العزة والذلة
مستلة من محاضرة لسماحة السيد منير الخباز بعنوان (كربلاء مدرسة العزة)
قال تعالى:{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }
والقيم الإجمالية في هذه الآية كثيرة وتكاد تكون أبرزها قيمة العزة التي تحدث عنها القرآن الكريم بقوله:{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ },وتحدث عنها الحسين(عليه السلام) في قوله:"واللهِ لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد".
وموضوعة العزة لها عدة محاور، وسنكرس الحديث في هذه الحلقة عن:
مفهوم العزة وأقسامها
العزة لغة: بمعنى الصلابة ( أرض إعزاز) أي أرض صلبة, واستعملت العزة في معاني, منها القاهرية والغلبة، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } يعني يا أيها الشخص القاهر الذي لا يغلب, واستعملت بمعنى الندرة قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي نادر, واستعملت بمعنى المشقة قال تعالى:{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ( يعني يشق عليه) مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }.
ولنقصر حديثنا عن العزة بمعنى الصلابة والقاهرية, أي الإنسان الصلب الذي لا يقهر ولا يغلب، وهي بهذا المعنى متفرعة على ملك القوة, أي من ملك قوة ومن ملك عزة ومن كان ضعيفاً فهو ذليل, ولذلك يقول القرآن الكريم: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ففرّعت الآية العز على الملِكِ لأن بيده المُلكَ وبيده القوة إذن بيده العزة, وبناء على هذا هناك نوعان من العزة إحداهما ذاتية والثانية اكتسابية.
وبما أن الخالق تبارك وتعالى يملك القوة بذاته ومن خالقيته وليست مكتسبة من غيره فهو عزيز بذاته فعزته(عزة ذاتية), بينما المخلوق يستوهب القوة ويكتسبها من الخالق فقوة المخلوق قوة اكتسابية إذن عزته (عزة اكتسابية) ومن ذلك قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}.
وعلماء العرفان يقسمون العزة إلى :
1/عزة ظلية.
2/عزة حقيقة.
3/عزة حقة.
العزة الظلية:
هي عزة المؤمن, فعندما يكون المؤمن عزيزا فعزته ليست لشخصه بل لإيمانه, والمؤمن ظلٌ لإيمانه لذلك سميت عزة ظلية.
العزة الحقيقية والعزة الحقة:
وهي عزة الرسول محمد ( صل الله عليه وآله وسلم ) فعزة الرسول عزة حقيقية لأن الرسول مظهر لله العزيز في قدرته وعلمه وحكمته فعزة الرسول عزة حقيقية, وهناك عزة حقيقية حقا وهي عزة الله تبارك وتعالى لأنه مصدر القوة والقدرة.
ولنعد إلى الآية التي تصدرنا بها الحديث حيث قال تبارك وتعالى :{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ } والقائل هنا عبد الله ابن أبي سلول رأس المنافقين { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وهو يعني يأنه هو الأعز والنبي الأذل وأنه سيقوم بإخراجه من المدينة, وقد رد عليه القرآن { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }.
وهناك التفاتة عقائدية مهمة يجب الإشارة إليها وهي أن القائل كان واحدا وهو ابن سلول فلماذا عبر عنه القرآن الكريم بصيغة الجمع (يقولون)؟
والجواب عن ذلك بشكل مبسط هو أن كل عمل تؤمن به جماعة يصح نسبته إلى تلك الجماعة وإن كان الفاعل فرداً, عندما يقوم فرداً بعمل ما لكن هناك أمة تؤمن بهذا العمل وترضى وتثق به فيصح نسبة الفعل إلى تلك الأمة, ومن أمثلة ذلك أنه: عندما يقيم شخص مأتماً وعندما يشيد شخص مسجداً يصح لنا بأن نقول بأن أهل المنطقة الفلانية أقاموا مأتما و شيدوا مسجداً مع أن القائم به شخصاً واحد وذلك لأن الجميع كان مؤمناً به وراضياً عنه وفعل الواحد المرضي به لدى الجماعة يصح نسبته إلى الجماعة لذلك في زيارة الحسين " عليه السلام " وفي زيارة العباس(عليه السلام) تقول : ( لعن الله أمة قتلتك ولعن الله أمة ظلمتك ولعن الله أمة سمعت بذلك ورضيت به) فصحيح أن القاتلين أشخاص معدودون ولكن بما أن هذا القتل جريمة رضيت به أمة ورضي به مجتمع فالجميع يصح نسبة القتل إليه ( ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به).
فعل الواحد يصح نسبته إلى الجماعة إذا كان فعلاً مرضياً, آية الولاية الواردة في الإمام علي(عليه السلام) قال :{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} هذا الفعل صدر من واحد وهو علي ابن أبي طالب لكن القرآن نسبه إلى الجماعة وقال:{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } لماذا نسب فعل الواحد إلى الجماعة ؟لأن المؤمنين كانوا راضين بهذا العمل وهو إيتاء الزكاة حال الصلاة وحال الركوع بما أنه فعل مؤمنٌ به الجمع ومرضي لدى الجمع لذلك نسبه الله تعالى إلى الجماعة، رغم ديمومة تلك المنقبة خالصة لأمير المؤمنين عليه السلام.
وعندما نقول أن العزة صفة عظيمة, بدلالة ما جاء في القرآن الكريم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} قد يتصور إنسان أن الاعتزاز بالنفس يحمل معنى التكبر والتكبر مذموم فيخلط بين العزة وبين التكبر, ولكن الحقيقة أن هناك فرقا كبيرا بين العزة وبين التكبر فالتكبر:هو التعالي على الآخرين لعامل شخصي كنسب أو عرق أو لغة أو ثقافة, بمعنى أنني أتعالى على الآخرين لأن نسبي أشرف من نسبك أو لأن عرقي بنظري أشرف من عرقك, أو لأن لي ثقافة لا تمتلكها أنت , والتعالي بهذا المعنى هو التكبر المذموم في القرآن الكريم ومن أمثال ذلك قوله:{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} وقال تعالى:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فهذه من أنواع التكبر المذموم .
والعزة تحمل في احد أهم مقتضياتها احترام صفة الإيمان، بمعنى: أنت أيها المؤمن الذي أعطيتَ صفة الإيمان عليك أن تحترمها لأنها معطاة لك من قبل الله, وأن لا تعرضها للانتهاك والاستهجان والانتقاص أو ترنو بها إلى مرتبة الذلة وكمثال على هذا نقول: أنا إنسان مؤمن ولكني أدخل مجلسا للفسوق وال مجون، ولكني تارة أدخله بدافع تغييره وهدايته وهذه بادرة مباركة تعد مطهرا طيبا للعزة, وتارة أخرى ادخله مجاراة له, وأضطر إلى أن أداريه وأجاريه كي لا أكون شخصاً شاذاً وكي لا أكون شخصاً منبوذاً فهذه هي الذلة بعينها, ولكن لماذا؟!
والجواب الذي لا بديل له هو لأنني لم أحترم صفة الإيمان التي وهبت لي من قبل الله, من احترم صفة إيمانه التي وهبت له ووضعها في موضوعها اللائق بها فتلك هي التي يريدها الله تعالى لعباده المؤمنين والتي تقف موقف الضد التام من الذلة، وكذلك موقف النقيض التام من التكبر.