الوسطى تغط في ظلام الجهل والتخبط إذا ما قورنت بالحضارة التي تقع على تخوم بلدانها، وهي الحضارة الإسلامية التي تعلمت من القرآن تقديس العقل والتفكير والتدبر في فهم هذا العالم الذي يحيط بنا في ضيقه على مستوى أنفسنا، وفي اتساعه على مستوى العالم، ولم يصبح العقل عند أوربا التي كانت تهيمن على مركزيتها هيمنة سلطة رجال الكنيسة التي كانت تتبع أبشع الوسائل للحفاظ على مركزيتها وسلطتها المناوئة للعقل وللتفكير العقلي الذي لم يفلت من قبضة هذه السلطة إلا مع بوادر الثورة الفرنسية عام 1789م، ولكن هذه الثورة لم تقتلع تأثير رجال الدين وسطوتهم في المجتمع الفرنسي، إذ بقي تأثير الثقافة الدينية (الكنسية) في المجتمع رغم محاولات إقصاء المرجعيات الدينية في أوربا وإحلال العقل بديلا لها، بوصفه قوة تمتلك القابلية على التشريع وسنّ القوانين التي تخدم الناس.

ولكن المشكلة في هذه المرجعية الجديدة التي طالب بها الأوربيون المتأثرون بمبادئ الثورة الفرنسية، أي المرجعية العقلية كبديل عن المرجعية الدينية، هي أنها مرجعية قد تكون مضللة أحيانا، فضلا عن كونها مرجعية ذات طابع فردي لا جماعي، فما تستسيغه أنت عقليا، قد لا يقرّه غيرك ولا يقبله عقليا، إذ لا يمكن أن يحكم الجميع منطق واحد والعقول بطبيعتها مختلفة، إذ لا وجود لعقل مطلق واحد، وهنا لا بد من حل لهذه الإشكالية، وقد وجده فلاسفة أوربا المعاصرين ومفكريها بالديمقراطية التي تعني أصلا (حكم الأكثرية) وبالتالي فبإمكان عقل الأكثرية أن يواجه المشاكل والأزمات التي تتعرض لها المجتمعات باتفاق الأكثرية وبالتصويت على القضايا غير المحسومة.

ولكن (عقل الأكثرية) لم يعالج الأمور كما ينبغي إذ تحول بمرور الزمن إلى عقل شمولي (ديكتاتوري) أنتج سلطات سياسية مستبدة على شاكلة (هتلر، موسوليني، ستالين) وكانت نتائج حكم هذه السلطات كارثية، لا سيما في التعامل مع الأقليات العرقية والقومية التي تكثر في أوربا، وكانت الإبادة الجماعية الوسيلة الوحيدة الملائمة لمعالجة هذه المشاكل الاجتماعية، وهنا يخفق العقل في المواجهة مرة أخرى.

وهنا لا بدّ من سبيل آخر يلجأ إليه الغربيون في معالجة إخفاق (عقل الأكثرية) فكانت (الليبرالية) هي سفينة النجاة للحياة الاجتماعية الأوربية التي تطورت كثيرا بفعل التغيرات الكبيرة التي وقف التطور التكنلوجي والقفزات الصناعية والإنتاجية التي غيرت من نمط الحياة الأوربية كثيرا.والليبرالية هي (مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، ففي الميدان السياسي وعلى النطاق الفردي: يؤكد هذا المذهب على القبول بأفكار الغير وأفعاله ولو كانت متعارضة مع المذهب بشرط المعاملة بالمثل. وفي إطارها الفلسفي تعتمد الفلسفة النفعية والعقلانية لتحقيق أهدافها، وعلى النطاق الجماعي: هي النظام السياسي المبني على أساس فصل الدين عن الدولة، وعلى أساس التعددية الأيديولوجية، والتنظيمية الحزبية والنقابية، من خلال النظام البرلماني الديمقراطي بسلطاته الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية للحفاظ عليها) والليبرالية سعي لضمان حق الفرد وحق الأقليات إزاء الأكثرية الغالبة، وهكذا فالحل مزاوجة بين الديمقراطية التي تصون حق الأكثرية وبين الليبرالية التي تصون حق الأقليّة في الاختلاف، وبذلك ظن مفكروا الغرب أنهم وصلوا إلى الحل النهائي لمشكلة الحق والحقوق البشرية في التوافق والاختلاف.

ولكن في الحقيقة لم تنته المشكلة بهذه المزاوجة، لأن الليبرالية هي القشة التي قصمت ظهر الثقافة الأوربية، وكانت السبيل إلى تدحرج أمور أخرى كبيرة تخرج من تحت عباءة الليبرالية، ومثلما كانت الأغلبية تسحق الأقليات بحكم الديمقراطية، صارت الأقليات أفراد وجماعات تتصرف تصرفات أخرى تخرجها من إطار المجموعة، وبحكم حرية الاختيار أو الحرية التي لا تتعارض مع الآخرين، فأضحت تظهر أمور تهدد كيان المجتمع وتحطم أسوار الأسرة نواة هذا المجتمع، من قبيل حرية اختيار النوع، والجندرية، وزواج الأمثال، والزواج بالحيوانات، وما إلى ذلك من أمور تحيّر ذوي الألباب.

فضلا عن كون الليبرالية قد تحولت في السلوك الغربي إلى أداة قمع بدلا من كونها وسيلة تحرر، فأوربا-الآن- تعارض من ترتدي الحجاب من النساء، ولا تدخل ذلك ضمن نطاق الحرية الفردية الذي نشأت عليه الليبرالية، أي أن الحرية هنا صارت مرهونة لا بمن يسلك سلوكا ما يختاره، وإنما بحكم آخرين على هذا السلوك من خارج نسقه الثقافي، فالمرأة المسلمة تصادر حريتها وتضرب قوانين الليبرالية عرض الحائط، لأن آخرين من غير المسلمين حكموا على أن هذا السلوك (ارتداء الحجاب) مرفوض ضمن قوانين الحياة الأوربية، وهنا قد حول الأوربيون ليبراليتهم إلى سلاح ذو حدين يستخدمونه بما تتطلبه برغماتيتهم ومنافعهم ورغباتهم الخاصة، عائدين بذلك إلى حكم الأغلبية دون أن يشعروا.

وما ننتهي إليه مما سبق أن الحرية لا يمكن تركها للعقل، لأنها قد تصل بالإنسان الى إفساد فطرته الإنسانية التي فطره الله عليها وجعلها إلى جانب العقل وسيلة للإدراك والحكم، فما أوصلته الليبرالية من إطلاق للحريات أوصل حرية تغيير الجنس -على سبيل المثال- للأطفال الذين باتوا أولياء أمورهم غير قادرين على ثنيهم عن قرار تغيير فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وبذلك فسدت الفطرة عند هذه المجتمعات، وصارت تدخل أنفسها بأنفاق مظلمة لا تدري كيف تخرج عنها !

إن ما أوقع الغرب في إشكالياته التي باتت تهدد وجوده ككيان اجتماعي ثقافي يكمن في نزعه القدسية عن نصوصه الدينيّة المشرعة التي كانت تحكم إيقاع المجتمع وتضبط نبضات قلبه، وهذا الأمر ينعكس على المجتمع الإسلامي الذي ما زال مشدودا إلى مرجعياته المقدسة مما يجعل من حريته مقننة ومنضبطة بتقاليد هذا المقدس، الذي يهب المجتمعات الإسلامية أصالتها وثوابتها ، وعدم انجرافها وراء صيحات الناعقين في أودية تضليل الناس، وحرفهم عن جادة الصواب، وخروجهم عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.

والمشكلة أن الغرب يظن بتقديسه للحرية انه أطلق عبقرية الإنسان، وأنه بترك المجال للإنسان أن يفعل ما يريد قد أعاد للإنسان قيمته في وجوده، وهو قد فعل ذلك من دون أن يربطها بالحق والعدالة لكي تكون قيمة لذاتها، فالغرب يريد الحرية لذاتها بينما يريدها الإسلام مقرونة بالحق والعدل والخير، وهذا مجال الصدام بين حضارتين مختلفتين، حضارة تفكر على وفق أطر منضبطة تخدم غايات وجود الإنسان على الأرض، وحضارة أخرى تفكر على وفق أطر غير منضبطة ولا تخدم إلا غايات وقتية تخدم الفرد وإن كانت تدمر المجتمع.

وبذلك وصل الغرب إلى قناعة أنه بتغليبه للحرية الفردية وتقديسها لها بغض النظر عن كونها تخدم غاية وجود المجتمعات، أنه بذلك قد فاق المجتمعات الأخرى فكرا وتفكيرا في مفاهيمه للأمور التي هي بحقيقتها مفاهيم سائلة لا تستقر على حال واحد عند اثنين من البشر، فما بالك بكل البشر.

فضلا عن أن الغرب يظن أن قيمه الخاصة هي قيم إنسانية، في حين أنها ليست كذلك بالضرورة، فالغرب مثلا وقف موقفا عدائيا من الحرب الأوكرانية الروسية، لكنهم لم يتحرك لهم ساكن حينما يرون آلاف الضحايا من أطفال غزة تسقط بيوتهم على رؤوسهم، وكأنهم لا ينتمون إلى الإنسانية ! إنه منطق القوة والغطرسة والإعجاب بالذات المنتفخة والمريضة بنرجسيتها المفرطة.




العودة إلى الأعلى