الصيام عبر التاريخ الإنساني والصيام الإسلامي – دراسة مقارنة (2)
رصدنا في المقالة السابقة كيف كان لكل شعبٍ من شعوب التاريخ صيامه الخاص، الذي يلتقي مع صيام الشعوب السابقة له أو اللاحقة به، مع التأكيد على أن الصيام عمومًا، كفكرةٍ وشعيرة، انطلق أساسًا من التشريع الإلهي للصيام، الذي كُتب على الأمم الغابرة، بدليل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾، ولئن طرأ على هذه الشعيرة اختلاف وتحويلٌ وتبديل، فلأنها غدت متأثرة بالمنطلقات الفكرية والعقائدية لتلك الشعوب وأديانها.
وبعد عرضٍ مختصرٍ لأشكال الصيام وأبعاده عند الشعوب المعتنقة للديانات الوثنية، كان لا بدّ لنا من الوصول إلى عرضٍ مختصرٍ آخر لشعيرة الصيام عند الأديان السماوية، خلا الإسلام، وذلك لنعود فنرصد آثار ذلك الصيام وأبعاده المادية والمعنوية في المجتمع الإنساني، ومقارنتها بالتشريع الإلهي للصيام الإسلامي.
ثانيا: الصوم عند الأديان السماوية:
إن الصوم الذي سنّته الشرائع الإلهية منذ القدم هو شعيرة تمتدّ إلى جذور الإنسان الأول، ولئن كان الصوم عند الشعوب الوثنية مرتبطًا تاريخيًّا وإنسانيًّا بتلك الشعيرة الضاربة في أعماق التاريخ، فحريٌّ به أن يكون أشدّ ارتباطًا بها عند الشعوب المعتنقة للديانات السماوية، فهي وإن طالها التحريف والتحوير، لا بدّ من أن تحافظ بشكلٍ ما على شعائرها الأساسية، لاعتبارات عديدة أهمها أن التحريف الذي طال الأديان كان غالبًا ما يمس العقائد الجوهرية، لأسبابٍ ليس هنا مجال بحثها، أما الشعائر فكانت تحافظ على مظاهرها، وتختلط بما سنّته الأعراف التي عايشتها تلك الشعوب على مرور الأعوام والأحقاب والقرون.
· الصوم عند اليهود: يعتقد اليهود أن الصوم بشكله المتّبع لديهم قد سُنّ في عهد النبي موسى عليه السلام، ويقتصر صومهم على ستة أيامٍ في السنة فقط، حيث يصومون عن الطعام والشراب والجماع، ويصومون عن الاستحمام وتغيير الملابس والتعطر وغسل الأسنان وارتداء الأحذية، كما يصومون عن العمل... وهناك الصوم الكبير الذي يمتدّ من قبل غروب الشمس إلى بعد غروب اليوم التالي، والصوم الصغير الذي يبدأ من شروق الشمس إلى غروبها فقط، وأيام الصيام لديهم عمومًا تترافق مع مناسباتٍ مميّزة في تاريخهم، كصوم 13 نوفمبر تشرين الثاني، (صيام جداليا)، لإحياء ذكرى مقتل حاكم أورشليم، أما اليوم العاشر من تيفيت (في التقويم العبري) فيصومونه باعتبار أنه أول يومٍ لحصار القائد بختنصر البابلي لأورشليم، ويوم الثالث عشر من مارس آذار (صيام استير)هو إحياءٌ لعيد الفور، في ذكرى خلاص اليهود من مجزرة هامان، وأما صيام يوم الغفران (يوم كيبور) الذي يقع في أكتوبر (تشرين الأول) أو سبتمبر (كانون الأول)، فهو أهم أيام الصيام عند اليهود، حيث يستمرون بالصيام لخمس وعشرين ساعة متواصلة، يواظبون فيها على العبادة ويرتدون البياض، ويقصد المتديّنون منهم إلى حائط البراق (حائط المبكى) الذي يشكّل جانبًا من الجهة الغربية للحرم القدسي المحيط بالمسجد الأقصى، وصوم يوم الغفران هو اليوم الوحيد من أيام صيام اليهود الذي جاء الأمر بصومه في تشريعات التوراة، أي الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام (سفر التكوين وسفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية).
ويترافق الصوم عند اليهود مع الحزن واستجلاب رحمة الرب ودفع المصائب والهلاك، كما جاء في سفر يوئيل (2: 12): "الآن يقول الرب ارجعوا إليّ بكل قلوبكم، وبالصوم والبكاء والنوح".
ويتمّ إعفاء الحوامل والمرضى من الصيام، وكذلك بعض المسؤولين الذين يؤثر الصيام على عملهم.
وينقسم الصوم عند اليهود إلى نوعين: الصوم الفردي الذي يقوم به الفرد لهدفٍ شخصي، كالتكفير عن الذنوب أو التعبير عن الحزن، والصوم الجماعي الذي تمارسه المجموعة لأهدافٍ عامة، وهو غير ثابت عمومًا، عدا صوم يوم كيبور كما أسلفنا.
· الصوم عند المسيحيين: لم يتمّ تشريع الصوم عند المسيحيين بحسب نصوص الإنجيل المتداولة حاليًّا، بل إن الكنيسة هي التي شرّعته بحسب التقاليد الكنسية، ثم جرت العادة على ذلك في العصور اللاحقة، وتغيّرت شروط هذا الصوم بحسب المذاهب، وتشترك جميع الطوائف المسيحية في توقيت الصيام الذي يمتدّ لأربعين يومًا قبل عيد الفصح، ثم زيدت فيما بعد لتصبح ستة أسابيع، أو ما يعرف بالصيام الأكبر.
ويتنوع الصيام بحسب الطوائف، فتتفق الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية في الصيام الكبير، ومدته خمسون أو خمس وخمسون يومًا، ويتم ضبطه بالطرق الفلكية، أما شروطه فهو الامتناع عن أكل اللحوم والألبان والأجبان والبيض يومي الأربعاء والجمعة، وذلك من منتصف الليل إلى منتصف النهار، ويلتزم به الرجال حتى سن الستين والنساء حتى سن الخمسين، ويبدأ به الأطفال من سنّ السابعة.
أما الكنيسة البروتستانتية فهي تعدّ الصوم أمرًا مستحبًّا أي غير واجب،حيث يقرّر الصائم لنفسه الصوم وكيفيته وفق رغبته الشخصية، وله أن يأكل ما شاء من الأطعمة.
ومع أن الصوم المسيحي لم يكن يعدّ فريضةً تشريعيةً واجبة، إلا أن بعض نصوص الإنجيل ذكرت له شروطًا وضوابط، أهمها الإخلاص وعدم الرياء، حيث جاء على لسان المسيح عليه السلام في إنجيل متى (6: 16-18) .... " ومتى صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرائين، فإنهم ينكّرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم: إنهم قد نالوا أجرهم، أما أنت فمتى صمت فطيّب رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفية، هو الذي يجازيك"، ويرى فريقٌ من المسيحيين أن المسيح لم يفرض عليهم صيامًا إلا الصوم الكبير (صوم يوم الكفّارة) السابق لعيد الفصح، وهو اقتداءٌ لصوم اليهود في يوم الكيبور.
ويرتبط الصوم عند المسيحيين بالتوبة والرجوع إلى الله وطلب رحمته، كما يرتبط بالعودة إليه في المصائب والأوقات الصعبة، بالإضافة إلى التذلّل لطلب القوة الروحية الإيمانية للانتصار على الشر، وكذلك بالخدمة والمهام الجليلة التي يكلف الرب الإنسان المؤمن بها.
· الصوم عند الصابئة (المندائيين): نورد هنا بعض مظاهر وقواعد الصوم عند الصابئة، إذا صحّ ما يعتبره الباحثون من أن الصابئة هي أقدم الديانات السماوية، وأنهم موحّدون يؤمنون بالأنبياء والرسل الأوائل، كآدم (النبي والرجل الأول) وسام بن نوح (المتعبد الخاشع) وإبراهيم ويحيى بن زكريا (يهيا يوهنا الحبيب المرتفع)، وهو النبي الأخير الذي يؤمن به المندائيون، أي أنهم لا يؤمنون بالنبي عيسى عليه السلام ولا برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويعدّ بعض صابئة اليوم الصوم فعلًا محرّمًا، لأنه من باب تحريم ما أحلّ الله، بحسب اعتقادهم، أما صابئة الأمس فكانوا يصومون نوعين من الصيام: الصوم الصغير وهو الامتناع عن أكل اللحوم المباحة لهم لمدة اثنين وثلاثين يومًا متفرّقةً على طول أيام السنة، والصوم الكبير وهو الامتناع عن الكبائر والأخلاق السيئة.
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الصيام في الديانات السماوية والوثنية على حدّ سواء، ونخلص إلى تجذّر الصيام في التاريخ الإنساني عمومًا، حيث كانت له أشكاله وضوابطه وقواعده ونتائجه التي أُريدَ من خلالها تهذيب النفس البشرية أو التكفير عن الذنوب أو التقرّب إلى الله، إلى آخر ما هنالك من أهدافٍ تلتقي عندها الأديان المختلفة، وإن هذا التشابه النسبي في الأسباب والأهداف يكفي للدلالة على وحدة منشأ الصيام، الذي نؤمن ونقرّ أن أصله تشريعيّ إلهي بحت، ثم جاءت الأديان والعقائد المختلفة لتعطيه أبعادًا تتفاوت فيما بينها، بحسب معطياتها وقواعدها.
وبما أن الإسلام هو أكمل الأديان، باعتباره خاتم الرسالات السماوية وخلاصة علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبمجتمعه البشري، فحريّ بالصيام الإسلاميّ المفروض أن يكون أكمل أنواع الصيام وأكثرها توافقًا وانسجامًا مع حاجات الإنسان وتركيبه الجسدي والروحي والنفسي، وهو ما سنقوم بتسليط الضوء عليه في المقالة المقبلة، بعقد مقارنة بين أسباب ونتائج الصيام حسب الشرائع كافة، مع تلك الموجودة في الإسلام، لنكتشف نظريا وعمليا معالم التفوق في التشريع الإلهي الإسلامي للصيام.