عهد الإمام الحسن ((عليه السلام)) ــ البيعة العامة
عهد الإمام الحسن ((عليه السلام)) ــ البيعة العامة
الفصل الثالث/ الحلقة الثانية
ويعود الإمام الحسن (عليه السلام) بعد أن أخذت البيعة له ـ فينفتح عهده الجديد، بخطابه التاريخي والبليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الأمر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات وأخطار..
فيقول (عليه السلام) وهذا بعض خطابه:
(نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله في أمته، ثاني كتاب الله الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، وقال: ولو (ردّوه إلى الرسول وأولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله: (وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدوٌ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) فتلقون إلى الرماح أزراً، وللسيوف جزراً وللعمد حطماً، وللسهام غرضاً ثم (لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمر الأمراء ونظر في الأمور).
بداية الأزمة:
بعد أن أطلق جموع الناس البيعة للإمام الحسن (عليه السلام)، قام الإمام (عليه السلام) بدوره في إدارة الدولة الإسلامية، فاختار العمال والولاة على المناطق الإسلامية، ورسم مخطط تنظيم شؤون الدولة، وإعداد مستلزمات إدارة النظام السياسي في الأمة...
في الجبهة المقابلة، كان معاوية ـ آنذاك ـ مستمراً في تنفيذ مخطط المؤامرات السياسية بهدف تقويض الدولة الإسلامية... هذا المخطط الذي بدأ منذ عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والذي كان يهدف معاوية بذلك إلى توسيع مملكته وبسط نفوذه إلى خارج حدود الشام...
وبقيت جبهة الشام ثغرة واسعة في جدار الدولة الإسلامية، كما شكلت خطورة جدية على الاستقرار السياسي والهدوء الداخلي للأقطار الإسلامية الأخرى...
ولذلك حينما علم معاوية بأن الناس قد اجتمعت على بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) بدأت تعتمل في مخيلته فكرة شيطانية تقضي بإثارة الفتن الداخلية وخلق مناخ متقلب بهدف زعزعة الأوضاع وخلق أجواء من البلبلة وإشاعة القلاقل في الداخل فبدأ بإرسال الجواسيس إلى عاصمة الدولة الإسلامية في الكوفة ومدينة البصرة ذات الثقل السياسي والاجتماعي المميز.
فأرسل معاوية رجلاً يدعى الحميري إلى الكوفة، وآخراً يدعى القيني إلى البصرة، وقد طلب من هذين الجاسوسين مراقبة الأوضاع السياسية في العاصمة (الكوفة) ومدينة البصرة، ورصد حجم ولاء الجماهير للإمام الحسن (عليه السلام)، إضافة إلى الاتصال ببعض العناصر في الداخل وربطها بجهة المعارضة في الشام عبر الإغراء والترغيب، وهكذا التعرف على نقاط الضعف والنفوذ في الداخل، والتي تمكن معاوية من تمرير مؤامراته للإطاحة بالنظام الإسلامي.
غير أن خطة التآمر هذه لم تنجح حيث تم القبض على الجاسوسين، وأمر الإمام الحسن (عليه السلام) بإعدامهما في الساحات العامة أمام الناس.. فأعدم الحميري في الكوفة، كما أعدم القيني في البصرة التي كان عبيد الله بن العباس والياً عليها.
من جهة أخرى أعرب الرأي العام الإسلامي عن سخطه إزاء المؤامرة الأموية، فيما كشف الإمام الحسن (عليه السلام) عن مخطط معاوية من وراء إرسال الجواسيس، فأرسل خطاباً شديد اللهجة يعلن فيه الإمام (عليه السلام) عن استعداده لخوض الحرب ضد جبهة التمرد التي يقودها معاوية وجاء في الخطاب (أما بعد: فإنك دسست إليّ الرجال، للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون، كأنك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وقد بلغني إنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأولون:
وقل للذي يبقى خــلاف الذي مضى تجـــــهّز لأخــــــرى مثلها فكأنْ قدِ
وأنا ومن قــــــد مــــات منّا لكالذي يــروح فيمسي في المبيت ليفتدي
ولعلنا نستوحي من رسالة الإمام (عليه السلام) أن الأمة حينما تدخل الصراع والمواجهة مع العدو يتطلب منها إظهار مواقع القوة والقدرة، في سبيل إدخال الرعب والهزيمة النفسية في قلب العدو، وإضعاف معنوياته، وتفويت الفرصة عليه للتفكير في استغلال جوانب الضعف ـ إن وجدت ـ والاستفادة منها في حالة المواجهة معه.
من جهة ثانية استطاع الإمام الحسن في هذه الرسالة أن يسحب البساط من تحت معاوية في أن يمتلك زمام المبادرة في تقرير الحرب ضد الدولة الإسلامية ولذلك نجد أن جواب معاوية على رسالة الإمام الحسن كان خالياً من الإثارة حيث جاء بصورة أراد فيها معاوية أن يتملق للإمام وأن يبعد نفسه عن قضية إرسال الجواسيس فقد كتب، (أما بعد: فقد وصل كتابك وفهمت ما ذكرت فيه ولقد علمت بما حدث فلم أفرح، ولم أشمت، ولم أيأس، وأن علي بن أبي طالب لكما قال أعش بن قيس بن ثعلبة:
وأنــــت الجـــــواد وأنــــــت الـــــــذي إذا ما القلوب مـــــــلأن الصــــــــدورا
وما مزيـــــد مــــــن خلـــــيج البــحور يعلو الأكـــــــام ويعلــــــــــو الجسورا
بأجـــــود مـــــــــنه مـــــمّا عــــــــنده فيعــــــطي الألوف ويعطي البدورا
وكتب عبيد الله بن العباس الوالي على البصرة رسالةً مماثلة إلى معاوية جاء فيها: فإنك ودسك أخا بني قين إلى البصرة، تتلمس من غفلات قريش، مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية ـ يعني ابن الأشكري ـ:
لعمـــــرك إني والخزاعي طارقاً كنعجة غار حتــــــــفها تتحضر
وثارت عليــــها شفرة بكراعها فظلت بها مــــن آخر الليل تنحر
شمت بقوم مـن صديقك أهلكوا أصـــابهم يوم من الدهر أصـغر
وبعد أن تمكن الإمام الحسن (عليه السلام) أن ينتزع المبادرة من يد معاوية، أرسل الإمام (عليه السلام) رسالة ثانية أكثر تفصيلاً وتعنيفاً، سلط فيها الأضواء على حقه المشروع في ولاية المسلمين كما بيّن فيها فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وحقوقهم، كما ضمّن الرسالة تهديداً لمعاوية وتحذيره من التمادي في غيّه، وشق الصف الإسلامي، وهذا نص الرسالة:
(من الحسن بن علي أمير المؤمنين، إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فإن الله جلّ جلاله، بعث محمداً رحمة للعالمين، وكافّة للناس أجمعين ينذر من كان حياً، ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله، حتى توفّاه الله غير مقصّر ولا واهن، وبعد أن أظهر الله به الحق ومحق به الشرك، وخصّ به قريش خاصة. فقال له: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فلما توفّي، تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش، نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأنّ الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم.
ثم حاججنا نحن قريش، بمثل ما حاججت به العرب، فمل تنصفنا قريش إنصاف العرب لها. إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما سرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلى محاججتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا، ومراغمتنا وللعنت منهم لنا فالموعد إليه، وهو الوليّ النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغرماً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سببٌ إلى ما أرادوا إفساده، فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثبك يا معاوية، على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود.
وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه، وتعلم لمن عقبى الدار وبالله لتلقين عن قليل ربّك، ثم يجزينّك بما قدّمت يداك. وما الله بظلام للعبيد. إن عليّاً لمّا مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض، ويوم، منّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيّاً، ولاني المسلمون الأمر من بعده، فأسال الله أن لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً، ينقصنا به في الآخرة، ممّا عنده من كرامة. وإنما حملني على الكتابة إليك، الأعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم، أني أحقّ بهذا الأمر منك، عند الله، وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم، بأكثر ممّا لاقيه به. وادخل في السّلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.
وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين).
كانت هذه رسالة الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية والتي فيها دلائل وإثباتات واضحة وصريحة لحق أهل البيت (عليهم السلام) وحق الإمام (عليه السلام) بصورة خاصة... هذه الرسالة كانت بمثابة الحرج الذي ألجم معاوية عن المراوغة والتملص من قوة البرهان القاطع، والذي قطع لسان معاوية عن إيراد حجة مقابلة لذلك راح يبحث عن قشة تنقذه.
فمعاوية الذي يجد نفسه متورطاً أمام دلائل واحتجاجات الإمام الحسن (عليه السلام)، ماذا يمكنه أن يفعل سوى اعتماد أسلوب المكر والخديعة الذي تربى عليهما من صُغرِه حتى تعشعشا في صدره.
المصدر: كتاب (الإمام الحسن... القائد والأسوة) للشيخ حسين سليمان سليمان