القومية والصراع الزائف
السيد محمد حسين العميدي
يقول القوميون ان القومية متقدمة على الدين وجودا، يقصدون، ان الانسان اول ما ينطق بلغة معينة ثم عندما يبلغ يكلف بالدين وان في ما يذكره القوميون مما يشبه الاستدلال يمكن وضع الملاحظات التالية عليه ..
1 – ان التزاحم الذي يرونه بين القومية و الدين لا ينحصر بين القومية و الدين بل يمكن ان يشمل الصراع بين القومية و الوطنية، بين الوطنية و الدين، بين القومية و العشيرة، بين القومية و العائلة، بين القومية و المصالح الشخصية، بين القومية و المهنة و هكذا بين الدين و بين هذه الامور و بين غيرها و غيرها .. اقصد ان التزاحم في حياة الانسان و في حياة المجتمع و في حياة الامة و الشعوب لا ينحصر بهذه الحالة فقط ..
2 – ليس بالضرورة ان الانسان اذا التزم بامرين لابد ان يكون احدهما على حساب الاخر .. فان الانسان لديه ولاء لامور كثيرة و مع ذلك لا يكون هناك ضرورة كي يلغي أحدها لبقاء الاخرى .. كما ان الانسان قد يحب ابيه ويحب امه و تكون طاعته مثلا لابيه و لمعلمه، و يحب وظيفته و اولاده و هكذا .. فان في الامر سعة .. فللانسان ان يعتز بقوميته و يلتزم بدينه فلا منافاة بينهما .. فان الدين لم يمنع الانسان من ان يكون معتزا بقوميته و هويته و لغته و وطنه و و عشيرته الخ، ولم ياتي الدين ليجرد الانسان من هويته السابقة و يعطيه هوية جديدة مغايرة.. نعم قد يشذب او يهذب من بعض الامور الملازمة لتلك الهوية او القومية و التي هي ليست من جوهر القومية و لا من صلبها .. و هذا لا يمس القومية بشيء و انما يكاملها لكي تكون افضل ..
3 – ليس هناك قومية بذاتها و جوهرها مخالفة للدين لنخلق التزاحم المزعوم،, لان الانبياء و الرسل جاؤوا من كل القوميات و لكل القوميات .. فما القومية الا عبارة عن صنف من اصناف النوع البشري .. و الدين انما جاء للنوع البشري كله .. و ليس لصنف دون اخر .. و عليه فليس هناك قومية بلا دين .. بغض النظر عن ان يكون هذا الدين حقا او باطلا .. سماويا او ارضيا .. فلكل امة عقيدة ما .. و ان لم يؤمن بها بعض افرادها ..
4 – ان الصراع بين القومية و بين الدين صراع وهمي وظفه اهل الدنيا من اجل استثارة نفوس الناس من خلال اشياء يحبونها و لها وقع في نفوسهم و يتاثرون بها .. و هكذا يعمل الساسة في سبيل الاستيلاء على ولاء الناس لهم من خلال تصوير صراع وهمي لهم .. و يكونوا هم قادة مثل هذا الصراع و هذا التوجه .. و هكذا في بقية الصراعات .. بينما لو ترك الانسان و طبيعته لامكن ان يكون متدينا و معتزا بقوميته و محبا لوطنه و مخلصا لوظيفته و مواليا لعشيرته و اسرته و هكذا . و الدليل ان هؤلاء ان فرغوا من الصراع بين القومية و الدين و لنفرض ان الصراع كان لصالح القومية فلاشك ان صراعا جديدا سيخترع بين ابناء هذه القومية نفسها على اساس الوطنية او العشيرة او المصالح و هكذا.
5 – و اما ما ذكر من دليل على سبق القومية على الدين فهو دليل لا ينهض (على اصطلاح اهل العلم لا صغرى و لا كبرى) .. للاسباب التالية..
• ليس كل ماهو سابق في الزمان فهو افضل, بل قد يكون العكس هو الصحيح، فلايمكن اعتبار ان الطفولة افضل من الصبا، و الصبا افضل من الشباب، و الشباب افضل من الرجولة و هكذا .. فلوكان السابق هو افضل لما اتعبت الام نفسها في ترقب انتقال وليدها من حال الى حال افضل .. من الرضاعة الى الاكل و من الزحف الى المشي و هكذا ..و تفرح لتطور وليدها و تحزن عند تخلفه عن ذلك ..
• ان الافضلية انما تتم بالامور الاختيارية و ليس في الامور القسرية والقهرية التي لا دخل للانسان فيها ولا خيار . فكون انسان ما من قومية معينة انما هو شيء ليس باختياره و لا بارادته .. بينما التزامه بعقيدة معينة انما يكون باختياره و ارادته و بوعي كامل منه .. و ما يختاره الانسان عن عقل ووعي افضل من الامر الذي فتح عينيه فوجد نفسه فيه ..
• هناك امور كثيرة جدا يلتفت لها الانسان و يتنبه لها قبل ان يتنبه لقوميته ، مثل انسانيته و عائلته و عشيرته و منطقته الجغرافية و وطنه و غير ذلك .. فلابد ان تكون الاولوية لتلك الامور قبل القومية .. و أولها انسانيته، و بما ان الدين قد خاطب الانسان مهما كانت قوميته فلذا يشمله خطاب الدين قبل خطاب القومية لانه انسان قبل ان يكون و يلتفت الى انه من قومية كذا .
• قد يظن البعض ان القومية حالة لاصقة بالانسان ترافقه طول حياته، و من هنا كانت لها الافضلية و هذا يعتمد على المراد من القومية، فما المقصود بالقومية، فإن قيل اللغة .. فيقال كم من انسان عاش و مات و هو لا يتكلم لغة ابويه او القومية التي ينحدر منها .. و كم انسان هاجر من بلاد قوميته الى بلاد قوميات اخرى فتغير لسانه و نسي لغته و صار ينطق بلغة جديدة .. وان قيل هي المنطقة الجغرافية المعينة .. فكثير من الناس يغيرون مناطق سكناهم فمن المناطق التي يقطنها اهله الى مدن و مناطق اخرى .. أو قيل هي الطباع و العادات و التقاليد .. فان الانسان اذا تغيرت عاداته و تقاليده عن اهل قوميته فهل يعتبر قد خرج من هذه القومية .. واذا قيل إنها صفات جسمية و نفسية معينة .. فاذا ما ولد الانسان و لم يحمل تلك الصفات فهل يكون خارجا من تلك القومية وهكذا ..
• كما ان القومية تولد مع الانسان فان الدين يولد مع الانسان من الجهة الاعتبارية ( و اعتبارية الدين لا تقل عن اعتبارية القومية كما قلنا ) فابن المسلم مسلم .. قد يقال ان اسلامه هذا ليس بوعيه و اختياره فنقول وهل قوميته كانت بوعيه واختياره ..
و اخر المطاف لنا ان نقول .. ان هذا النقاش بين القومية و الدين يدور و كأن الانسان كائن مادي مجرد .. و ليس مخلوقا من مخلوقات الله تعالى .. و قد الزمه خالقه و ربه بعبادته و طاعته ..
فالنقاش و الجدل يكون بشكل صحيح اذا كان كالتالي : هل هناك خالق للانسان تجب عبادته و طاعته ام لا ؟
فان كان الجواب نعم .. فالمفروض ان يتقيد و يتعبد بما يفرضه ربه و مولاه عليه و لا داعي لهذا النقاش .. و ان كان الجواب لا .. أي ان الذي يناقش لا يعتقد بوجود الخالق و بوجود الدين فلاداعي لهذا النقاش ايضا و من لا يعتقد بوجود الدين فلا يفرق الامر له ان القومية ما موقعها و هل هي قبل او بعد لانه لايوجد لديه الا الولاء للقومية وعليه أن يذهب و يخترع صراعا اخر كالصراع بين القومية و الوطنية او غيره من صراعات الانسان التي لا تنتهي حتى تصل الى الصراع مع اخيه الذي من قوميته و وطنه و عائلته و دينه لان الانسان فطر على حب التزاحم.