جهل الفلاحين وجشع التجار وراء انتشارها.. مبيدات زراعية مغشوشة تهدد الصحة العامة في البصرة

في ناحية النشوة بمحافظة البصرة جنوبي العراق، تقضي سعدية حسين مهاوي (22 سنة) ساعات النهار في مساعدة والدها لحراثة التربة وسقي مزروعات حقلهما من الخضار فضلاً عن الأشجار المعمرة، وفي المساء تنشغل في تأمين متطلبات عائلتها.

لا تكترث سعدية، التي تزوجت في سن مبكرة ولم تلتحق بالدراسة مطلقا، بعناء ساعات العمل الطويلة في الحقل، فهي تعتقد بأنها ولدت لتكون فلاحة، لكن ما يثير قلقها هو الأثر العميق الذي باتت تتركه المبيدات الزراعية على جسدها.

تقول وهي تشير الى بقعة حمراء صغيرة على ساعدها:”نحن نغذي الأرض، وفي الوقت ذاته يبدو اننا نسمم اجسادنا”. تنظر الى الحقل المخضر أمامها:”كنت أرشّ المبيد بنفسي، دون قفازات ودون كمامة، لأحمي الزرع من الحشرات، واليوم بات جسدي يمتلئ بالطفح وأشعر بالحكة ليلا ونهارا، الطبيب مؤخرا حذّرني من استخدام المبيدات أو التعرض لها والا سيسوء وضعي الصحي أكثر”.

في شرقي البصرة، كاد حسن بادع (60 سنة) يفقد حياته عام 2024، بسبب تعرضه لتسمم حاد بسبب ملامسته واستنشاقه لمبيدات زراعية، يقول:”كنت أرشّ المبيد وقت الظهيرة، وفجأة شعرت بدوار وسقطت أرضا”.

حمله ابناؤه الى مستشفى في مدينة البصرة، وهناك أخبرهم الطبيب أنه بالكاد استطاع النجاة من السموم التي تعرض لها، يقول بحيرة:”لم أستخدم المبيد بطريقة آمنة، توعدت على ذلك، ولم أعلم بانه خطير الى هذا الحد وبأنه يمكن ان يكون قاتلا وبشكل فوري”.

وفي ناحية الدير بمحافظة البصرة، يشكو الفلاح علي غازي (45 سنة) من مشكلة مزمنة في معدته، يعتقد انها من تداعيات استخدامه للمبيدات من أجل معالجة أشجار النخيل المصابة بـ(حفار الساق)أو(عنكبوت الغبار)، كما أخبره أطباء راجعهم خلال مرضه.

يقول بانه مجبر على استخدام المبيدات وأنه يشعر بالغثيان في كل مرة، وأنه بدأ مؤخرا باستخدام وسائل وقاية أكثر كالقفازات والكمامات والنظارات، “لكن بعد فوات الأوان” يضيف، وهو يجر نفساً عميقاً.

ما تعانيه سعدية وواجهه كل من حسن وعلي، أمور تتكرر كل يوم عند الكثير من الفلاحين في محافظة البصرة، بسبب الجهل في استخدام المبيدات الزراعية، وأيضاً رداءة بعض نوعياتها التي تباع في غفلة من الرقابة، ويقبل عليها الكثير من المزارعين بسبب رخص أثمانها.

جهل معرفي وقلة وعي

مسؤولة القطاع الصحي في ناحية الدير بمحافظة البصرة، زهراء رحيم حسين، تقول بأن العديد من المزارعين “لا يستخدمون أدوات الوقاية الشخصية كالأقنعة والقفازات عند رش المبيدات في حقولهم وبساتينهم ما يؤدي إلى استنشاقهم المباشر للمواد السامة، وبالتالي تسجيل حالات اختناق وطفح جلدي بل وأحيانا إغماء وأعراضاً تنفسية حادة”.

وتؤكد بأن المشكلة لا تكمن فقط في غياب وسائل الوقاية بل في ضعف الوعي الصحي وانتشار أنواع محظورة من المبيدات ذات السمية العالية في الأسواق المحلية في ظل عدم وجود “رقابة صارمة” تمنع كليا دخول واستخدام تلك المبيدات.

وتضيف:”هنالك انواع من المبيدات الزراعية معروضة للبيع في الأسواق، لا تصلح أصلا للاستخدام البشري أو الزراعي ومع ذلك يلجأ إليها الفلاحون لجهلهم بخطورتها، وسهولة الحصول عليها ورخص اثمانها”.

وحذرت مسؤولة القطاع الصحي، من خطورة الاستخدام غير المنضبط للمبيدات الكيميائية على المحاصيل الزراعية وصحة الإنسان على حد سواء، مؤكدة أن تجاوز الجرعات الموصى بها أو عدم الالتزام بفترة الأمان قبل الحصاد يترك بقايا سامة على الثمار، بل وحتى داخلها، خصوصاً في الخضار والفواكه التي تمتص المواد الفعالة.

وتوضح أن ذلك لا يؤدي فقط إلى تراجع القيمة الغذائية للمحصول بل قد يحوله إلى مصدر محتمل للأمراض، كما أن الإفراط في استخدام المبيدات يؤثر على خصائص التربة ويضر بالكائنات الحية الدقيقة المسؤولة عن توازن النظام البيئي الزراعي، ما ينعكس سلبا على خصوبة الأرض وإنتاجيتها على المدى الطويل.

وفي ما يتعلق بالتأثيرات على الإنسان أشارت إلى أن المستهلك “قد لا يدرك أن بعض المنتجات مثل الطماطم قد رُشت بالمبيدات قبل يومين فقط من قطافها أو ربما تحتوي على مواد محظورة دوليا يتم تداولها في السوق السوداء”.

ويقول باحثون في المجال الصحي، ان أطباء في البصرة سجلوا زيادة في حالات التسمم الغذائي وأعراضاً غامضة لدى الأطفال، منها ضعف المناعة واضطرابات النمو والتي يُعتقد انها تأتي نتيجة لتراكم بقايا المبيدات في أجسادهم.

وتظهر أبحاث احتواء بعض المبيدات على مركبات تؤثر على الجهاز العصبي وتصنَّف كمسببات لاضطرابات الغدد الصماء، بينما ترتبط أنواع أخرى بزيادة احتمالات الإصابة بالسرطان، والفشل الكلوي، وتشوهات الأجنة.


العودة إلى الأعلى