السيد محمد هادي الخراساني.. الورع البارع الهادي المَهدي
إذا ما تأملنا تاريخ مدينة كربلاء المقدسة نجد قائمة طويلة من العلماء الأعلام والمفكرين الذين سكنوا فيها ودرسوا في مدارسها، حتى أصبحوا بدورهم علماء ومراجعَ يعتزُّ ويفخر بهم العالم الاسلامي، ومن بين هؤلاء الأعلام السيد محمد هادي الخراساني- أعلى الله مقامه- وهو السيد ميرزا محمد هادي بن السيد علي بن السيد محمد الخراساني الحائري، أحد الأعلام البررة, وقد عاش حياةً زاخرةً بالعلم والعطاء، وكان قدوة للعلماء المتبحِّرين، وسيّد للفقهاء والمجتهدين، وعمدة العلماء العاملين، ومن نخبة الأفاضل والمجتهدين.
كربلاء والنشأة العلمية
ولد السيد في كربلاء المقدسة، في غرة ذي الحجة الحرام سنة 1297 هـ، وسماه أبوه (علي نقي) وعرف ب: (هادي) ويذكر ب: (الميرزا هادي) و(محمد هادي) الحسيني، الخراساني، البجستاني، الحائري، وهو ابن العالم العامل التقي، العلامة الورع الجليل السيد الأمير علي الحسيني، البجستاني، بن السيد محمد، بن الأمير أبي طالب، بن الأمير كلان، وهو الجد الأعلى ومن الشخصيات المرموقة في مدينة (بجستان) احدى توابع محافظة خراسان.
ويقول السيد الخراساني عن بداية نشأته في كربلاء "كان بدء نشأتي في الحضرة الحسينية وببالي أن والدي رجع من إيران وأنا ابن أربع سنين، وكان ذلك في حدود سنة 1301هـ ، وفي كربلاء أتقنت قراءة القرآن والأدعية وأنا ابن سبع سنين بصورة جيدة".
دخل الكتاب، فأتقن القراءة والكتابة، وهو ابن سبع سنين، وانتهى في سنة 1309 من دراسة أوليات الأدب من النحو والصرف، ونشأ بين أحضان والده, فكانت نشأته الأولى في الروضة الحسينية المقدسة؛ ثم هاجر به والده إلى خراسان، ومكث في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام) من سنة 1309 - 1314 هـ، مكباً على تحصيل المقدمات لدى أساتذتها، ورجع سنة 1314 هـ إلى كربلاء، وانقطع إلى دراسة الفقه والأصول، وفي شوال سنة 1315 ه هاجر إلى النجف الأشرف، حاضرة العلم، فاشتغل بتكميل كتب السطوح العالية، مضافاً إلى حضور دروس المعقول عند أساتذته.
وهاجر في سنة 1320 هـ إلى سامراء، وبقي هناك بطلب من كبير علمائها الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي زعيم ثورة العشرين، وأقام في سامراء مشتغلاً بالحضور لدى الشيخ الشيرازي، وكان يعدُّ من أفاضل تلامذته المرموقين، فقام بتدريس الخارج فقهاً وأصولاً.
من أقوال العلماء فيه
تحدث عنه وعن منزلته العلمية ومؤلفاته وحياته العديد من العلماء والمراجع منهم: العلّامة المحقِّق السيد محمد مهدي الموسوي الكاظمي في كتابه (أحسن الوديعة) ما نصّه: "إنَّ سماحة عماد الفقهاء الراشدين وسناد الأعلام الورعين الميرزا هادي الخراساني من أساطين أعاظم المجتهدين الجامعين للشـرائط، وهذا في غاية الوضوح كان من أكابر فضلاء المعقول والمنقول، وكان عارفاً برجال التاريخ والحديث والتفسير والعربية، ماهراً في الفنون العقلية والنقلية، تتلمذنا عليه سنين عديدة واستفدنا من جنابه مدَّة مديدة ،وأجازنا بتمام طرقه".
قال عنه الشهيد السيد محمد تقي الجلالي: "المجتهد الكبير، والعلامة النحرير، فريد دهره، ووحيد عصره".
وقال عنه الشيخ أغا بزرك الطهراني في طبقات أعلام الشيعة: "قدوة العلماء المتبحّرين، وسيّد الفقهاء والمجتهدين".
وقال عنه الشيخ محمد صالح الكاظمي: "السيد الجليل والعالم النبيل الذي لم يسمح بمثله الدهر ومن بحر علم يلفظ الدرر، الغاية القصوى والآية الكبرى، عضد الدين الحنيف، مالك أزمّة التأليف والتصنيف، الساهر بالرواية والدراية، موضح الفروع والسنن المشروح صدره للعلوم شرحاً السيد السند المتصل النسب بالنبي (صلى الله عليه وآله) حجة الإسلام آية الله في الأنام أعلم العلماء الأعلام ومولانا السيد ميرزا هادي الخراساني...".
مؤلفاته
صاحب (عروض البلاء على الأولياء) والعشرات من المؤلفات التي تعد من ذخائر التراث، وقد خلّف ثروةً علمية كبيرةً من المؤلّفات بلغ عددها 143 كتاباً ورسالةً، طبع منها (17)، بالإضافة إلى آثاره المطبوعة ما نذكر منها: (أصول الشيعة وفروع الشـريعة, حاشية على مكاسب المحقق الأنصاري, هداية الفحول في شرح كفاية الأصول, دعوة الحق إلى أئمة الحق، رسالة لسان الصديق)، وغيرها من المؤلفات الأخرى من الكتب والرسائل والتعليقات التي كتبها بخطِّ يده، كما قام حفيده الشهيد السيّد محمد تقي الجلالي بتحقيق بعضها، وقد أعدّ كتابا بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته عام 1418هـ بعنوان «سيرة آية الله الخراساني» استوعبت ترجمته.
جهاده الانكليز
لما استعرَت الحرب العالمية الأولى سنة 1333 هـ انتدبه أستاذه الشيخ التقي ليمثله في بعض المهمات الخاصة، وأوفده إلى إيران، وفي شهر شوال من سنة 1335 هـ خرج بصحبة الشيخ الأستاذ مهاجرين من سامراء، وأقاموا مدة في الكاظمية، والسيد يلازمه ملازمة الظل، بعدها عاد إلى كربلاء بصحبة أستاذه الشيخ الشيرازي في 18 صفر 1336ه مع بقية رجال العلم وطلبته وفيها كانا على موعد مع إطلاق الشرارة الأولى لثورة العشرين من صحن الإمام الحسين (عليه السلام) ضد الاحتلال الانكليزي والتي أطلقها الميرزا الشيرازي ليبقى هذا المكان المقدس منبع الرفض للظالم والمحتل فوقف الخراساني إلى جانب الميرزا ولازمه في جميع المواقف وعمل تحت قيادته وتوجيهاته وشارك في العمل بها فكان من جنود ثورة العشرين التي أطلقها أستاذه، وكان معتمده ومرافقه، وقد شاركه في جهاده.
أعباء المرجعية ومواقفه الخالدة
ينقل الكاتب (محمد طاهر الصفار) في مقال له نشره على الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة قوله:
بعد وفاة الميرزا الشيرازي عام (1338هـ/1920م) كان السيد الخراساني المرشح الأول لقيادة المرجعية وقيادة الحوزة العلمية في كربلاء من بعده وكان أهلا لذلك فمارس دوره القيادي وأدى رسالته كمرجع في قيادة الأمة وكان له دور مؤثر على الصعيد الاجتماعي والسياسي من خلال مواقفه المشرفة في الدفاع عن حقوق العراقيين، ومن مواقفه تلك احتجاجه الشديد وتنديده بقرارات الحكومة التي شكلها (طالب النقيب) التي كانت تصب في مصلحة الاحتلال والتضامن معه، وكان من هذه القرارات التي استنكرها السيد الخراساني هي ترحيل قيادات ثورة العشرين والمنتقدين لها، ومنهم الشيخ الخالصي الذي رحل عام (1923) إلى إيران، وكان ممن احتج على هذا القرار إضافة إلى السيد الخراساني كبار علماء الدين ومراجع الحوزة الشريفة ومنهم الشيخ النائيني وآية الله الأصفهاني.
كما كان له وقفة احتجاج ضد القرار الأهوج بتهديم منارة العبد الشهيرة من قبل (ياسين الهاشمي) فأرسل برقية احتجاج بذلك إلى الملك فيصل الثاني وبرقية ثانية إلى الوصي عبد الإله انتقد فيهما بشدة تخريب معالم المدينة المقدسة, وعندما قام الوهابيون بهدم قبور أئمة البقيع عام (1925) تأثر الخراساني من ذلك كثيرا وأدان ذلك بشدة وأرسل عدة برقيات إلى الحكام السعوديين احتجاجا على هذه الجريمة وكان له أكثر من وقفة لإثارة الرأي العام ضدهم وألف كتابا في الرد على عقائدهم الفاسدة المنحرفة سماه (دعوة الحق إلى أئمّة الخلق) أبطل فيه عقائد هذه الزمرة الفاسدة التي سعت إلى التفريق بين المسلمين وتكفيرهم والاستخفاف بعقائدهم.
حتى قال عنه السيد محمد رضا الحسيني الجلالي في كتابه (ثبت الأسانيد العوالي بطرق محمد رضا الجلالي): "عمدة العلماء العاملين، ونخبة الأفاضل والمجتهدين، ملاذ الأنام، وثقة الإسلام سيّدنا الأعظم سماحة آية الله العظمى السيّد الميرزا محمّد الهادي الحسيني الخراساني الحائري".
وعندما استقرت الأوضاع استقلَّ بعده بالتدريس والإمامة، انقطع السيد إلى التدريس والتأليف، والإفتاء، وقضاء أمور المؤمنين، فكانت له الزعامة العلمية في كربلاء، وقلده جماعة من أهلها، كما قلده جمع من أهالي بغداد وخراسان وطهران، وكان يعدُّ من كبار فقهاء الطائفة وأصولييها، مع التبحر في العلوم العقلية، والكلامية، وعلوم القرآن والحديث.
وبعد هذه الرحلة الشاقة التي خاضها خلال عمره المبارك بين التحصيل والتأليف والجهاد والفتوى والعمل لله، آن لهذه الروح أن تستريح من عناء الدنيا فقضى نحبه في 12 ربيع الأول 1368 هـ ودفنَ في العتبة الحسينية المقدسة، وقد أغمض السيد الخراساني عينيه عن هذه الدنيا إلى الأبد عن عمر (69) عاماً كانت حافلة بالجهاد والعلم ودفن في الصحن الحسيني الشريف, وكان يوم وفاته يوما عاصفا بالحزن والأسى فعطلت الأسواق والمدارس العلمية وأقيمت المآتم في عموم العراق وإيران ورثاه كثير من الشعراء منهم الشيخ عبد الحسين الحويزي بقوله:
عن هذهِ الدنيــا مضى سيّدٌ *** سادَ الورى بـالجــــدِّ والجدِّ
نواحساً أيّامها أصبـــــحت *** مذ غابَ نجـمُ اليُمنِ والسعدِ
إذ كان نوراً ومنــــــاراً بهِ *** للخلقِ يـــزهـو منهجَ الرشدِ
والعلمُ أضحى جيدَهُ عاطلاً *** وأنبتَّ سمــــط جوهرِ العقدِ
أروع في تــــاريخِهِ (ماجدٌ *** هادَ البرايــــا قرَّ في الخُلد).
* الأميني أعيان الشيعة ج8ص366، مجلة تراثنا ج37 ص215.