مسلموا الصين.. القبض على الجَمر في عالم متغيّر
ناصر الخزاعي
ظلّت الصين ذلك البلد المحاط بسور عظيم لا مثيل له واحدة من أكثر بلدان العالم انغلاقا بوجوه الغرباء وما يحملون من أفكار لا توافق العقيدة (الكونفشيوسية) البوذية التي يعتقد بها السواد الأعظم من سكان الصين منذ أكثر من ثلاثين قرناً من الزمان.
وتذكر المصادر العربية القديمة أن (عبد الله القاسم) الذي أقلع من عمان الى ساحل مدينة (كانتون) في بحر الصين العظيم هو أول تاجر عربي يدخل الصين في عام 133هجري – 750ميلادي، وقد أطلق عليه العمانيون -آنذاك- وصف السندباد لمجازفته بدخول هذه البلاد البعيدة والغامضة جداً، فيما زار الرحالة الاسلامي الشهير ابن بطوطة الصين بعد قرون وأطلق عليها (صين كلان) ورآها من أكبر المدن وأحسنها أسواقاً، وسمع أن بينها وبين سد يأجوج ومأجوج ستين يوماً رغم أنه لم يرى السد ولم يرى من رآه!!
وعلى أرض شاسعة متعددة التضاريس يجري فيها أكثر من ألف نهر أقامت ممالك الصين المتعددة وجمهوريته الحالية عالمها الفريد والمثير الذي يعيش فيه الآن ما يزيد على المليار إنسان (ألف مليون أو يزيد) يتغذون من ثمار الصين الهائلة التي يزرعونها بأيديهم، ويصنعون في مصانعها المتعددة مختلف البضائع والسلع ابتداء من الطائرات والغواصات وانتهاء بإبر الخياطة وعيدان الثقاب، وقد صارت هذه السلع تنافس البضائع العالمية وترميها بالكساد وتسبب لأسواقها الخسائر الفادحة نظرا لتدني أسعارها وكلفتها قياسا بالبضائع الأخرى.
وقد ارتبطت معرفة الصينيين الأوائل للاسلام بالتجار المسلمين المعروفين بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد، بالرغم من المعرفة السابقة للعرب والصينيين فيما بينهم قبل البعثة النبوية بدليل الحديث النبوي الشريف الذي يقول (اطلبوا العلم ولو في الصين)، والمسلمون معروفون باللهجة المحلية الصينية باسم (داشي) وهي كلمة صينية معناها (التاجر) لان التجار هم اول الوجوه المسلمة التي رآها الصينيين، وقد تطورت اللفظة الى (تاشيش) أي تجار مسلمون، ومن هذا اللفظ اشتقت لفظة (طاجيك) للدلالة على المسلمين وهي في الحقيقة تطوير للفظة (تازي) الفارسية التي اطلقت على عرب قبيلة (طي) ممن دخلوا بلاد فارس مع موجات الفتح الاولى وصارت تطلق اختصارا على المسلمين عموما.
وتعد مقاطعة تركستان الشرقية التي تسكنها قبائل الـ(ويغور) في غرب الصين من أكثر المناطق التي يقطنها المسلمين في الصين الذين لا زالوا حتى يومنا هذا يستخدمون الحروف العربية في كتاباتهم، ثم صار هذا اللفظ (الويغور) يطلق على كل المسلمين في الصين عموما حتى ممن يسكنون وسط البلاد وجنوبها، في حين ينتشر المسلمون الشيعة قرب مراكز المدن الكبرى حيث وفدوا الى الصين نتيجة اضطهادهم في خراسان من قبل الأمويين وصاروا من ذلك الوقت يعملون كوسطاء تجاريين ومترجمين بين كبار التجار الصينيين وبين التجار الأجانب.
وتشير الاحصائيات الرسمية (الحكومية) الصينية الى ان عدد المسلمين في هذا البلد يصل الى ثلاثون مليونا نسمة، ولكن تقديرات الأمم المتحدة ومنظمة الدول الاسلامية تقول أن عدد المسلمين يتجاوز السبعين مليون وان الرقم الذي تطرحه السلطات الصينية غير صحيح بسبب الأقصاء الممارس ضد المسلمين وثقافتهم التي توارثوها منذ الاف السنين ولمحاولة تذويب هوية المسلمين الثقافية بالإعلان عن ربع العدد الحقيقي للمسلمين بقصد إظهارهم كأقلية صغيرة ضمن قائمة المليار إنسان في بلاد الصين.
ويعاني المسلمون (الايغوريون) الأمرَّين في ظل حكومة حزب شيوعي واحد يحكم أمور بلاد يزيد سكانها على المليار شخص، فمن يدخل المدن الاسلامية في الصين ولا سيما مدن تركستان الشرقية التي غيرت الحكومة اسمها الى (شين جانغ، أي الحدود الجديدة) تصدمه مناظر لا تصدق في بلد يعد اقتصاده من بين أغنى الاقتصادات العالمية لكثرة الصناعة ووفرة المياه والزراعة والثروات الطبيعية فضلا عن الثروة البشرية الهائلة، فمناظر البؤس تبدو على وجوه المسلمين الصينيين الذين مازالوا حتى يومنا هذا يسكنون البيوت الطينية ولا يسمح لهم بمزاولة اعمال غير الزراعة والفلاحة، بينما يحرم على الفتيات المسلمات ارتداء الحجاب الذي يحتالن فيه على السلطات الصينية من خلال التمويه بعدم لبس الحجاب عبر لبس أغطية للرأس على هيئات وأشكال مختلفة للتخلص من العقوبات الصارمة التي تفرضها السلطات ضد المسلمات، ولا يسمح للناس بالصلاة في المساجد الا من تجاوز عمره السبعين عاما، بل ويسجن كل من شوهد في رمضان صائما ويقدم للمحاكم على أنه ينتهك قوانين البلد الذي يحارب التدين ويصفه بأنه نشاط غير لائق يمارسه مجموعة من الناس المخدوعين والمغرر بهم!!
ولعل من أغرب الأشياء أن من ينطق تحية الاسلام في الصين أي (السلام عليكم) فهو في حكم المتهم الذي تطاله المساءلة القانونية، ويؤخذ الشباب المسلم في تركمانستان الشرقية الخاضعة لأكبر برنامج مراقبة كامراتية ألكترونية إلى مراكز التأهيل والتثقيف التي تشبه مراكز غسل الأدمغة التي تتبع نظاما يبغض في الثقافة الاسلامية ويكرهها لأصحابها ويصورها على أنها وحش خرافي قادم من العصور الوسطى يريد افتراس الصين وانجازاتها، ولذلك اذا توفر لجهاز الأمن الصيني أن أي شاب من شباب الأيغور يقوم بأداء الصلاة أو يواظب على الصيام أو قراءة القرآن الكريم فهو سيؤخذ دون علم أهله الى أقرب مركز للتأهيل ويعزل عن العالم الخارجي بحجة تعليمه حب الصين وزعيمها الخالد!!
وبما أن كل مدن تركمانستان الشرقية هي مدن ضخمة مبنية على الطرز الاسلامية التي تجعل من المساجد الكبيرة مركزا تتوسع حوله هذه المدن، فإن مدن تركمانستان الشرقية ومع ما فيها من مساجد عريقة وضخمة فإن هذه المساجد مغلقة بالكامل ولا يسمح بإطلاق صوت الآذان فيها لأي وقت من الأوقات والأدهى من ذلك يمنع تصوير هذه المساجد وحتى الوقوف أمام أبوابها للتأمل وإمتاع النظر بهذه التحف المعمارية الخالدة!!
وربما يتساءل القارئ عن الأسباب الحقيقية التي تجعل الصين تضرب كل هذه القيود الصارمة على مقاطعة تركمانستان الواقعة في أقصى الغرب الصيني، وإن تساؤل القارئ واندهاشه سيزول حتما اذا ما عرف أن هذه المقاطعة تحوي على أهم مصادر البترول والمعادن الثمينة التي تكاد تخلو منها دولة عظمى كالصين، وكذلك أن هذه المقاطعة كانت منذ القدم مركز التجارة العالمية للحرير الصيني والتوابل الهندية المنقولة الى اوربا بما يعرف بطريق الحرير التي تحاول الصين اعادة الحياة اليه مجددا للهيمنة الاقتصادية على العالم والتحكم بالاقتصاد في حربها الخفية والمعلنة مع أمريكا التي تحاول هي بالوقت نفسه الوصول الى الهدف ذاته، أو على الأقل حرمان الصين عدوها الاقتصادي الأول من السيطرة على هذا الطريق الاقتصادي الاستراتيجي.
غير أن من يدفع الثمن في نهاية الأمر هم مسلموا الصين الذين لا ناصر لهم ولا سامع لقضيتهم في عالم يدّعي الديمقراطية وتأييد مبادئ حقوق الأنسان والعدالة والمساواة بين البشر كذبا وزيفا، وها هو العالم المتحضر يصك السمع عما يجري في الصين من ازدراء وإقصاء وتعنيف للمواطنين الضعفاء المغلوبين على أمرهم ليس لشيء سوى أنهم مسلمون يعبدون الله الواحد الأحد ويؤمنون باليوم الآخر وبالقرآن كتابا وبمحمد (صلى الله عليه وآله) نبيا، وربما كان الحال أشد إيلاماً لمسلمي الصين عندما يصمت عن قضيتهم المسلمون أنفسهم والذين ينبغي عليهم أن يكونوا كالجسد الواحد إذا ما اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.