القرآن وكتب الحديث بين يديّ.. فلماذا أقلّد أحد المراجع؟ ح1
تُثار هذه الشبهة بين الحين والآخر: إذا كان المسلم عاقلاً ومدركاً وبين يديه كتاب الله المجيد ومجاميع كتب الأحاديث لأهل البيت الأطهار (عليهم السّلام) فلماذا يلزمه أن يقلّد مرجعاً في عباداته ومعاملاته الإسلاميّة؟
وهناك أسئلة أخرى من مثل: متى بدأ التقليد لدى الشيعة الإمامية؟ وما هو السند العقلي والنقلي لوجوبه على المسلمين؟ وهل مرجع التقليد يتعرّض لضغوط سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو نفسية في بلورة وصياغة فُتياه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي سيُجيبنا عليها أصحاب الفضيلة والسماحة..
يقول سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (قدس سره) في مجمل هذا الشأن:
كثيرا ما يختلط مقتضى التكليف الشرعي بالعادة والروتين، وتتحكم فيه العواطف والمصالح، فينحرف المكلف في تطبيق الحكم الشرعي عن حقيقة الحال غفلة وذهولاً. بل قد يتعمد بعض الناس ذلك-تبعا للهوى-تسامحا في اداء الوظيفة وتمردا عليها.
ومن ثم يحتاج لمثل هذا الحديث تنبيها للغافل، وموعظة للمتمرد، وهزا للضمائر الشريفة، كما قال الله تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾( 1 ).
كما ان هذا الانحراف قد يكون سببا في تشويه حقيقة التقليد والمرجعية لأن كثيرا من الناس لا يتسنى له أخذ الفكرة من مصادرها الاصلية، بل يأخذها من واقع تطبيقها العملي، فاذا خرج التطبيق عن الضوابط الحقيقية عكس صورة مشوهة للفكرة، ولا سيما وان الاجتهاد يحمل مفهوما آخر في الواقع القائم غير الشيعي.
وانما نقصد هنا بيان حقيقة الاجتهاد والتقليد والمرجعية عند الشيعة بواقعها المشرق المشرف حسبما اقتضته الادلة الشرعية، ومن عين صافية.
وبذلك نكون قد قمنا بما علينا من بيان الحقيقة والدفاع عن المرجعية الصحيحة، التي قد تظلم نتيجة الفهم الخاطئ لها.
ان الاساس في ذلك هما الاجتهاد والعدالة: اما العدالة فنقصد منها المرتبة العالية، وهي التي تمنع الشخص عادة من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية وان كانت صغيرة بحيث لو صدرت منه-نادرا-لأسرع للتوبة والانابة لله تعالى.
واما الاجتهاد فهو عبارة عن القدرة على اخذ الحكم الشرعي والوظيفة العملية من الادلة المعتبرة الكافية في الخروج عن المسؤولية امام الله تعالى. والفاقد للقدرة المذكورة جاهل، لا معنى للرجوع اليه وتقليده.
نعم مع العلم باختلاف المجتهدين-كما هو حاصل الان- لابد من ترجيح الاعلم مع الامكان، وتعد الأعلمية شرطا ثالثا.
ويعد ان يكون على مرتبة عالية من العدالة. وهي ارقى من العدالة المعتبرة في الشاهد وامام الجماعة. وانه اذا تساوى المجتهدان في العلم، يقدم للتقليد من هو اشد ورعا.. وهذا يوضح مدى ارتباط شدة الورع بالتقليد الذي هو اتباع العالم بالحكم الشرعي.
ان عدالة مرجع التقليد نابع من ان الامانة كلما عظمت وجلت احتاجت إلى التحصين بملكة رادعة عن الخيانة بنحو اقوى وأكد.
وبعد غياب العصمة عن مقام التبليغ بأحكام الله تعالى والقيام بالوظائف الدينية، فلا رادع عن التلاعب بالأحكام وضياعها والتفريط في الوظائف الدينية إلا قوة العدالة وشدة الخوف من الله تعالى.
فالمرجع في التقليد يتعرض لـ:
اولا: للضغط النفسي عند اختيار الحكم واستنباطه من الادلة، فان ادلة الاحكام غير منضبطة، والنفس بطبعها تميل للفتوى بما يطابق الظنون والقناعات والعواطف، فقد يجنح الباحث للحكم، وتلبس عليه نفسه، فيستوضح الادلة عليه بسبب ذلك، وقد يؤتى حظا من القدرة على الاستدلال واللحن بالحجة فيبرز ما ليس دليلا بصورة الدليل.
ولا حاجز له عن التلاعب أو التسامح أو التغافل في ذلك إلا الخوف من الله تعالى، وشدة الحذر من نكاله، حين يلتفت إلى ان الخصم المحاسب هو الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولا يخدع بالحجة الواهية، فانه حينئذ يتجلى له ان ما يقيمه من الادلة قد يصلح لأن يكون حجة له مع الله تعالى، وعذرا بين يديه أو لا يصلح فيحمله ذلك طبعا على استفراغ اوسع، واستكمال الجهد لمعرفة الادلة الحقيقية، والوقوف عندها واستنباط الحكم على اساسها.
وثانيا: للضغوط الاخرى الخارجة عن مقام الاستدلال، اذ كثيرا ما يكون الحكم الذي تقضي به الادلة الشرعية غير ملائم لرغبات السلطان أو العائلة، أو غير مناسب للظرف القائم، أو العواطف المتأججة.
كما قد يتعرض لضغط الانانية، بلحاظ حب الظهور في الابتكار، والتميز عن الاخرين، أو في التجديد والعصرنة، أو في التسهيل من اجل استقطاب أكبر عدد ممكن من الناس، إلى غير ذلك مما يدعو إلى محاولة التخلص من قيود الادلة الشرعية الحقيقية، والالتفاف عليها، والتشبث بالشبه والمبررات للخروج عنها.
ونحن نرى ان كثيرا من ذوي العلوم العملية التي تكون نتائج الخطأ فيها ظاهرة - كالطب والهندسة-قد يخون امانته تسامحا أو تعمدا لبعض الدواعي المادية - ولو مثل الكسل والضجر-ويتحمل تبعات عمله واقلها ظهور الخطأ عليه وفشله في مهمته عاجلا أو آجلا، فكيف يمثل علم الفقه الذي لا يظهر الخطأ والتفريط فيه لعامة الناس؟ وكيف يؤمن ذلك فيه لولا شدة التقوى والورع وقوة ملكة العدالة؟
وثالثا: ان مرجع التقليد بحكم مركزه معرض لكثير من المخاطر الدينية؛ بسبب ابتلائه بالأموال، وامتلاكه للجاه واحتكاكه بالناس، وذلك يجعله معرضا للدواعي الغضبية والشهوية والنزعات الشيطانية، فاذا لم يتحصن بقوة الورع والتقوى كان معرضا للسقوط والهلكة، ولتشويه صورة المرجعية والدين.
كل ذلك يؤكد حاجة مرجع التقليد إلى شدة التدين وكونه بمرتبة عالية من العدالة والورع وتقوى الله تعالى.
وعلى ذلك جرى شيعة اهل البيت عليهم السلام بمرتكزاتهم واجماعهم العملي على مر العصور، وهو من اقوى الادلة في المقام. مدعوما ببعض النصوص المذكورة في محلها وبذلك صار للمرجعية وجهها المشرق ونورها المتألق.
ولذلك نرى الشيعة يكنون لمراجعهم قدسية عالية لا وجه لها لولا انهم يفترضون فيهم القرب من الله تعالى بورعهم وتقواهم، وقيامهم بوظيفتهم الشريفة وهي ايصال احكام الله تعالى لعباده وقربهم منه.
ونسأله سبحانه وتعالى ان يثبت هذه الطائفة على هذا النهج اللاحب، والطريق الواضح، ويسددها في جميع امورها ويعصمها من الزيغ والانحراف ومن مضلات الفتن، انه ارحم الراحمين وولي المؤمنين.
هذا كله بالإضافة إلى اصل اعتبار كون العدالة بمرتبة عالية، واما ترجيح الأورع عند تساوي المجتهدين في العلم فهو يبتني على ان التخيير عند تساوي المجتهدين في العلم مخالف للأصل، والمتيقن حينئذ جواز تقليد الأورع(2 ).