صلاة الليل في القرآن والحديث.. بين المجتمع القديم والحديث (1)
- نظرة عامة في الصلاة الواجبة وحرمة تركها:
لايختلف الفقهاء والعلماء، ولا العامة والمقلّدون، في وجوب الصلوات اليومية وغيرها من الصلوات الواجبة، كما لا يختلفون في ما للصلاة من أثرٍ إيجابيٍّ وضروريٍّ في بناء النفس البشرية وتنمية الملكات الروحية للإنسان، حيث يتفاوت ذلك الأثر بتفاوت درجات إتقان العمل، وبالتالي درجات القبول الإلهي المحتمل.
وقد نصّت شريعتنا السمحاء على الصلاة في محكم الكتاب المبين، وجعلتها "عمودًا للدين، إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت رُدّ ما سواها"، وذاك لما فيها من خصوصيةٍ عباديةٍ تتمثّل في تلك العلاقة الوثيقة بين الفرد وربّه، التي عبّر عنها الإمام الرضا عليه السلام بقوله:
"في الصلاة الإقرار بالربوبية، وهو صلاحٌ عام لأن فيه خلع الأنداد، وقيامٌ بين يدي الجبار بالذلّ والاستكانة والخضوع والخشوع والاعتراف وطلب الإقالة من سالف الذنوب، ووضع الجبهة على الأرض كل يومٍ وليلة، ليكون العبد ذاكرًا لله غير ناسٍ له، ويكون خاشعًا وجلًا متذلّلًا طالبًا راغبًا في الزيادة للدين والدنيا، مع ما فيه من الانزجار عن الفساد، وصار ذلك عليه في كل يومٍ وليلة، لئلا ينسى العبد مدبّره وخالقه فيبطر ويطغى، وليكون في طاعة خالقه والقيام بين يدي ربه زاجرًا ومانعًا له عن أنواع الفساد."[1]
من هنا فإن الصلاة، بما هي فريضةٌ واجبة، مقياس الإيمان، حيث يُعدّ تاركها مشركًا:
﴿... وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين﴾[2]
وقد قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الصلاة متعمّدًا فقد كفر جهارا"[3]
كما قال الإمام الباقر عليه السلام: "تارك الفريضة كافر" .
وإن منشأ التشديد على تكفير تارك الصلاة المفروضة، أن من يتركها لا يفعل ذلك لشهوةٍ غلبته، كالزنا مثلًا والعياذ بالله، أو لرغبةٍ تملّكته، كترك الصوم في شهر رمضان بسبب الجوع واشتهاء الطعام، ولا لحرصٍ على مالٍ أو جاه، كمنع الزكاة والخمس وتسويف فريضة الحج، مع حرمة كل تلك الأفعال وعظيم خطرها، فهي لا تؤدي إلى الحكم بكفر فاعلها، أما ترك الصلاة فهو بالدرجة الأولى نابعٌ من الاستخفاف بالأمر والحكم الإلهيّ، فهو إذًا مرادفٌ للكفر، وشاهد ذلك قول الإمام الباقر أيضا:
"... كل من ترك الصلاة قاصدًا لتركها فليس يكون قصده لتركها اللذة، فإذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف، وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر"
ومصداق ذلك أيضًا قوله تعالى:
﴿وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزوًا ولعبًا وذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون﴾
حيث يرتبط الهزء واللعب بالصلاة بانعدام التعقل والتفكر في نعم الله لدى الإنسان، وهو ما يؤدي إلى الكفر بلا شك.
- حول التعريف بصلاة الليل واستحبابها الأكيد وعواقب تركها:
إن كل ما تقدّمت الإشارة إليه من آياتٍ وأحاديث، تتّصل اتّصالًا وثيقًا بالفريضة الواجبة، وكان لا بد من إيرادها في المقدّمة لتبيان أهمية الصلاة عمومًا في الدين الإسلامي، ولبيان موقعها وخصوصيتها بالنسبة للفرائض الأخرى، بما هي أساس التوحيد ومصداق الشهادتين.
أما ما هو متعلّقٌ بالنوافل والصلوات المستحبة، وعلى رأسها صلاة الليل، فإن الدلائل كثيرةٌ على أهمّيتها البالغة، وكراهة تركها إلا للمضطرّ، حتى أتى التشديد على استحباب قضائها لمن فاتته، وهي بهذا تتفرّد بخصوصيةٍ تتميّز بها عن سائر النوافل، التي لم يرد فيها كل هذا الحثّ الذي يكاد يبلغ حدّ الوجوب، مع التنويه بفاعلها والتقليل من تاركها والتوصية بقضائها... ومن هنا أتى قول الإمام علي عليه السلام لرجلٍ جاءه يشكو إليه عدم توفيقه لقيام الليل فأجابه: "أنت رجلٌ قد قيّدتك ذنوبك!"
وصلاة الليل في صفتها هي نافلةٌ مستحبة، تتألّف من إحدى عشرة ركعةٍ يؤديها الفرد بين انتصاف الليل إلى طلوع الفجر، وركعتان يؤدّيهما بعد طلوعه، ليكون المجموع ثلاث عشرة ركعة، فأما الإحدى عشرة ركعةٍ الأولى، فهي ثمانيةٌ تؤدّى كل اثنتين على حدة، كصلاة الصبح، وثلاثةٌ اصطُلح على تسميتها الوتر، اثنتان هما الشفع وواحدة أخيرة تسمى الوتر أيضا، ولقنوت الوتر خصوصيةٌ تمّ التركيز عليها بأدعيةٍ مناسبة واستغفارٍ مأثور، يأتي الحديث عنها بالتفصيل الممكن في موقعها من هذا البحث.
وبما أن هذا البحث المختصّ بصلاة الليل من منظورٍ قرآني، هو موجّهٌ إلى أبناء هذا الجيل الحديث، جيل التحضّر والالتحاق بركب المدنية، زائفةً كانت أو حقيقية، لا إلى أجدادهم القدماء وآبائهم، فلعل الأجدر أن نبدأه بمقاربةٍ بسيطةٍ تقرّب إلى الأفهام ماهية هذه الصلاة بلغةٍ عصرية، وأهميتها ودورها في حياة الإنسان الواقعية، ومناقشة إمكانية أدائها وتطويع فعاليتها لهذا الزمان الصعب، كما كانت في الأزمنة السابقة، أو ربما أكثر، ثم ننتقل بعد ذلك إلى بيان أهمّيتها بشكلٍ عام، ومتابعة الأمور التي تحفّز على أدائها، ثم بيان توقيتها وكيفية التوفيق لأدائها وعواقب تركها، كل ذلك مع الشواهد المناسبة من القرآن والحديث، ومع إسقاط ذلك السلوك العبادي المتمثّل بها على إنسان عصرنا الحاضر.
وسيكون ذلك هو محور الجزء الثاني من المقالة إن شاء الله.
[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج4، ص9
[2]سورة الروم، الآية 31
[3]الصلاة في الكتاب والسنة، محمد الريشهري، ص158