لمحات من حياة المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم

2021-09-04 11:48

توفي المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، يوم أمس الجمعة 3-9-2021م، في النجف الأشرف، إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 85 عاماً، وهو واحد من أهم أربع مرجعيات شيعية بارزة في العراق والعالم.

وفارق السيد الحكيم (قدس سره) الحياة، في مستشفى الحياة الأهلية في النجف، بعدما أجرى هناك عملية جراحية قبل ثلاثة أيام، وفق مصدر قريب من مكتبه، وشُيع اليوم السبت في كربلاء، ثم في النجف، حيث سيوارى الثرى، بحسب مكتبه.

تمهيد

تميزت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بظاهرة الإبداع في تفعيل حركة الفكر الإسلامي، في فروعه ومجالاته المختلفة من بحوث العقيدة والقرآن والتربية والفقه وغيرها، حيث تميزت بالعمق والنقاء والأصالة والحيوية معبّرة في ذلك كله عن نهج الإسلام الأصيل وثقافته الحيّة.

إن مهمّة الملائمة والتكييف بين النظرية والتطبيق في علم الفقه الإسلامي لم تنطلق بعيدة عن الامتداد الطبيعي لعمق البحث الفقهي، واتصاله بالحياة انطلاقاً من منطق: (الفقه يحكم الحياة)، ذلكم لأن حقيقة البحث الفقهي ليست مجرد عملية تجميع وترتيب ذهني فحسب، بل ان من نتائج عملية الاستنباط ـ فيما تقرره من عناصر ومقومات ـ هو مجال التطبيق للنظريات العامة، التي تبرز أهمّيتها في الدقة والعمق عند التطبيق.

وفيما كانت علوم الرسول والأئمة المعصومين من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلّم) المعين العذب، الذي رفد بعطائه مسيرة التشريع والفقه، باعتبار أن أقوالهم (صلوات الله عليهم) مصدر من مصادر التشريع، فيما تفرضه أدلة حجيتهم من العصمة ، وما اجتمعت فيهم من مزايا الرسالة أو الإمامة التي خصّهم الله تعالى بها.

ومن ثم فقد امتدت مدرسة علومهم عبر تاريخ التشيع بما انتجته فيوضاتهم القدسية، وتربيتهم لجيل السلف الصالح، من صحابتهم وتلاميذهم، بغية الإفادة للتمهيد في تحديد أحكام الشريعة أمام الموقف العملي، الذي برزت فيه ضرورة ممارسة العملية الاجتهادية، استناداً إلى واقع تبعية الإنسان للشريعة.

حيث ان مسألة الابتعاد عن زمن النصوص المعصومة، وملاحقة عامل الزمن والتطورات المتتالية في بناء كيان الإنسان والمجتمع، وما يستجدّ ويستحدث من مسائل الفكر والعقيدة، خططت لولادة الفكر الاجتهادي في الشريعة بما يحمله من خصائص ومهمات.

وإن محاولة التعرف على مسيرة هذا الفكر الخلاق بأبعاده ومفاهيمه وملامحه ـ بالرغم من أهميته وطرافته ـ مما لا تسمح به هذه الفرصة المتواضعة، إلاّ أن مما ينبغي التنويه به أن معطياته بلغت درجة النضج والنمو في مدرسة آل البيت(عليهم السلام) بسبب ما اتصفت به من ملامح الإبداع الذاتي للعطاء الفكري، الذي انتجته قرائح أعلامنا الفقهاء حيث جندوا طاقاتهم وقصارى هممهم العالية وبذلوا الوسع في إقرار الصيغة المثلى لبناء ملكة الاستنباط وإعمالها، والتوفر على معدات الاجتهاد كافة ووسائله الموصلة إليه، وقد كان من آيات الورع في الدين أن مجتهدي الشيعة لا يسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل .. بل يتحمل كل مجتهد مسؤولية رأيه الخاص.. وأما ما كان من ضروريات المذهب فيصح نسبته إليه.

وقد حاولت مدرسة الاجتهاد عند الشيعة أن تعكس من خلالها واقع الإسلام من أصفى منابعه باعتمادهم منهج الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الذين كانوا يوجهون الاتباع إلى تقليد الفقهاء الربانيين ومراجعتهم في أمور دينهم ودنياهم، وحفظ كرامتهم، ومعرفة منازلهم التي تسنموها بسبب تخصصهم بعلوم الشريعة وإمعانهم النظر في تصويب الآراء وإصدار الأحكام.

وفيما نستعرض تاريخ حركة الاجتهاد عند الشيعة الإمامية لنستطلع أسس هذه الحركة الميمونة وقدسيتها بما قررته الآية الشريفة في قوله تعالى:

(فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وفيما أثر عن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بقوله:

"مجاري الأمور على أيدي العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه".

وإلى الكثير من الروايات الدالّة على عظمة هذه المسؤولية الكبرى، التي تتجسد فيها وراثة الأنبياء، حيث ان الفقهاء أمناء الرسل ووكلاؤهم وحماة الدين، وإلى ما اشترطت الشريعة توفره من العلم والاستقامة والعدالة، حيث نجد ما أكّد عليه الإمام أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) بقوله: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه».

ومن كل ما لمسناه مما تقدم نكتشف ضرورة وأهمية معطيات الاجتهاد وإسهاماته في تمتين الصلة بين الأمة وقادتها الذين احتلوا منصب النيابة العامة عن الإمام المهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) في عصر الغيبة، وأهمية دورهم في حفظ المفاهيم الدينية من التحريف والضياع، وإبراز الدور الحضاري للشريعة، والمساهمة في تطوير الواقع الفقهي، وصيانته من عوامل الجمود والاندثار، الذي عزّزت مقامه وأشادت أركانه الجهود الجادة للعلماء الربانيين الذين اخلصوا الكلمة لله تعالى واقتدوا بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) في قلوب عامرة بالإيمان والتقوى وكانوا على مدى الزمن الغابر والحاضر من تاريخنا المشرق مثلاً أعلى في الاستقامة وتحمّل المسؤولية وخشية الله والتوكل عليه والزهد عما في أيدي الناس.

ولذلك فقد برزت على ساحة العقيدة مرجعيتهم الفكرية وهي تحمل سر العظمة من خلال الترابط الحي والتفاعل المؤثر بينهم وبين الأمة الذي يتجدد ما مرّ الزمان بسبب إدراكهم لوعي المسؤولية وواجب التوجيه وتنمية الهاجس الرسالي في قلوب المؤمنين الذين كانوا معهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً في مواجهة تيارات التشكيك والنفاق والأغراض الشخصية.

وحين نستقرأ التاريخ المعاصر لمدينة النجف الأشرف التي حلّت مكانتها المرموقة في الزعامة الدينية والمرجعية الكبرى للتشيع وما قدمته على هذا الصعيد نجدها رغم معاناتها المريرة تؤتي في كل حين ثمراً يانعاً من قطاف نتاجها في مدرسة الاجتهاد والمرجعية مما يدل على عمق أصالتها، ورسوخ كيانها العلمي، ووفائها للمبادئ الحقة التي ضحى من أجلها أهل بيت العصمة (عليهم السلام).

ومن الصفحات المضيئة الجديرة بالبحث، هذا القبس من الملامح العامة لحياة سماحة سيدنا المعظم المرجع الديني الكبير الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (قدس سره).

هو السيد محمد سعيد نجل آية الله السيد محمد علي بن السيد أحمد بن السيد محسن بن السيد أحمد بن السيد محمود بن السيد إبراهيم (الطبيب) بن الأمير السيد علي الحكيم ابن الأمير السيد مراد الطباطبائي.

يرقى نسبه الشريف إلى إبراهيم طباطبا، بن إسماعيل الديباج، بن إبراهيم الغمر، بن الحسن المثنى، بن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وهو السبط الأكبر لسيد الطائفة ومرجعها الإمام السيد المحسن الحكيم (أعلى الله مقامه) كما أن السيد المعظم (قدس سره) خال والده (قدس سره).

قبس من ملامح شخصية والده آية الله السيد محمد علي الحكيم (قدس سره)

فهو السيد محمد علي بن السيد أحمد الحكيم. ولد عام (1329 هـ). عالِم جليل مجتهد كبير، من أساتذة البحث الخارج في الفقه والأصول. ومن أئمة الجماعة في النجف الأشرف، كثير التواضع والمروءة مؤثر على نفسه مجدُّ في عمله موضع اعتماد الطبقات كافة، ورع صالح تقي، وقد اشتهر بصفات رفيعة وآداب سامية، ليس في حياته أي تصنّع أو تكلّف أو رياء أو مجاملة.

تتلمذ على الإمام الحكيم (قدس سره) وآية الله الميرزا السيد حسن البجنوردي (قدس سره) وآية الله الشيخ عبد الحسين الحلي (قدس سره). كما حضر لدى آية الله المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني(قدس سره) بحوثه في اصول الفقه.

رفد الحوزة العلمية المباركة بالكثير من العلماء والأفاضل الذين تربّوا في درسه وحوزته حيث كان يهتمّ كثيراً بتربيتهم الإيمانية والأخلاقية مضافاً إلى الاهتمام العلمي.

تميز بنظر ثاقب ودقة التقييم للأحداث والمتغيرات والظواهر الاجتماعية ، وكذلك اهتمامه البالغ بتثبيت خط آل البيت (عليه السلام) ونهجهم وثقافتهم.

كان من أركان مرجعية الإمام الراحل السيد الحكيم (قدس سره) وقد أوفده مع الحجة الشيخ محمد الرشتي (قدس سره) إلى باكستان ممثلاً عنه عام (1385 هـ ) لحل النزاع الدائر بين جماعتين هناك.

له تضلّع بعلم الهيئة والهندسة والرياضيات، حتى عرف بذلك في أوساط علماء النجف، وقد كلّفه المرجع الراحل السيد الحكيم (قدس سره) بكتابة قسمة المواريث وفقاً لقواعد الرياضيات الحديثة، وهو الذي حدّد بدقة جهة القبلة في حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلا).

أولاده : السيد محمد سعيد (المترجم له)، السيد محمد تقي، السيد عبد الرزاق، السيد محمد حسن، السيد محمد صالح.

من مؤلفاته: بحث في القبلة، بحث في الدرهم والدينار الاسلامي، قسمة المواريث طبق الرياضيات الحديثة، بحث حول الساعة الزوالية، تقريرات درس أستاذه في الأصول الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره)، تقريرات درس الإمام الحكيم (قدس سره) في الفقه، تعليقة على كفاية الأصول، حاشية على فرائد الأصول (الرسائل).

قبسات من ملامح شخصية سيدنا المعظم الفقيد

ولد في مدينة النجف الأشرف، في الثامن من شهر ذي القعدة الحرام عام 1354هـ الموافق 1936م.

لقد حظي منذ نعومة أظفاره برعاية والده (قدس سره) رعاية واهتماماً بالغين، وذلك لما وجده في ولده الأكبر من الاستعداد والقابلية على تلقي العلم والتعمق و التنظير لمباحثه ، فوجهه والده المعظم (قدس سره) نحو ذلك، وهو بعد لم يتجاوز العقد الأول من عمره، وزرع في نفسه من سجايا الخلق المرضي والشمائل النبيلة ما انعقدت عليها سريرته وبدت بارزة في شخصيته.

وذلك لأن المربّي الأول قد اشتهر بصفات رفيعة، وآيات سامية، فهو على جلالة قدره، وطول باعه العلمي واجتهاده، كثير التواضع والمروءة، مؤثر على نفسه، متورع مخلص لربه، وقد أورث هذه السمات نجله الكريم حيث نشأ سيدنا المترجَم له برعاية خاصة من لدن والده الذي باشر تدريسه من أول المقدمات لعلوم الشريعة وأحكامها، ـ رغم انشغاله بتدريس السطوح العالية آنذاك ـ وأنهى على يديه جلّ دراسة السطوح العالية.

وقد كان لتأثير أستاذه الأول هذا المدى البالغ في حسن توجهه العلمي، ولاسيما ان هذه التلمذة كانت تقارنها صحبة وملازمة وثيقة الصلة بالمباحث الدراسية، منذ المراحل الأولى لحياته العلمية، فيما كانت حينها نوادي العلم ومجالس الفضيلة تغمر أفق مدينة النجف الأشرف، وتنعقد للمذاكرات العلمية، والمناقشات في شؤون المعرفة فقهاً وأصولاً، وما يتعلق بعلوم القرآن، والحديث الشريف، والتراجم والسير والرجال، والأدب الإسلامي الهادف، فضلاً عن العطاء الروحي الذي تسكبه في نفوس الحاضرين من مصاحبة الأخيار في سلوكهم، وما تستلهمه النفوس من تجسيد المعاني الخيرة، وتربية النفس، وتهذيبها على أسس راسخة من الإيمان والورع والتقوى والزهد والصبر وغير ذلك من الفضائل وكرائم الأخلاق وما تحكيه من الدروس العملية في الخير والفضيلة والسلوك.

وكان مما امتازت به مراحل الشباب عند السيد الحكيم صحبة الأفذاذ من الشخصيات العلمية ممن كان والده يعاشرهم ويجالسهم أمثال الأستاذ الكبير آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي (قدس الله نفسه الزكية)، الذي كان له أستاذا وأباً روحياً، وخاله الورع آية الله السيد يوسف الطباطبائي الحكيم (قدس سره)، وآية الله الحجة الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي (قدس سره)، وأمثالهم من أعيان العلماء الذين كانت بيوتهم أندية علمية..

ولم يكن اللقاء في هذه المنتديات مجرد صحبة عادية، بل كانت تفيض بالدروس التربوية والعطاء العلمي الثرّ، وقد عرف عن سيدنا المترجم له مشاركته الأفذاذ من الأعلام فيما يعين من مسائل، وما يطرح من أفكار، وقد أهّله نبوغه المبكر للمشاركة في البحوث العميقة والمتنوعة، فملامح العبقرية بدأت تظهر بوضوح من خلال الاحترام والإجلال لمكانته في نفوس الأعلام، الذين كانوا يرقبون فيه المستقبل العلمي الزاهر، كما صدرت من بعضهم آيات الثناء والإطراء بحقه ومكانته العلمية (قدس سره).

وقد أدرك السيد الجليل من خلال تجربته الاجتماعية القاسية ما حلّ بالنجف الأشرف وحوزتها العلمية من التحديات والمصاعب، والفقر الشديد، ووعى المسؤوليات التي ينبغي تحملها لصد الهجمات العنيفة التي وجهها الاستعمار الحديث وفي طليعته الاحتلال البريطاني، ومن يتعامل معه من الحكومات التي كانت تحكم العراق يومذاك، وأذنابهم واتباعهم الذين جاءوا بالمفاهيم المستوردة وكانت غايتهم إلغاء الدين ومحاربة القيم العليا والمقدسات.

وفيما كانت الحوزة العلمية في النجف تعيش المعاناة والاضطهاد فقد وجدنا سيدنا المرجع الحكيم (قدس سره) قد نذر نفسه ليخطو في مسيرة قاسية، يذلل فيها الصعاب لخدمة مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو في أشواط حياته محاط بحصانة من الإيمان وتحمّل الشدائد وقناعة راسخة بنهج آل البيت (عليه السلام) والحرص على التزود بعلومهم و التمعن فيها ونشرها، فكان لا يكتفي بتلقي المادة العلمية واستيعابها بل يهتم بالنقد والتمحيص وتكوين رؤية مستقلة ، ولذا عرف في الأوساط العلمية في النجف بمناقشاته الجادة وآرائه ومبانيه المستقلة من دون أن يكون ظلاً وتابعاً لقناعات أساتذته ونظرياتهم ،الأمر الذي جعله متميزاً بين أقرانه، بسبب استحكام أسس البناء العلمي الرصين الذي هيأ له المكانة السامية التي بلغها بجدارة وكفاءة.

حياته العلمية

ومن حيث تعرفنا على النشأة العالية التي تمتع بها سيدنا المترجم له (قدس سره)، والرعاية المتميزة من قبل والده الكريم، وما أحاطه الإمام الراحل السيد المحسن الحكيم (قدس سره) من الاهتمام بسبطه الأكبر حيث أدرك فيه النبوغ المبكر، والاستعداد الذهني، وما صدرت من آيات الثناء في حقه، تعبيراً عما يعقد عليه من آمال ، وبما يحقق نبوءته في شخصيته العلمية، وبلوغه مراقي الكمال والنشاط العلمي، ولذلك فقد عهد إليه مراجعة مسودّات موسوعته الفقهية (مستمسك العروة الوثقى) استعداداً لطباعته، فقام بذلك خير قيام، وكان يراجعه في بعض المطالب فيجري بينهما التباحث والمناقشة، الأمر الذي اكتشف فيه الإمام الراحل السيد الحكيم (قدس سره) ما عليه سبطه من تفوق علمي فطلب منه مراجعة بعض الأجزاء المطبوعة منها.

وقد كان لتلمذته على الإمام الحكيم (قدس سره) وأُستاذه الجليل آية الله العظمى الشيح حسين الحلي (قدس سره) أبلغ الأثر في التربية والسلوك، حيث أنه كان يتلقى مع دروسه العلمية دروساً عملية في السلوك والتقوى والورع والزهد والصلاح، هذه المثل العليا، والقيم الروحية التي يجب أن يتحلى بها أعلام الدين وعلماء الأمة.

إلاّ أن الأمر البارز في حياته العلمية ضمن هذا الدور أنه واصل مع أستاذه الشيخ الحلي (قدس سره) ولازمه في جلساته العلمية العامة التي كانت تزخر بها النجف الأشرف آنذاك كذلك جلساته الخاصة التي كان يخصصها الاستاذ لتلميذه المثابر .

وقد كان السيد الحكيم (قدس سره) ينوّه بقيمة تلك المصاحبة العلمية، حتى قال: ان استفادتي من مجالسة الشيخ الحلي أكثر من استفادتي من حضوري في درسه، من دون أن يعني ذلك التقليل من أهمية درسه (قدس سره)، وانما لبيان مدى الفائدة في تلك المداولات العلمية المستمرة مع الشيخ الحلي (قدس سره) وملازمته له.

وكان الشيخ الحلي بدوره يشيد كثيراً بالعمق والمستوى العلمي المتميز للسيد الحكيم (قدس سره) ويعقد عليه آماله ويصرّح بذلك ، ويعطيه حصة وافرة للمناقشة في مجلس درسه العامر بالأفاضل والعلماء.

أساتذته

ومن هذا المنطلق يمكننا أن نعد أساتذته ـ الأساسيين ـ بالترتيب التالي:

1ـ والده المعظم سماحة آية الله السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته)، حيث باشر تدريسه من أول المقدمات في اللغة والنحو والمنطق والبلاغة والاصول والفقه حتى أنهى على يديه جلّ دراسة السطوح العالية.

2ـ جده مرجع الطائفة الأكبر الإمام السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره)، حيث حضر لديه جملة وافرة من أبواب الفقه، وكتب من ذلك ما يأتي في تعداد مؤلفاته.

3ـ أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي (قدس سره)، حيث حضر لديه في علمي الفقه والأصول، (كما تقدم وكتب تقريرات درسه).

4ـ مرجع الطائفة الراحل آية الله العظمى المحقق السيد الخوئي(قدس سره)، حيث حضر لديه في علم الأصول لمدة سنتين، وكتب من ذلك ما يأتي عند الحديث عن مؤلفاته.

تدريسه وتلامذته

بعد أن أتم (قدس سره) عدة دورات في تدريس السطوح العالية للدراسة الحوزوية شرع في عام 1388هـ بتدريس البحث الخارج على كفاية الأصول حيث أتم الجزء الأول منه عام 1392هـ ثم وفي نفس السنة بدأ البحث من مباحث (القطع) بمنهجية مستقلة عن كتاب الكفاية حتى أتم دورته الأصولية الأولى عام 1399هـ، ثم بدأ دورة أصولية ثانية وقد واصل التدريس والتأليف رغم ظروف الإعتقال القاسية التي مرّت به منذ عام 1403هـ لحين عام 1411هـ، ومن ذلك ابتداؤه بدورة في علم الأصول ـ بتهذيب ـ خلال هذه الفترة.

وأما الفقه فقد بدأ تدريس البحث الخارج على كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري (قدس سره) في عام 1390هـ ثم في سنة 1392هـ بدأ بتدريس الفقه الاستدلالي على كتاب منهاج الصالحين للمرحوم السيد الحكيم (قدس سره) وما زال على تدريسه إلى اليوم رغم الظروف العصيبة التي مرّت به خلال سنوات عديدة ، وقد تخرج على يديه نخبة من أفاضل الأعلام الأجلاء في الحوزة العلمية وهم اليوم من أعيان الأساتذة في الحوزات العلمية في حواضرها العلمية النجف الأشرف وقم المقدسة وغيرها.

مؤلفاته

إضافة لما تميزت به بعض كتاباته أثناء دراسته السطوح العالية من تحقيقات ونكات علمية دقيقة فقد ظهرت له مجموعة مؤلفات منها:

1ـ المحكم في اصول الفقه ، وهو دورة في علم الأصول كاملة وموسعة، تشتمل على ستة مجلدات، اثنان منها في مباحث الألفاظ والملازمات العقلية، ومجلدان في مباحث القطع والأمارات والبراءة والاحتياط، ومجلدان في الاستصحاب والتعارض والاجتهاد والتقليد.

2ـ مصباح المنهاج وهو فقه استدلالي موسع على كتاب (منهاج الصالحين)، وقد أكمل منه إلى الآن خمسة عشر مجلداً، في الاجتهاد والتقليد، وكتاب الطهارة، وكتاب الصوم، وكتاب الخمس ـ كتبه في فترة الإعتقال القاصية ـ وكتاب المكاسب المحرمة.

3ـ الكافي في اصول الفقه: دورة في تهذيب علم الأصول، بدأ بها في فترة الإعتقال، اقتصر فيها على البحوث المهمة في علم الأصول، طبع في مجلدين.

4ـ كتاب في الأصول العملية، كتبه اعتماداً على ذاكرته في فترة الإعتقال لم يكن بين يديه أي مصدر، ودرّس الكتاب نفسه آنذاك، ولكنه ـ وللأسف ـ أتلف في فترة الإعتقال للخشية في العثور عليه حيث تسربت أخبار بوجود حملة تفتيش وكان العثور عليه قد يؤدي إلى الإعدام.

5ـ حاشية موسعة على رسائل الشيخ الأنصاري (قدس سره) مهيئة للطبع في ستة مجلدات.

6ـ حاشية موسعة على كفاية الأصول، كتبها أثناء تدريسه الخارج على الكفاية في خمسة أجزاء.

7ـ حاشية موسعة على المكاسب، كتبها أثناء تدريسه خارج المكاسب، تقع في مجلدين، إلى مباحث العقد الفضولي.

8ـ تقريرات درس الإمام السيد الحكيم (قدس سره) في كتب: النكاح، والمزارعة، والوصية، والضمان، والمضاربة، والشركة.

9ـ تقريرات بحث أستاذه الشيخ الحلي (قدس سره) في علم الأصول.

10ـ تقريرات بحث أستاذه الشيخ الحلي أيضاً، في الفقه.

11ـ تقريرات بعض ما حضره عند آية الله العظمى السيد الخوئي (قدس سره).

12ـ كتابة مستقلة في خارج المعاملات ، كان سيدنا المترجم له (قدس سره) ينوي إكماله عندما تسنح له الفرصة.

13ـ رسالة عملية في فتاواه، في العبادات والمعاملات وفي ثلاثة أجزاء بعنوان (منهاج الصالحين).

14ـ مناسك الحج والعمرة.

15ـ رسالة موجهة للمغتربين.

16ـ رسالة موجهة للمبلغين وطلاب الحوزة العلمية وقد ترجمت إلى اللغة الفارسية والأردو.

17ـ حوار اجري مع سماحته حول المرجعية الدينية في حلقتين.

18ـ مرشد المغترب، يتضمن توجيهات، وفتاوى تهم المغتربين.

19ـ فقه القضاء، بحوث استدلالية في مسائل مستجدة في القضاء.

20ـ في رحاب العقيدة وهو حوار مفصل ـ في ثلاثة أجزاءـ مع أحد الشخصيات الاردنية حول الكثير من مسائل العقيدة.

21ـ فقه الكومبيوتر والانترنت.

22ـ فقه الاستنساخ البشري.

23ـ الأحكام الفقهية: وهي رسالة عملية أيضاً، ترجمت الى اللغتين الفارسية والاردو.

24ـ الفتاوى: وهي أجوبة استفتاءات كانت ترد على سماحته في مختلف الموضوعات،ترجمت أيضاً إلى اللغة الفارسية ، صدر منها القسم الأول.

25ـ رسالة توجيهية إلى المؤمنين في جمهورية آذربايجان والقفقاس، ترجمت كذلك إلى اللغة الآذرية.

26ـ رسالة توجيهية إلى حجاج بيت الله الحرام.

27ـ رسالة في الاصولية والاخبارية.

28ـ رسالة توجيهية للمؤمنين في گلگيت ونگر.

الاعتقال

منذ أن انتمى سماحة السيد الحكيم (قدس سره) في بداية سني حياته للحوزة العلمية عايش التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية ووعى مسؤولية علماء الدين وتصديّهم للتيارات المنحرفة الوافدة والأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة. فبدأ بتحمّل تلك المسؤولية من خلال الجلسات والحوارات المستمرة في الأندية العلمية النجفية التي كانت تزخر بها النجف الأشرف آنذاك حيث كان يطرح الرؤى الأصيلة الواعية، وأبان المدّ الشيوعي العارم في العراق المدعوم من جانب الاتحاد السوفيتي السابق تعاون سماحته مع (جماعة العلماء) التي كان يرعاها جدّه مرجع الطائفة الراحل السيد محسن الحكيم، فكانوا يستعينون بسماحته لنشر البيانات الصادرة منهم، لمِا عُرف عنه من شجاعة وإقدام.

وبعد استيلاء الدكتاتور عبد السلام عارف على الحكم في العراق عام 1963م ومحاولته فرض القوانين الاشتراكية تصدت مرجعية المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) والحوزة العلمية بعلمائها وفضلائها لمحاولة السلطة الغاشمة، وكان سماحة سيدنا المترجم له من جملة الموقّعين على الرسالة الاستنكارية الرافضة لفرض الاشتراكية وقوانينها على العراق والموجهة إلى الدكتاتور عبد السلام عارف.

وبعد استيلاء عصابة البعث في العراق والبدء بعمليات الاعتقال والقتل والإعدام بحجج واهية وكاذبة بهدف ترويع المواطنين والسيطرة على مقدّرات الامة، وفي وقت لم يستوعب الكثيرون نوايا الطغمة الحاكمة وخططهم كان سماحته يحذر من البداية من خلال الجلسات والحوارات من الانجراف والتأثر بإعلامهم ودعاياتهم ويحّذر منهم ومن مخططاتهم. وقد أشاد ـ فيما بعد ـ العديد من فضلاء الحوزة العلمية والمثقفين بموقف السيد الحكيم (قدس سره) وتحذيراته في تلك الفترة ودقة تحليله.

ومن هنا نجد أن حكومة البعث فرضت منع السفر على سماحته منذ أوائل تسلطها على العراق عام 1968م. وقد استمر منع السفر سارياً ولم يرفع إلاّ بحدود عام 1974م حيث سمح له بالسفر لحج بيت الله الحرام، وبعد فترة عاود قرار منع السفر والمراقبة الشديدة ليستمر إلى باقي سنوات حكمهم العجاف.

وفي أحداث شهر صفر عام 1977م بسبب قرار سلطة (البعث) الغاشمة بمنع المشي لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) ـ وهو ما اعتاد عليه شيعة آل البيت (عليهم السلام) في العراق ـ ومواجهتهم للمشاة الزائرين من المدن العراقية المختلفة بقوات الجيش من الطائرات والدبابات والمدّرعات وغيرها، أصرّ سماحة سيدنا المترجم له مع ثلّة من فضلاء الأسرة وشبابها ـ والذي استشهد بعضهم فيما بعد ـ على مواصلة المسير حتى وصلوا كربلاء وحرم الإمام الحسين(عليه السلام) متجاوزين سيطرات النظام وجيشه المكثفة، وبعد عمليات القتل والاعتقال الجماعي في صفوف المؤمنين المشاة أُخبر سماحة السيد الحكيم (قدس سره) من قِبَل بعض الوجهاء ـ الذي تسربت إليه قرارات النظام من بعض أعوانه ـ أن اسم سماحته ضمن المطلوبين للنظام، مما اضطره أن يغادر بيته مع أبنائه للاختفاء في إحدى البيوت المهجورة لفترة حيث لم يكن يعلم بمكان الأختفاء سوى العلوية حليلته التي كانت تتردّد خفية ومن دون أن ينتبه أزلام النظام وعيونه المنتشرة في كل مكان، واستمر اختفاء سماحة السيد الحكيم وابنائه إلى ما بعد صدور احكام الاعدام والسجن المؤبد الجائرة في حق مجموعة من المعتقلين والمشاة إلى زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) والى ما بعد غلق ملف القضية من جانب السلطة.

وبعد استيلاء الدكتاتور المتوحش صدام التكريتي على السلطة وازاحته لسلفه احمد حسن البكر في 17/ تموز/ 1979م بايعاز من قوى الكفر العالمي وأذنابهم ليؤدي ما عجز عنه سلفه من أدوار ومهمّات اجرامية بشعة، اشتدت الضغوط وقساوة النظام على العراقيين، خاصة الحوزة العلمية في النجف الأشرف بعلمائها وفضلائها، وقد آثر سماحته البقاء في الحوزة العلمية وعدم مغادرة العراق متحمّلاً تلك الضغوط والمخاطر في سبيل المساهمة في الابقاء على هذا الكيان العلمي والثقافي العريق وعدم تحقيق إماني السلطة الغاشمة في تفريغه من العلماء والأفاضل والسيطرة عليه.

وكان سماحته يواجه بصلابة ضغوط النظام آنذاك على العلماء والأفاضل لإظهار تأييد الحوزة العلمية له، بل كان سماحته يشجع على مواجهة تلك الممارسات الاجرامية مهما كلف من ثمن.

وقد بلغت الضغوط قمّتها أبان الحرب العراقية الايرانية، خاصة بعد أن فشلت خطة صدام في اسقاط الثورة الإسلامية الفتية في ايران بحرب خاطفة، وعندما تصاعدات الهجمات العسكرية الايرانية في جبهات القتال دعا المجرم صدام إلى عقد مؤتمر لـ(علماء المسلمين) في بغداد على أساس أن يحضره علماء المسلمين من داخل العراق وخارجه سماه (المؤتمر الإسلامي الشعبي)، في عملية دعائية مفضوحة، لإظهار دعم علماء المسلمين له من جهة، وليكون ذريعة لتجنيد المزيد من العراقيين إلى جبهات القتال تحت مسميات الجيش الشعبي والمتطوعين، بذريعة فتوى العلماء بالجهاد ضد (البغاة الايرانيين) ـ كما أسماهم ـ.

وكان من الطبيعي أن يضغط على العلماء في الحوزة العلمية بالمشاركة في هذا المؤتمر، وانصبَّ اهتمامه على اسرة آل الحكيم، لما لها من مكانة علمية وجماهيرية داخل العراق وخارجه، ولإظهار مخالفة الأُسرة لموقف آية الله السيد محمد باقر الحكيم في معارضته للنظام وقد تسربّت أنباء عن عزمه على اناطة رئاسة المؤتمر إلى إحد العلماء من السادة آل الحكيم، وعلى ضمهم إلى الوفود التي ارسلها المؤتمر ـ فيما بعد ـ إلى الدول الإسلامية لحشد التأييد لصدام ونظامه.

وقد اشتدّت ضغوط النظام على آل الحكيم للمشاركة في المؤتمر المذكور بمختلف أساليب التهديد والترهيب، بعد ان أرسل عدة دعوات إليهم تتضمن الدعوة للاشتراك في المؤتمر المذكور.

وعندما لم يجد النظام اذناً صاغية من الأسرة للاشتراك في المؤتمر أرسل إلى بيت الشهيد حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد رضا نجل مرجع الطائفة السيد الحكيم (قدس سره) مدير أمن النجف (المعروف بأبي مخلص) ـ وهو من تكريت ـ وشخصاً آخر أرفع منه لم يعّرف نفسه إلاّ انه مبعوث صدام ـ وهذا من أساليب إدخال الرعب ـ وقد أبلغه الوفد أن صداماً يصرّ على مشاركة الأسرة في المؤتمر، وانه سوف يعتبر الأُسرة معادية إذا رفضت الحضور، وانه لا يقبل أي عذر للرفض، إلاّ انّ السيد محمد رضا الحكيم ـ والذي كان معروفاً بالشجاعة والجرأة ـ أبلغه برفض الأُسرة الحضور مهما كانت الظروف والضغوط، وقد احتدم النقاش بين الطرفين بسبب اصرار الوفد وتهديده ورفض السيد، حتى قال له الشهيد السيد محمد رضا «أبو مخلص أنت تطبخ حصو» وهو مثل شعبي معروف في العراق كتعبير عن عدم جدوى الإصرار والتهديد. فخرج الوفد غاضباً وخائباً ليبلّغ سيّده الطاغية بفشل المهمة التي أُرسل من أجلها.

بعد حوالي اسبوعين من انعقاد ذلك المؤتمر الذي شعر النظام بفشله بسبب تغيّب السادة من آل الحكيم، أصدر صدام أمراً باعتقال الأُسرة انتقاماً منهم بسبب موقفهم المشرّف والذي صار معلماً في تاريخ العراق الحديث، خصوصاً انه لم يكن في تلك الفترة كيان علمي ديني واضح للحوزة العربية في العراق مثل ما كان لآل الحكيم بسبب انخراط العديد من رجال الأُسرة وشبابها في الحوزة العلمية، وهو ما كان يُغيظ النظام كثيراً.

وقد كان سيدنا المترجم له ووالده آية الله السيد محمد علي الحكيم (قدس سره) واخوانه وأولاده من جملة المعتقلين، وتمّ التركيز في التحقيق الذي واجهه السادة آل الحكيم في معتقل مديرية الأمن العامة سيء الصيت على مجموعة بشكل خاص منهم سماحة السيد نفسه، إلاّ ان الله تعالى بلطفه دفع عنه شرّ الظالمين.

ومنذ الفترة الأولى من انتهاء التحقيق في مديرية الأمن العامة في بغداد تكيّف سماحته مع جوّ الاعتقال، وكان يؤكد على باقي المعتقلين باستمرار على أهمية التسليم لله تعالى وإيكال الأمر إليه وتقوية العزيمة والصبر، رافضاً كل فكرة للمساومة والتنازل للسلطة، كما بدأ بدرس في تفسير القرآن الكريم ـ رغم عدم وجود أي مصدر سوى مصحف صغير متآكل ـ إلاّ أن عملاء السلطة احسّوا بالدرس وفتحوا تحقيقاً حول الموضوع علماً أن التثقيف الديني داخل السجن حُكمه الإعدام لدى نظام الطاغية صدام، فاضطرّ لترك الدرس المذكور، إلاّ ان مجالس المناقشة العلمية ـ السّرية طبعاً ـ بقيت كما تصدى سماحته لإحياء المناسبات الدينية من خلال المحاضرات، وتحفيظ بعض شباب الأُسرة القصائد الدينية التي كان يحفظها في ذاكرته ليلقوها ـ بسّرية ـ في تلك المجالس التي كانت تقام بسرّية تامة بعيداً عن مراقبة أعوان السلطة.

الاقسام المغلقة في سجن أبي غريب

وفي الشهر الثالث من عام 1985م نقلت السلطة المعتقلين من السادة آل الحكيم من معتقل مديرية الأمن العامة في بغداد إلى الأقسام المغلقة التابعة لقسم الأحكام الخاصة في سجن أبي غريب، بعد أن أعدموا منهم 16 شهيداً خلال وجبتين، وادخلوهم إلى ما يسمى ق 2 وجمعوهم في غرفتين مستقلتين مقفلتين بحيث لا يمكن لأية مجموعة الالتقاء ورؤية المجموعة الأخرى.

ورغم الظروف المعيشية القاسية في هذه الأقسام المغلقةـ والتي لا مجال لشرحها هنا ـ إلاّ انها من ناحية أخرى فتحت مجالاً رحباً نسبياً للنشاط العلمي والتربوي والتثقيفي للسادة آل الحكيم بسبب كثرة عدد السجناء واهتماماتهم الدينية والثقافية، بالإضافة إلى ابتعاد السجن عن رقابة السلطة نسبياً، بسبب قلة تردد عناصر جهاز الأمن وحذرهم من عدوى مرض التدرن المنتشره بين السجناء، حتى كان بعضهم يلبس الكمامات عند دخوله إلى السجن.

وقد منح كل ذلك فرصة لسماحة المرجع السيد الحكيم (قدس سره) لمزيد من النشاط العلمي والتربوي والاجتماعي داخل السجن.

1ـ النشاط العلمي والثقافي:

تنوع نشاط سماحته بين تدريس فضلاء السادة خاصة انّ العديد من المعتقلين من السادة آل الحكيم كانوا طلاّب درسه ـ البحث الخارج ـ قبل الاعتقال فابتدأ سماحته درسين على مستوى البحث الخارج احدهما في الفقه والآخر في علم الأصول.

كما اهتم سماحته بإحياء المناسبات الدينية بإلقاء المحاضرات الثقافية العامة التي كان لها تأثير كبير في تلك الظروف القاسية، وكذلك تصديه للإجابة على المسائل العلمية المتنوعة. وكان من ضمن النشاط العلمي تأليف عدد من الكتب المتنوعة.

2ـ النشاط التربوي والاجتماعي:

كانت أوضاع السجن السيئة وانتشار الأمراض الفتاكة وانقطاع السجناء عن ذويهم ـ حيث لم يكن يسمح لهم بمقابلة أهاليهم، بل كان أهلهم يجهلون مصيرهم تماماً ـ وفيهم الشاب والمراهق الذي انقطع عن أبويه العجوزين، والزوج الذي انقطع عن اسرته وأطفاله والشيخ العجوز المبتلى بمجموعة من الشكاوى والأمراض، وكثير منهم كانوا يعانون من آثار التعذيب الفظيع في فترة التحقيق، وكان اكثرهم شباباً يافعين غير مهيئين لظروف الاعتقال القاسية، إذ لم يكن لهم نشاط فاعل يوجب ادنى من هذه العقوبة، وإنما جرفهم طغيان النظام وظلمه العابث، فكان من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يعاني هؤلاء المعتقلون من افرازات نفسية واجتماعية، وكذلك في مواجهة التهديدات والضغوط الأمنية المتكررة التي كانت تلاحقهم وهم في زنزاناتهم الرهيبة، فكانوا بحاجة إلى من يجسّد الأبوّة والرعاية والاهتمام، والذي تمثل في شخص سيدنا المرجع الحكيم (قدس سره) الذي تحمّل هذه المسؤولية وأدّى هذا الدّور بالنسبة لآلاف المعتقلين الذين كانوا يقبعون في تلك الزنزانات، فكان سماحته يسأل عن المريض الذي يصارع مرضه من دون علاج أو طبيب اخصّائي، ويتابع المتأزم نفسيّاً ليخفف عنه ويقوي عزيمة الشاب الذي تضعف قساوة السجن عزيمته، بالإضافة إلى تصديه لحلّ العديد من المشاكل الاجتماعية التي كانت تحدث بين فترة واخرى.

وبعد أن سمحت السلطات ـ بعد سنوات طويلةـ لبعض السجناء ومنهم السادة آل الحكيم بلقاء أهاليهم كان سماحته ـ وكذلك باقي السادة ـ يكلّف الأهل بجلب كميات كثيرة من الأدوية والملابس والمأكولات التي كان يحتاجها السجناء ـ وبالتنسيق مع الدكتور سعد محمد صالح والمهتمين بشؤون السجن، وكلهم من السجناء المؤمنين ـ فكانت العلويات وأطفالهنّ يتحملن معاناة تهيئة تلك الأدوية والملابس والمؤن الكثيرة ـ خاصة في ظروف الرقابة الأمنية المشدّدة ـ وحملها إلى السجن، لإعانة باقي السجناء الذين لا تتوفر لهم فرصة لتوفيرها. وفي نفس الوقت كان سماحته يتجنب شخصياً ويوصي أولاده والمحيطين به من الاستفادة بما يجلبه الأهل من ملابس ومآكل بما يثير شجون السجناء المحرومين من ذلك، ويوصي دائماً بمواساتهم ورعايتهم. ويحتفظ كثير من السجناء بقصص وحوادث مؤثرة كانت بينهم وبين سماحته يحفظونها ويتناقلونها تعبّر عن اهتمام سماحته وأبوّته لهم، وبلغ من اهتمام سماحته بأولئك المعتقلين المؤمنين أن قال ـ أيام شدة المحنة في المعتقلات المغلقة في سجن أبي غريب ـ لبعض أولاده: «لو لم يكن من فائدة لمحنتنا ـ يعني محنة السادة آل الحكيم ـ إلاّ التخفيف عن هؤلاء السجناء لكفى».

3ـ الصمود في التحقيق:

يواجه السجناء والمعتقلون في العراق عادةً الكثير من أصناف التعذيب القاسي مما يصعب معه الصمود والتحمّل، وقد واجه سماحة المرجع السيد الحكيم (قدس سره) شخصياً أنواعاً من التعذيب الدامي والقاسي مثل الضرب بالهراوات والكهرباء وغيرها، خصوصاً عمليات التعذيب التي اشرف عليها صهر الطاغية المجرم صدام كامل التكريتي عام 1991م ـ والمعروف بالنقيب صدام حين كان يشغل منصب رئيس جهاز الأمن الخاص، ورئيس اللجنة الأمنية المشتركة المكلفة بالتحقيق في أحداث الانتفاضة الشعبانية العارمة، وقد صب هذا المجرم نقمته على شخص سماحة السيد (قدس سره) مستخدماً أساليب ووسائل متنوعة في التعذيب، إلاّ ان سماحته واجهها بعزيمة وصبر نادرين، حتى كان صدام كامل يقول له: «أنت جسمك ضعيف فلماذا لا تعترف وتخلص من التعذيب». وكان يحثّ باقي المعتقلين على الصبر والصمود والتوكل على الله تعالى بل كان يمازحهم بهدف تقوية عزائمهم، وقد أثر موقفه هذا كثير فيهم فبقوا يتناقلونه بعد انتهاء فترة التحقيق.

كما فشل نظام الطاغية في انتزاع موقف منه ـ في ذلك الظرف العصيب ـ مؤيّد له رغم ما واجهته السلطة به من ضغوط وقساوة التعذيب.

وبعد اطلاق سراح سماحته وبقية السادة من آل الحكيم ـ بعد اعدام مجاميع منهم ـ 5/ ذي القعدة /1411هـ حاولت السلطة وبمختلف الأساليب الضغط على سماحته لقبول المرجعية الرسمية إلاّ انه (قدس سره) رفض ذلك أشد الرفض، مؤكداً على استقلالية المرجعية الدينية الشيعية عن السلطة، مؤثراً تحمّل تلك الضغوط والمصاعب على تنفيذ مطالبهم، وقد فرض نظام الطاغية قيوداً مشدّدة على سماحته ابتداءً بمنع نشر كتبه ومؤلفاته.. إلى النشاط التبليغي مثل إرسال المبلغين وتوزيع الكتب وإقامة الدورات والمشاريع الثقافية، وكذلك الخدمات الاجتماعية وغيرها حتى انهم منعوه من إقامة صلاة الجماعة ليلة الجمعة في الصحن الحسيني في كربلاء، حيث كان سماحته يذهب لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) ليالي الجمعة في تلك الفترة، ورغم كل ذلك بقي سماحته مصممّاً على تحمّل مسؤوليته في دعم الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومساعدة آلاف العوائل الفقيرة في العراق، ومنهم الكثير من عوائل الشهداء والمعتقلين، وإرسال المبلّغين ودعم التبليغ الديني سرّاً بعيداً عن رقابة أعوان الطاغية.

وعندما سافر سماحته للعلاج خارج العراق أصرّ كثير من المؤمنين على بقائه وعدم رجوعه للعراق، خاصة ان ملامح الحرب كانت تلوح في الأفق، لكن سماحته أصرّ على الرجوع إلى خندق الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ليكون قريباًً من المؤمنين العراقيين في محنتهم التي طالت، وقد قال لبعض من طلب منه عدم الرجوع في تلك الفترة إلى العراق: «أخشى أن يكون عدم رجوعي للعراق موجباً لإحباط كثير من

المؤمنين ـ داخل الحوزة وخارجها ـ حيث يتصورون انني كنت أتحيّن الفرصة لترك العراقيين في محنتهم، فيحفّز ذلك آخرين على ترك الحوزة والعراق».

وقد مارس نظام الطاغية الضغوط على سماحته لإصدار بيان لدعم الطاغية عسى ان يهبّ شعب العراق المضطهد لتخليصه من المصير المحتوم الذي شاء الله تعالى أن يكون على يد أسياده ومؤيديه بالأمس، إلاّ ان سماحته رفض الاستجابة لتلك الضغوط إلى أن سقط نظام الظلم والطغيان إلى غير رجعة.

مرجعيّته

عرف عن سيدنا المترجم له اهتمامه بالتدريس والتأليف، منذ بدايات شبابه، حيث كرس وقته لتطوير المستوى العلمي للكثير من الشباب في الحوزة العلمية، من خلال مباشرة تدريسهم ومتابعة جهودهم العلمية، فكان له الفضل الكبير في بلوغ الكثير من الفضلاء المستويات العلمية العالية، مع الاهتمام بتربيتهم ليتصفوا بالتقوى والاستقامة حيث شاركوا برفد الحوزة العلمية بمساهمات مهمة عن طريق التدريس والتأليف والتحقيق.

وبعد رحيل آية الله العظمى السيد الخوئي (رضوان الله عليه) كثر الرجوع إلى سماحته وتزايد الإلحاح عليه بالتصدي للمرجعية من قبل مجاميع كبيرة من المؤمنين وفضلاء الحوزة العلمية داخل العراق وخارجه منهم بعض كبار العلماء ومراجع الدين.

وقد اهتم سماحته بتفعيل دور المرجعية الدينية الأصيلة في المجتمع، لتتوثق العلاقة بين الأمة وبين الحوزة العلمية والمرجعية الدينية فيأمنوها على دينهم ودنياهم، وكذلك التأكيد على الاستقامة والثوابت الدينية العقائدية والفقهية والسلوكية التي حفظها العلماء الأعلام جيلاً بعد جيل بعد أن ورثوها واستلهموها من القرآن الكريم والسنّة. ويؤكد سماحته على أهمية التزام هذه الأُسس والصمود بوجه أعاصير المحن والفتن المتنوعة.

فكان أن تحمّل المسؤولية في الظروف الحرجة والمعقدة التي يمرّ بها المؤمنون في مختلف بقاع المعمورة وقد تميّزت اهتمامات سماحته ضمن المحاور التالية..

أ) في نطاق الحوزة العلمية ـ هذه المؤسسة الدينية التي تنوء بالحمل الثقيل في مواجهة الفتن وخطط الأعداء المتنوعة ـ اهتمّ سماحته بتنشئة ورعاية جيل من الطلبة يتزوّد

بالتقوى والعلوم الإسلامية المختلفة ونلاحظ الآن رعايته للمئات من هؤلاء في الحوزة العلمية في النجف الأشرف حيث يهيّأ للمتفوقين منهم أساتذة وتوفّر لهم المستلزمات والامكانات المادية التي يحتاجونها لمواصلة دراستهم ومسيرتهم العلمية حيث يضاعف لهم الراتب الشهري بالإضافة إلى أصناف الدعم الأخرى. وقد وجّه سماحته رسالة لطلاب الحوزة العلمية ركز فيها على مجموعة من النقاط الهامة التي يفترض التزام طلاب الحوزة العلمية بها نشير هنا إلى بعضها..

1ـ التقوى وتبوّء مكانة القدوة في المجتمع ، فقد أكّد سماحته مراراً ضرورة التزام العالم الديني بالتقوى وخشية الله تعالى ليكون قدوة للمؤمنين في مواقفه وسلوكه فتطمئن له نفوسهم وتتأكد ثقتهم به ويزداد ارتباطهم بالمبدأ الحق ومفاهيمه. وقد أكد في فتواه بأن العدالة المعتبرة في مرجع التقليد هي غير المرتبة العادية من العدالة المعتبرة في الشاهد وإمام الجماعة، فقد ذكر سماحته في شروط مرجع التقليد (العدالة بمرتبة عالية، بأن يكون على مرتبة من التقوى تمنعه عادةً من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية وإن كانت صغيرة، بحيث لو غلبته نوازع النفس ودواعي الشيطان ـ

نادراً ـ فوقع في المعصية لأسرع للتوبة وأناب لله تعالى).

وفي رسالته لطلاب الحوزة أشار إلى أهمية التقوى من زاوية أخرى حيث قال:(على أن لرجل العلم ميزة عن سائر الناس في ذلك، فإن مقدمات معرفة الأحكام الشرعية والكبريات الاستدلالية غير منضبطة، وكثيراً ما تتدخل فيها القناعات الشخصية التي قد تتأثر بالعواطف والاعتبارات، وقد يجنح الباحث للحكم ويستوضح الدليل عليه بسبب ذلك، وقد يؤتى حظاً من القدرة على الاستدلال والخصام واللحن بالحجة فيبرز الشبهة بصورة الدليل، وكذا الحال في قناعاته الشخصية في الموضوعات الخارجية التي قد يرجع إليه فيها، ولا حاجز له عن التسامح في ذلك إلا التقوى والورع والخوف من الله تعالى، حيث يستطيع بسببها التمييز بين الشبهات الخطابية والاستحسانية، والأدلة القاطعة التي تنهض حجة مع الله تعـالى يوم يقف بين يديه ويعرض عليه).

2ـ المستوى العلمي العميق، فإنه يساهم في حفظ أصالة الفكر الشيعي ويحفظ مسيرة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من السطحية والذوبان، خصوصاً أنّ العالم الديني يتحمل مسؤولية استنباط الموقف الشرعي ومعالم الدين، وفي ذلك يقول سماحته مخاطباً طلاب الحوزة العلمية: (فاللازم تحري الأدلة المتينة والبراهين القويمة التي تصلح حجة بين يدي الله تعالى يوم الحساب الأكبر، وعدم التعويل على بهرجة الأقوال التي قد تقنع عامة الناس أو تناسب رغباتهم، من دون أن ترجع إلى ركن وثيق).

3ـ التحلّي بمكارم الأخلاق تأسياً بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام) ، وفي ذلك يقول سماحته: (وإن لأهل العلم في النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) لأعظم أسوة، فإنهم (عليهم السلام) على رفعة مقامهم وعظيم شأنهم كانوا يعظّمون المؤمنين وإن كانوا ضعفاء، ويوجبون حقهم، ويتواضعون لهم، ويوصون بهم خاصّتهم، ولا يرضون بالتقصير في حقهم، ولا يتسامحون في هذا الجانب إطلاقاً).

4ـ الأصالة والارتباط بالجذور من دون انعزال وانغلاق، ففي الوقت الذي يفترض في العالم الديني أن ينفتح على مجتمعه بل سائر المجتمعات حيث أصبح العالَم ـ بفضل وسائل الاتصال المتطورة ـ كالقرية الكبيرة، ويكون واسع الأُفق ، مستثمراً الإمكانات والأساليب الحديثة للدعوة إلى الدين والتنظير لمفاهيمه وطرحها بلغة حديثة ومنهجية معاصرة، إلا أنه لا يجوز أن يكون على حساب الأصالة والموضوعية في الاستنباط، وإلاّ مسخ الدين وتغيّر كلما تغيرت الظروف، وقد أشار سماحته لذلك بقولـه: (ويحق لهذه الطائفة أن ترفع رأسها فخراً واعتزازاً بمحافظتها على أحكام الله تعالى وتعاليمه، واهتمامها بأخذها من منابع التشريع الأصلية وصمودها في ذلك، متحدية أعاصير الزمن، وظلمات الفتن، على طول المدة وشدّة المحنة..)

 5ـ الاهتمام بتثبيت العقيدة وتعميق البحوث العقائدية ومواجهة الشبهات المختلفة التي تواجه الفكر الإسلامي الأصيل، وقد دعا العلماء والباحثين إلى الاهتمام بالبحوث العقائدية ومعالجة الشبهات، كما تصدى سماحته شخصياً لمواجهة بعض الأفكار والممارسات المنحرفة بإجابات تفصيلية شافية كان لها أثر بالغ في الأوساط المختلفة، ومن شواهد ذلك كتابه المعروف (في رحاب العقيدة) الذي يتضمن إجاباته التفصيلية على الأسئلة العقائدية التي وجهها أحد الباحثين الاردنيين ـ من خريجي قسم الشريعة ـ .

وكذلك مواجهة الظواهر العقائدية والسلوكية المنحرفة والفاسدة، من خلال الأجوبة التوجيهية التفصيلية التي وجّهها سماحته وعالج فيها ـ بحزم ـ الادعاءات الباطلة مثل دعوى السفارة والارتباط المباشر بأهل

البيت (عليهم السلام) ونحو ذلك، وكذلك موقفه من ابتداع بعض الشعائر الشبيهة بمراسيم الحج حيث مارسها بعض المشبوهين والسذّج بين مرقدي الإمام الحسين (عليه السلام) وأخيه العباس(عليه السلام)، وحول ضريح الإمام الحسين (عليه السلام). في إحدى الفترات ، واندثرت بعد ذلك، والحمد لله .

وكذلك موقفه الحازم من بعض البرامج التلفزيونية الفاسدة وبعض الممارسات والسلوك الأخلاقي المنحرف، مما كان له اثر إيجابي على نطاق واسع.

ب) الاهتمام بالجاليات الشيعية، خاصة التي تبتعد عن المراكز الدينية وتعيش ظروفاً صعبة، وفي هذا المضمار تأتي توجيهات سماحته بالاهتمام بالمغتربين وكذلك رسالته التي وجهها إليهم لدعمهم وحثهم على مواجهة الاغتراب، كما وجه سماحته رسالة إلى المؤمنين من أهالي گَلگيت(28) لدعم موقفهم الحرج الذي يمرون به في مواجهة بعض الفئات التي تحاول بث روح الفرقة والاقتتال بين المسلمين، ورسالته التوجيهية التي وجهها لمسلمي آذربايجان والقفقاس بعد انهيار الشيوعية هناك، وكذلك متابعته لأوضاع المؤمنين في باكستان وأفغانستان(29) وغيرهما من بقاع المعمورة.

ج) العمل الإسلامي المشترك لمواجهة خطط أعداء الإسلام، وفي هذا الصدد دعا سماحته إلى الانفتاح على المسلمين بمذاهبهم المختلفة لتفعيل النشاط الإسلامي، فقال مخاطباً المغتربين: (عليكم بالاهتمام بالعمل المشترك لخدمة الإسلام مع بقية طوائف المسلمين، من أهل الرشد والتعقل، والحرصِ على مصلحة الإسلام العليا، والبعد عن الدس والتعصب المقيت فإن اتفاقنا معهم في أصول الإسلام المشتركة يقضي بالاهتمام من الجميع بخدمتها وتركيزها وتشييدها والتعاون في ذلك على أتم وجه وأكمله...).

د) الاهتمام بالارتباط بالقرآن الكريم والرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد تجلى ذلك في سيرته الشخصية من جهة فهو ملتزم بالقراءة اليومية والمتكررة للقرآن الكريم وكذلك قراءته وإحاطته بكثير من الكتب الحديثية الحاكية للسّنّـة من أقوال المعصومين (عليهم السلام) وسيرتهم، والمصادر التأريخية وغيرها. ولذلك نلاحظ وفرة استشهاداته في خطابه وتوجيهاته بآيات الذكر الحكيم والنصوص الشريفة، وقد أكّد ـ جواباً على سؤال وجّه إلى سماحته ـ على ضرورة اعتماد القرآن الكريم وكتب الأحاديث المعتبرة ونهج البلاغة والصحيفة السجادية مرجعاً رئيسياً للعلماء والخطباء والمتحدثين.

هـ) الارتباط العميق بأهل بيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام) والتفاني بحبهم ويتضح ذلك من خلال توجيهاته المتكررة في مختلف المناسبات والاهتمام بالشعائر الحسينية والمناسبات الاسلامية ويظهر ذلك من خلال محاضراته السنوية في محرّم واهتمامه بقراءة مقتل الإمام الحسين(عليه السلام) شخصياً.

وقد كان لحضوره في مجالس المراكز الإسلامية، وكذلك قراءته لمقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ومشاركته في مراسيم العزاء خلال سفرته العلاجية إلى لندن أثر بالغ في أوساط الجالية الإسلامية هناك وارتباطهم بآل البيت(عليهم السلام) واهتمامهم باحياء ذكرهم وإبراز ظلاماتهم (عليهم السلام).

و) تأكيد العلاقة الوثيقة بالأمة واتباع أهل البيت (عليهم السلام) فلا يدع سماحته أي مجال حتى يقدّم النصح والتوجيه عن طريق المحاضرات والخطاب المباشر في النجف الاشرف وحتى خلال سفره للعلاج ورغم حالته الصحيّة آنذاك تصدّى لتوجيه المؤمنين المغتربين، وكذلك طلبة الحوزة العلمية في سورية، والمؤمنين الذين التقاهم، وتذكيرهم بجذورهم الدينية والاخلاقية الأصيلة وثقافة الإسلام ومدرسته المتمثلة بنهج آل البيت(عليهم السلام).

ز) اهتمامه البالغ بدعم العوائل الفقيرة والمحتاجين، وقد تجلى ذلك من خلال الدعم المتنوع لهم ومن ذلك تخصيص رواتب شهرية منتظمة لآلاف العوائل الفقيرة في العراق.

ح) الاهتمام بتعمير مجموعة من الأماكن والعتبات المقدسة المتداعية أو التي أشرفت على الانهيار بسبب انعدام الرعاية اللازمة لها، مثل مشروع بناء وتجديد مسجد السهلة الضخم،وإنشاء الكثير من المساجد في مختلف مدن العراق وسوريا.

ط) دعم التبليغ الديني، وتأتي في هذا الإطار برامج إرسال المبلّغين ودعم النشاط التبليغي في باكستان والهند وافغانستان، والجمهوريات المستقلة حديثاً في آسيا الوسطى والمدن السورية وشمال العراق، والمخيمات العراقية في إيران، وبعض المناطق الإيرانية، وكذلك دعم إقامة دورات دينية تربوية في مناطق مختلفة خاصة المناطق المحرومة، ونشر ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) في البلاد الإسلامية، خصوصاً في جمهوريات آسيا الوسطى بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي حيث يتكفل مكتب سماحته بارسال مبلّغين إليها من بين طلبة هذه البلدان، ودعم الأنشطة التبليغية المتنوعة هناك .

ي) الارتباط بالمراكز والمؤسسات الإسلامية في أمريكا وأوروبا عن طريق الاتصال المباشر وتغذيتها بمختلف الكتب الإسلامية والإجابة على الأسئلة المتنوّعة التي ترد من المؤمنين هناك والمساهمة الواعية في حل الكثير من المشكلات التي تواجهه الجاليات الإسلامية، وكذلك مراسلتها من خلال إصدار بيانات توجيهية بالمناسبات الدينية، لربطها بالمرجعية الدينية والحوزة العلمية، وكذلك تفعيل بعض أنشطة هذه المراكز، لدعم وتثبيت الحالة الدينية والأخلاق الإسلامية بين الجاليات الإسلامية في الغرب.

وقد كان لهذا الارتباط والأنشطة تأثير إيجابي على مختلف الأصعدة، بالنسبة للمراكز الإسلامية المذكورة.

وقد تم وبسعي حثيث وجادّ تغذية مواقع الأنترنيت التابعة لمكتب سماحته بالعلوم والثقافة الإسلامية الأصيلة المتنوعة باللغات العربية والإنكليزية والاردو، لإيصال الفكر الإسلامي ونهج أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم المختلفة عبر ذلك إلى مختلف أنحاء المعمورة، والإجابة على أسئلة المؤمنين وغيرهم المتنوعة الفقهية والعقائدية وغيرها.

ك) متابعة الأحداث التي تهم العالم الإسلامي واتباع أهل البيت (عليه السلام) والتحديات التي تواجههم، واتخاذ المواقف والخطوات المناسبة، من جانب المرجعية الدينية، نذكر منها..

1ـ دعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الصهيوني الغاشم ورفض احتلال القدس الشريف وباقي الأراضي الفلسطينية.

2ـ تأكيد حق الشعب اللبناني في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الغاشم، ومباركة النصر المؤزر للمقاومة الإسلامية في تحرير الجنوب.

3ـ استنكار جرائم القتل الجماعية التي ارتكبتها عصابات (طالبان) ضد شيعة آل البيت(عليه السلام) خاصة المدنيين العزّل في افغانستان.

4ـ شجب عمليات القتل العشوائية ضد شيعة آل البيت (عليه السلام) وتفجير المساجد والحسينيات، التي ترتكبها عصابات (جيش الصحابة) في باكستان، ومطالبة رئيس الحكومة الباكستانية بتحمّل مسؤولياتها في وقف هذه الجرائم البشعة، وقد عبّر رئيس وزراء باكستان السابق (نواز شريف) خلال رسالته التي سلمت لمكتب سماحة السيد الحكيم ـ قدس سره ـ عن تفهم لقلق المرجعية الدينية و حرص حكومته على وقف تلك الممارسات الإجرامية و معاقبة أصحابها.

5ـ تقدير موقف رئيس جماعة نهضة العلماء في أندونيسيا عبد الرحمن وحيد، في إفشال خطة الوهابيين بتكفير شيعة آل البيت (عليهم السلام) ومنع أنشطتهم هناك بحدود عام 1416هـ، حيث بلغ مكتب سماحة السيد الحكيم (مدظله) تقدير سماحته لموقف رئيس جماعة النهضة في رسالة خاصة، مما كان لذلك اثر إيجابي .

6ـ الضغط على الحكومة الماليزية و إبلاغها بقلق المرجعية الدينية بسبب اعتقال شيعة آل البيت (عليهم السلام) هناك ـ في أواخر التسعينات ـ بتأثير نفوذ الجماعات المناوئة لخط آل البيت (عليه السلام) هناك من خلال آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين(رحمه الله) رئيس المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان ـ .

7ـ استنكار موقف مفتي الأزهر وتصريحاته الهوجاء بتكفير شيعة آل البيت(عليه السلام) ، ومفاتحة سماحة الشيخ شمس الدين (قدس سره) للضغط على شيخ الأزهر والمفتي المذكور لتلافي تلك التصريحات ومنع تكرارها ، حيث استجاب الفقيد الراحل مشكوراً لمتابعة الموضوع.

8ـ استنكار تصريحات ومواقف قادة بعض الدول الغربية ضد الإسلام والممارسات التعسفية ضد الجاليات المسلمة هناك. إلى غير ذلك من المواقف المعبرّة عن حضور المرجعية الدينية ومتابعتها للأحداث التي تهمّ العالم الإسلامي ومصير المسلمين.

المقدمة: تحرير – موقع مركز الاعلام الدولي

تصوير: محمد القرعاوي

المصدر: موقع مكتب سماحة المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (قدس سره)

المرفقات

العودة إلى الأعلى