عناد غزوان 1934م-2004م بعيدا عن تعنيف النصوص
بما أن النقد الأدبي نشاط ذهني يأتي لاحقا للعملية الإبداعية، فهو يدأب -إذن- ليكون أقرب إلى روح الإبداع نفسه مع ضرورة توسله بمجموعة معارف لا مندوحة عنها، تبدأ من علوم اللغة والبلاغة والصرف والعروض وتنتهي بعلوم أخرى مجاورة كالاجتماع والنفس والاقتصاد والتاريخ والآثار وسوى ذلك.
وقد ظلّ النقاد في حسابات الكثيرين من أهل النظر لا يتجاوزون أنماطا أربعة مألوفة، فناقد ابتلع النظريات والمناهج الأيديولوجية وتشبّع بها أكثر من تشبعه واحتكاكه بالنصوص الإبداعية التي قد لا يعنيه من أمرها شيء قدر تمرين قناعاته الأيديولوجية المسبقة، وآخر امتلك عدة لغوية ومصطلحا نقديا قديما أو حديثا مفتقرا - في الغالب- للدقة والوضوح، ثمّ راح يوظف إياه في قراءة أي نص يلقاه لينتهي إلى دوران في دوامة مغلقة لا تنتهي إلى ما يسرّ أو ينفع، وثالث يتعامل مع النص على أنه شكل خالص فيقتل أو ما يقتل فيه نبضه الإنساني وعاطفته الموّارة دون مراعاة لأسس المعرفة الصحيحة والمقتضية للموضوعية والوضوح، ورابع أهمل شكل العمل الأدبي واحتفى بعواطف صاحبه وانفعالاته الحادّة واتخذ من حدسه الشخصي الخاص ومن حسّه الفني أساسا ومعيارا يحاكم من خلاله النصوص وأصحابها!
غير أن الناقد الذي ينطلق من كون هذا النشاط فنا خلاقا يغني التجربة الإبداعية ويثريها إذا ما توافر للناقد وعي حاد وثقافة موسوعية سيكون قادرا على النفاذ إلى جذور هذه التجربة في علاقاتها الفلسفية والاجتماعية والنفسية، وهو ما يمكن أن ينطبق على اشتغالات الناقد المبدع (عناد غزوان).
ولد الأستاذ غزوان في مدينة الديوانية سنة 1934، وتعلم العربية والقرآن الكريم في كتاتيبها، ثم تهيأت له فرصة الدراسة في دار المعلمين العليا، ونظرا لنبوغه وتفوقه على أقرانه أرسل ببعثة دراسية إلى جامعة رونك بانكلترا 1959م ، فتحصل على شهادة الدكتوراه في الادب العربي من جامعة (درم) بانكلترا سنة 1963م. وعند عودته للعراق اشتغل بمجال التعليم العالي، فيما تنوعت –عندها- نتاجاته العلمية بين التأليف والترجمة، وقد تجاوزت اصداراته العشرة كتب ولعل أهمها:
(1) الشعر والفكر المعاصر، 1974م. (2)مكانة القصيدة العربية بين النقاد والرواة العرب 1967م. (3) خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مترجم بالاشتراك مع جعفر صادق الخليلي 1981. (4)نقد الشعر في العراق بين التأثرية والمنهجية 1985. (5) آفاق في الادب والنقد 1990 (6) أصداء 2000 (7) أسفار في النقد والترجمة 2006، وسوى ذلك من كتب أخرى.
وقد كان لثقافة (عناد غزوان) واطلاعه الواسع على الموروث الأدبي العربي واحتكاكه المباشر بالأدب الإنجليزي أثره البالغ في صياغة مفاهيمه الأدبية التي لم تكن لتنتصر للقديم لأنه قديم، ولا للحديث لأنه حديث بقدر ما تنتصر للإبداع بما يحمل من قيمة فنية عليا، وبما يشتمل على مضامين إنسانية فريدة، ومن هنا كان تعامل غزوان مع النصوص الشعرية التي استرعت اهتمامه أكثر من النصوص النثرية والسرديّة تعاملا يجري على وفق معايير تحفظ للشعر العربي امتيازه ورفعته شكلا ومعنى.
أما هذه المعايير فتبدأ من مرحلة التذوق التي تحمل بدورها حكما بالقيمة، باعتبار أن اختيار نص دون غيره يشي بنوع من الحكم بالقيمة، ثم هناك مرحلة لاحقة هي مرحلة توظيف المنهج الذي يختاره ويقرّره النص شرط أن يكون هذا المنهج مدعوما بالأسس النظرية والتطبيقية السليمة.
إن روعة الحكـم النقدي في دارسة التجربة الأدبية وتحليل أبعادها الفنية – بحسب عناد غزوان- هي: ((تلك التي تنطلق من التجربة ذاتها بوصفها عملا إبداعيا في الاصل، ثم تسعى في هدى هذا الفهم الداخلي- الذاتي للنص الإبداعي إلى ربطه بالنظرة الأدبية العامة التي توصف بأنها شاملة ومترامية في أبعادها ومساحتها الأدبية- الفنية، علما أن النظرة أو المستوى الأدبي العام هو جزء لا يتجزأ من الكيان الفكري أو المستوى الأيديولوجي وقيمها الاجتماعية، تلك القيم التي تمثل على وجه الدقة فلسفة صاحب التجربة ونظرته إلى الواقع والحياة اجتماعيا وقوميا وإنسانيا)).
ولذا كانت تطبيقات غزوان وقراءاته للشعر العربي تستند إلى منهج تكاملي منفتح يهتم بتوصيف الشكل الأدبي دون أن يهمل مضمونه الاجتماعي والإنساني، والنص وإن كان بنية لغوية بالأساس فإن (عناد غزوان)الناقد المبدع لن يرفض ما يفيض به وعاء هذه البنية من إحالات على خارجها، كطريقة تنشئة الشاعر في طفولته وتدرّجات وعيه السياسي أو الثقافي ومحيطه البيئي وتجربته الإنسانية الخاصة.
ولعل أبرز صورة حية للإجراء النقدي البعيد عن تعنيف النصوص وتقويلها ما لم تقل عند عناد غزوان هي تلك التي جاءت عليها طريقته في التعامل الإبداعي مع قصيدة جبران خليل جبران (المواكب) التي نشرها في مجلة الأقلام في باب (نص ونقد) سنة 1987م، ثم أعاد نشرها في كتابه (أصداء) موظفا مهارته وذوقه ومعرفته النقديّة، ومنطلقا من أن نص (المواكب) يرتكز على مبدأ (طباق بلاغي) على مستوى المعجم اللغوي وعلى مستوى التركيب ثم على مستوى الإيقاع الشعري وصولا إلى الصورة الشعرية والمعنى المنفتح بدوره على طباق أو جدل البقاء والفناء، أو الوجود والعدم...