قبر الامام الحسين (عليه السلام) عبر التاريخ

: محمد طاهر الصفار 2025-07-09 10:25

لقد تحقق ما قالته السيدة زينب (سلام الله عليها) لابن أخيها الإمام زين العابدين (عليه السلام): (لقد أخذ الله الميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون من أهل السماوات انهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفى رسمه على مرور الليالي والأيام ... ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار لم يشاركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية فيوارون أجسامهم ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق وسبباً للمؤمنين إلى الفوز) (1) 

بنو أسد

تشير الروايات إلى أن أول من بنى قبر الحسين (عليه السلام) هم بنو أسد بعد أن دفنوه وأصحابه وذلك عام (61هـ) (2) 

ويُستدل على ذلك أن التوابين عندما كانوا يأتون لزيارة قبر الحسين كان هناك قبراً مبنياً شاخصاً كما ذكر ابن طاوس في كتابه (الإقبال): (إنهم ــ أي التوابين ــ أقاموا رسماً لقبر الحسين بتلك البطحاء يكون علماً لأهل الحق. ويدل خبر مجيء التوابين إلى القبر الشريف إنه في ذلك الوقت وهو سنة هلاك يزيد (63 أو 64) كان ظاهراً معروفاً ولا يكون ذلك إلّا ببنائه). (3)

بناء المختار

وبقي هذا البناء حتى عام (66 هـ/680م) حيث أمر المختار بن أبي عبيدة الثقفي بتشييد بناء ثانٍ على القبر الشريف أوسع منه وبنى قرية صغيرة حوله من الطين وسعف النخيل. وقد وصفت المصادر هذا البناء بأنه يتكوّن من قبة من الآجر بنيت على القبر وبجانبها مسجد له بابان (4)

وبقي هذا البناء قائماً حتى انتهاء الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية التي مرّ على القبر الشريف في عهدها مراحل مختلفة وعديدة حاولت فيها محو آثار القبر وطمس معالمه لكن الله شاء أن يزداد رفعة وسمواً بعد كل محاولة

ويعلل الدكتور عبد الجواد الكليدار فترة ــ الهدوء النسبي ــ الذي مرّ على القبر الشريف في العهد الأموي بالقول: (ولعل الفترة التي مضت على القبر المطهر من بعد وقعة الطف إلى أواخر الدولة الأموية كانت أهدأ دور مضى على الحائر لأنهم اكتفوا ــ حسب الظاهر ــ بما اقترفوه نحو صاحب القبر (عليه السلام) من جرائم وآثام فظيعة (5)

ولعل رأي الدكتور الكليدار يبدو منطقياً بعض الشيء فالأمويون كفّوا أيديهم عن القبر ليس ورعاً وخشية من الله، بل خوفاً من ثورة الرأي العام ضدهم خاصّة أنهم انشغلوا بإخماد الثورات العلوية وغيرها ضدهم ومنها ثورة زيد بن علي وابنه يحيى الذي زار قبر الحسين مع أصحابه قبل أن يعلن ثورته، ومما يدل على ذلك أنهم أقاموا المسالح والمخافر المدججة بالسلاح لمطاردة الزوار وممارسة أقسى العقوبات بحقهم

المنصور الدوانيقي أول من هدم االقبر

بقي بناء القبر شاخصاً حتى قيام الدولة العباسية حيث تشير المصادر إلى أن المنصور العباسي هو أول من هدم قبر الحسين كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد الجواد الكليدار, (6) والشيخ محمد السماوي (7) والسيد صالح الشهرستاني (8) لكنهم لم يحددوا السنة التي تم فيها هذا الهدم, غير أن الباحث والمحقق الأستاذ يعقوب نعوم سركيس يقول: (إن المنصور هدم قبر الحسين سنة (146هـ). (9)

لكن القبر سرعان ما بُني مرة أخرى في زمن المهدي العباسي الذي سمح للشيعة ببنائه وفسح المجال لهم بزيارته وذلك عام (158هـ) وقد بقي هذا البناء حتى عهد هارون الرشيد

في عهد الرشيد

كانت فترة حكم هارون الرشيد قاسية على الشيعة حيث مارست سلطته أبشع أنواع التعذيب والتنكيل والتشريد بحقهم وطالت يداه مقدساتهم فدفعه بغضه الشديد لهم إلى هدم قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وهدم الدور المجاورة حوله وكانت هناك سدرة عند القبر يُستدل بها عليه فأمر بقلعها وحرث موضع القبر ومحى أثره (10)

ويذكر هذه الحادثة بالتفصيل السيد محسن الأمين (2) نقلا عن السيد محمد بن أبي طالب في تاريخه (تسلية المجالس) فيقول: (وكان عليه ـــ أي قبر الحسين ــ مسجد.... وفي زمن هارون الرشيد فإنه خربه وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده وكرب موضع القبر (11)

وقد اقترن هذا التهديم في المصادر بقصة شجرة (السدرة) التي كان الزوّار يستدلون بها على قبر الحسين ويستظلون بها فأمر الرشيد بقلعها، وقد روى الطوسي عن يحيى بن المغيرة الرازي قوله: (كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق فسأله جرير عن خبر الناس، فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (عليه السلام) وأمر أن تقطع الشجرة، فقطعت فرفع جرير يديه وقال: الله أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثاً فلم نقف على معناه حتى الآن، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لا يقف الناس على قبره) (12)

وقد نقل هذه الرواية بألفاظ مختلفة ومضمون واحد ابن شهر آشوب (13) والمجلسي (14) والشيخ محمد السماوي (15) والسيد عبد الحسين الكليدار آل طعمة (16). وهذه الشجرة (السدرة) كانت موجودة منذ العصر الأموي ومكانها كان بجانب القبر وتعد نقطة دالة للزوار، ولا يزال هذا الاسم ــ السدرة ــ مقترناً بالقبر الشريف حيث أطلق على الباب الشمالي الغربي للمرقد والشارع الذي يقابله.

ويؤكد المستشرق جون هوليستر في كتابه (شيعة الهند) وجود هذه الشجرة رغم أنه يسميها بشجرة (عنجاص) ــ ولعله الإجاص ــ أي الكمثري ــ فيقول: "كذلك إن إحدى الروايات الشيعية تنص على أن بعض المؤمنين المحبين لأهل البيت كان قد أشر على مكان القبر المطهر بزرع شجرة (عنجاص) بالقرب منه، ولكن هذه الشجرة قد اجتُثّت فيما بعد بأمر من الخليفة هارون الرشيد، وحُرِثت الأرض المحيطة بها، غيرَ أنّ بعض النازلين على مَقربة من الموقع بادروا إلى وضع علامة غير ظاهرة فيه (16)

وقد نقل هذه الرواية الدكتور جعفر الخياط (17). وقال: "وربما خفي على هوليستر معرفة (السدرة) أو ربما هناك تقارب في اللفظتين بلغته، ولكن المهم أنه كانت هناك شجرة قرب القبر وأن الرشيد أمر بقلعها وهدم القبر الشريف والدور المجاورة له". 

وقد ذكر المجلسي إن الذي باشر بهدم القبر هو الوالي على الكوفة من قبل الرشيد موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 182هـ/799م) (18)، وذكرت المصادر أن موسى هذا هدم القبر الشريف عام (193هـ) في أواخر أيام الرشيد، ولكن يعقوب نعوم سركيس انفرد بالقول بأن عملية الهدم كانت عام (171هـ) (19) وهذا القول يتعارض مع الواقع التاريخي حيث إن موسى بن عيسى العباسي قد تولى الكوفة سنة (172هـ)

ويؤكد القول الأول الدكتور عبد الجواد الكليدار بقوله: "وفي السبعة عشر سنة الأولى من حكمه ــ أي الرشيد ــ ما بين عام (170 ــ 187) لم تظهر نواياه نحو الحائر لوجود موانع ولكنها ظهرت في المدة الأخيرة من حكمه، حين بلغ منه الحقد على العلويين وعلو مكانتهم في القلوب أن أغاظه ما كان من توجه النفوس وتهافت الزوار بتلك الكثرة على كربلاء 

ثم يشير الكليدار إلى القصة التي أثارت حفيظة الرشيد من مكانة القبر في نفوس المسلمين وتلهف الزوار عليه فيقول: (وقد أحفظه ــ أي الرشيد ــ في أواخر حياته ما شاهده لحرم الحسين (عليه السلام) من النظام وحسن الإدارة ومن التعظيم والتقديس، والعناية التامة بأمره من قبل الخدم والسدنة القائمين بخدمة القبر فاستدعى سادن الحرم (أحمد بن فرج) ابن أبي داود لمعاقبته، فلما حضر سأله الرشيد بغضب عن سبب وجوده في القبر فقال له: إن الحسن بن راشد قد وكله هذه المهمة فأمر الرشيد بإحضار الحسن وسأله نفس السؤال فأجاب الحسن بأن الذي أمر بذلك هي أم موسى ــ زوجة المنصور وأم المهدي وجدة الرشيد ــ وأن يعطي السادن كل شهر ثلاثين دينارا

زاد هذا الموقف من سخط الرشيد ولكنه كظم غيظه وقد عزم في نفسه على عمل هو أكبر وأعظم من معاقبة ابن أبي داود والحسن بن راشد. يقول الكليدار: فسكت الرشيد وأمر بأن يرجع ابن أبي داود إلى الحرم المقدس وأقر ــ بالظاهر ــ ما كانت قد أقرته أم موسى غير أن الحوادث أثبتت فيما بعد بأنه عزم في تلك اللحظة على أمر أهول وأخطر ما يكون فدعاه البغض إلى هدم كربلاء من أساسها فأمر بهدم القبة السامية والدور المجاورة واقتلاع السدرة وحرث الأرض ليمحي كل أثر للقبر) (20)

ولم تطل أيام الرشيد بعد هدمه قبر الحسين حيث مات في نفس السنة ــ 193هـ ــ وسرعان ما بُني القبر مرة أخرى بعد موت الرشيد مباشرة وبقي القبر شاخصاً ببنائه أربعين سنة حتى تولى المتوكل الخلافة فكان عهده من أقسى العهود التي مرت على القبر

في عهد المتوكل

تشير المصادر إلى عهد المتوكل كان من أكثر العهود الإرهابية التي مرّت على الشيعة، وأقسى العهود المظلمة التي مرّت على القبر الشريف، يقول أبو الفرج الأصفهاني: (وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم وسوء الظن والتهمة لهم، فبلغ بهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك كرب قبر الحسين (عليه السلام) وعفى آثاره، ووضع على سائر طرق الزوّار مسالح لا يجدون أحداً زاره إلا أتوا به فقتلوه أو أنهكوه عقوبة) (21)

ولم يكن هذا التهديم هو الوحيد في عهده، فقد قام بهدم القبر الشريف أربع مرات كما يقول الدكتور عبد الجواد الكليدار: (لم تمض أكثر من أربعين سنة على هدم الرشيد للقبر المقدس حتى كان دور حفيده في ذلك فمُني القبر بالهدم مرة أخرى على يد جعفر بن المعتصم بن الرشيد ــ المتوكل ــ فإنه في خلال خمس عشرة سنة من حكمه هدم قبر الحسين (عليه السلام) ومخر أرضه وكربه أربع مرات في فترات مختلفة تأسياً بسيرة أسلافه من المنصور والرشيد) (22)

التهديم الأول

في عام (233هـ) وفي بداية حكمه أمر المتوكل العباسي بهدم قبر الحسين، وأرسل لذلك اليهودي إبراهيم الديزج، يقول الأصفهاني: (بعث المتوكل برجل من أصحابه يقال له الديزج وكان يهودياً إلى قبر الحسين (عليه السلام) وأمره بكرابه ومخره وإخراب كل ما حوله فمضى لذلك وخرب ما حوله وهدم البناء..... فهدم القبر وكربه وأجرى الماء حوله ووكل به مسالح ــ أي فرقة من الجنود ــ على سائر الطرق بين كل مسلحتين ميل لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجه به إليه فقتله أو أنهكه عقوبة)

وهذا الهدم كان في بداية حكم المتوكل في شهر شعبان كما يقول الكليدار: (إن الهدم الأول كان في أوائل حكم المتوكل من شعبان سنة (233هـ)... وإن الديزج حسب أمر المتوكل لم يكتف بهدم القبر وحده، وإنما خرب ما حوله فهدم مدينة كربلاء كلها، وإنه وكل في أطرافها المسالح لمنع الزائرين بالقوة وبعقاب القتل...) وينقل ذلك أيضاً عن السيد محمد بن أبي طالب في كتابه (تسلية المجالس).

ولكن القبر أعيد بناؤه بعد تهديمه مرة أخرى وسكن الناس حوله، ولم تشر المصادر إلى سنة بنائه وعلى يد مَن تم ذلك البناء، ولكن مما لا شك فيه إن بعض الشيعة قام بعملية البناء وسط أجواء من التكتم خوفاً من السلطة، فاشتهر القبر وقصده الناس للزيارة فوصل الخبر إلى السلطات فأرسل المتوكل الديزج مرة أخرى لتهديم القبر..

الديزج مرة أخرى

في عام (236هـ/850م) (أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من المنازل والدور وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من إتيانه) كما ذكر ذلك الطبري (23) وابن الأثير (24) والمسعودي (25) وابن خلكان (26) في تاريخهم في حوادث تلك السنة، وهذه هي المرة الثانية التي يهدم فيها القبر، وقد أرسل لتنفيذ هذا العمل المشين الديزج مرة أخرى فهدمه ومحى أرضه وأزال أثره وخرب ما حوله من دور ومنازل ووضع الجنود على أطراف المكان لمنع الزوار وفرض عليهم عقوبات صارمة وصلت إلى القتل، وقد ذكرت كل المصادر التي تحدثت عن أحداث هذه السنة هذه الحادثة، ولعل اشتهارها من بين أحداث التهديم الأخرى هو أنها كانت أعظم وأشد بكثير عن سابقاتها ولاحقاتها كما يقول السيد عبد الجواد الكليدار: (وقد ذكر المؤرخون كلهم هذا الهدم الثاني في سنة (236) الأمر الذي يستدل منه على أنه أشد وأعظم من الهدم الأول في سنة (233) لظهوره وعدم إخفائه في جميع المصادر) (27)

ولعل سبب اشتهار هذا الهدم أيضاً هو إن الناس خلال الفترة بين عمليتي التهديم قد بنوا بيوتاً حول القبر وسكنوا بها بعد أن بنوا القبر، فأمر المتوكل بهدم القبر والبيوت معاً كما روت المصادر: حيث أمر المتوكل أن يحرث القبر ويبذر ويسقى موضع قبره وما حواليه, وأن يمنع الناس من إتيانه, وأعطى الديزج من كان يسكن حول القبر مدة ثلاثة أيام لمغادرة المكان بعد أن هدم بيوتهم ومن وجده منهم بعد هذا الموعد سيكون مصيره في (المطبق) وهو سجن المتوكل الشهير الذي لا يخرج منه سوى الأموات.

وكان لهذا العمل الفظيع ردود أفعال شعبية كبيرة واستنكار شديد من قبل المسلمين يقول السيد حسن الصدر (فتألم المسلمون لهدم القبر وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان وهجاه الشعراء) (28) ولكن كل هذه الممارسات البشعة التي مارسها المتوكل لم تمنع الشيعة من بناء القبر مجدداً والسكن حوله والمجيء لزيارته فسرعان ما بُني مرة أخرى وكثر تردد الناس إليه

التهديم الثالث

في عام (237هـ) أعيدت الكرة مرة أخرى عندما وصلت إلى المتوكل أخبار الجواسيس بأن أهل العراق يجتمعون عند قبر الحسين لإداء الزيارة وهم يتوافدون بكثرة: (فأمر بهدم قبر الحسين, وهدم ما حوله من الدور, وأن يعمل مزارع, ومنع الناس من زيارته) كما روى السبكي (29) والقرماني (30)

وتذكر المصادر أن حالة التذمر والسخط والغضب الشعبي المكتوم من هدم القبر انفجرت هذه المرة بوجه السلطة وأخذت حالة المقاومة، وصار الناس يلعنون المتوكل جهاراً ووصل بهم الأمر إلى التحدي والمواجهة في سبيل الدفاع عن القبر والذود عنه بأرواحهم، حيث يروي الطوسي والسيد محسن الأمين ما نصه: (بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم إن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين فيصير إلى قبره منهم خلق كثير فأنفذ قائداً من قواده وضم إليه كثفا ــ أي جماعة ــ من الجند كثيراً ليشعث قبر الحسين ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر وذلك في سنة (237هـ)، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه وقالوا لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا فكتب القائد بالأمر إلى المتوكل فأمر المتوكل بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة مظهرا إن مسيره إليها في مصالح أهلها والانكفاء إلى المصر ــ أي الرجوع من الكوفة إلى بغداد ــ فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين ومائتين).. (31) 

ويعتقد السيد عبد الجواد الكليدار إن هذا الضغط الشعبي المؤثر كان بعد عملية التهديم في نفس السنة ــ أي 237 ــ حيث يقول: (ويظهر من هذه الرواية كما ظهر من رواية كل من السبكي والقرماني إن القائد نفذ أمر المتوكل في هدم قبر الحسين في سنة (237هـ) الأمر الذي يدل على إعادة تشييد البناء على القبر مرة أخرى من بعد هدمه في سنة (236هـ) السابقة)

ويطرح الكليدار أدلة منطقية على قوله هذا حيث يثير تساؤلاً ويجيب عليه بالحقائق التاريخية فيقول: (ولكن من الذي أعاد البناء فوراً في تلك المدة القصيرة ؟

لا بد وأن أهل السواد والأهلين هم الذين قاموا بهذا العمل بالرغم من تشديدات المتوكل، ويظهر ذلك من نص الرواية نفسها بأن الناس بالرغم من التشديد والاضطهاد كانوا يتهافتون على قبر الحسين (فيصير إلى قبره منهم خلق كثير) فما كان هؤلاء يزورون أرضاً خالية وإنما كانوا يزورون بالطبع قبراً مشيداً كان قد أعيد بناؤه في هذه الفترة) (32) 

وبعد هذا التهديم أعيد بناء القبر الشريف مباشرة وبقي البناء شاخصاً للزائرين لمدة عشر سنوات

التهديم الرابع

في عام (247هـ) هدم المتوكل قبر الحسين للمرة الرابعة وهي السنة التي قتل فيها المتوكل وجاء تفصيل هذا الهدم في كثير من المصادر يقول الميرزا محمّد تقي سِپِهْر، المعروف بـ (لسان المُلْك) ما نصه: (بلغ المتوكل مرة أخرى أن الناس من مختلف الطوائف والأقطار يتوافدون إلى أرض نينوى فصارت لهم مطافاً كبيت الله الحرام وأسسوا لهم أسواقاً عظيمة بالقرب من القبر المطهر فأثار ذلك غضبه فأرسل جيشاً إلى كربلاء لهدم القبر ومخره وحرثه وقتل من يجدون به من آل أبي طالب وشيعتهم, ولكن الله دفع شره فقتل على يد ابنه المنتصر) (33))

ونجد في مصادر أخرى أن في هذه السنة ــ أي (247هـ) ــ أن قبر الحسين كان مهدوماً وأن السلطة العباسية منعت الناس من زيارته كما أشار إلى ذلك الطوسي الذي روى عن عبد الله بن أبي رابية الطوري قوله: (حججت سنة (247) فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على حال خيفة من السلطان ثم توجهت إلى زيارة قبر الحسين فإذا هو قد حرث أرضه ومخر فيها الماء وأرسلت الثيران العوامل في الأرض.... فلما قدمت بغداد سمعت الضجة فقلت ما الخبر ؟ فقالوا قتل المتوكل). (34) 

ويعلق السيد عبد الجواد الكليدار على ذلك بالقول: (فاستحل ابنه المنتصر دمه فاتفق مع القواد الأتراك على قتله فقتلوه تواً بعد الهدم الأخير في ليلة الأربعاء من شوال سنة (247هـ). (35) 

ويؤيد هذا الرأي أبو الفرج الأصفهاني حيث يروي نفس أجواء الخوف هذه عن محمد بن الحسين الأشناني حيث يقول: (بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفى علينا فجعلنا نتسمته ونتحرى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه وأكببنا عليه....) (36) 

ويلاحظ من ذلك أن المتوكل هدم قبر الحسين أربع مرات كما يلاحظ أيضاً أن القبر كان يُبنى مباشرة بعد هدمه من خلال التواريخ وسط أجواء مرعبة وكانوا يعرضون أنفسهم للأخطار في سبيل ذلك وإن الناس لم ينقطعوا أبدا عن زيارته رغم الظروف القاسية وقد ذكر الكليدار الأشخاص الذين قاموا بهدم القبر في المرات الأربع من حكم المتوكل وهم:

في المرة الأولى عام (233) إبراهيم الديزج عن مقاتل الطالبيين لأبي الفرج (203ــ204)

في المرة الثانية عام (236) الديزج أيضاً عن مروج الذهب للمسعودي (ج2ص401ــ402)

في المرة الثالثة عام (237) عمر بن فرج الرخجي عن أمالي الطوسي (ص207) والبحار (ج10ص297) 

في المرة الرابعة عام (247) الديزج مع هارون المغربي وقد قاما بهدم القبر تحت إشراف ومراقبة القاضي جعفر بن محمد بن عمار قاضي الكوفة عن أمالي الطوسي (207ــ208) والبحار (ج10ص296) والمناقب (ج2ص190) وناسخ التواريخ (ج6ص437)

تكرر اسم الديزج اليهودي في ثلاث عمليات للهدم وأشهرها كما ذكرتها جميع المصادر هي الثانية ويبدو أن أغلب قواد المتوكل كانوا يتحاشون هذا الفعل القبيح سواه حتى اشتهر به كما في قصيدة ابن الرومي التي يقول فيها

ولـم تـقـنـعـوا حـتـى اسـتـثـارت قـبـورَهـم *** كـلابُـكـم مـنـهـا بـهـيـمٌ وديـزجُ

وروى ابن خلكان: إن الشاعر البسامي (علي بن محمد البغدادي) قال لما هدم المتوكل قبر الحسين عام (247)

تـالله إن كـانـت أمـــــــــــــيـةُ قـد أتَـتْ *** قـتـلَ ابـن بـنـت نـبـيِّـهَـا مـظـلـومَـا

فـلـقـد أتــــــــــــــاهُ بـنـو أبـيـه بـمـثـلـه *** هــذا لـعـمـري قـبـرُه مـهـدومــــــا

أسـفـوا عـلـى أن لا يـكـونـوا شـاركـوا *** فـي قـتـلـهِ فَـتَـتَّـبـعُـوهُ رمـيــــــــمـا

ولكن رغم التشدّد في منع الناس من زيارة القبر ووضع الجنود على مفارق الطرقات إلا أن القلوب الوالهة لم تنقطع عن زيارته في أشد الظروف وأقساها وقد وضع بعض الشيعة المخلصين علامات على القبر الشريف لكي لا يضيع أثره كما روى أبو الفرج الأصفهاني عن محمد بن الحسين الأشناني حيث يقول: (بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك فخرجنا زائرين نكمن بالنهار ونسير بالليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نتسمّته ونتحرّى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه وأكببنا عليه .... ثم ودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر وأخرجنا تلك العلامات وأعدنا إلى ما كان عليه...) (37)

في عهد المنتصر

ما إن مات المتوكل حتى بني القبر وتاريخ هذا البناء هو في نفس السنة التي قتل فيها المتوكل أي في عام (247هـ) فما إن تولى المنتصر العباسي الخلافة بعد أبيه المتوكل حتى بُني القبر الشريف يقول السيد محمد حسن الكليدار آل طعمة: (ولما بلغ خبر استخلاف المنتصر إلى العلامة محمد بن الحسين الأشتياني توجه من ساعته إلى كربلاء ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة فلما وصلوا قبر الإمام الحسين أخرجوا تلك العلامات وأعادوا للقبر معالمه القديمة, فعند ذلك أمر المنتصر العباسي ببناء قبر الإمام الحسين ووضع على القبر سارية لإرشاد زوار القبر وعاد إلى كربلاء عهد الطمأنينة والسلام) (38)

ويستعرض السيد عبد الجواد الكليدار بالتفصيل عهد المنتصر الذي عاش فيه الشيعة عصراً من الحرية والرخاء وازدهرت فيه المراقد المقدسة في النجف وكربلاء حيث يقول: (ففي تلك المدة القصيرة من حكمه ــ أي حكم المنتصر الذي دام ستة أشهر ــ تلافى المنتصر أخطاء أبيه ويحدثنا التاريخ بما أسداه من الخدمات الجليلة نحو البيت الطاهر وشيعتهم ومن العناية والاهتمام بقبر الحسين والإمام علي (عليهما السلام) وعدم التعرض لقبور الأئمة ولقبور آل أبي طالب بصورة مطلقة) (39)

ويقول السيد أمير علي (لم تنفرج الكربة عن كربلاء إلا بقتل المتوكل وقيام المنتصر وكان المنتصر بخلاف أبيه ورعاً عادلاً عفيفاً أميناً يحرص كل الحرص على توفير أسباب السعادة والرفاهية للشعب فشيّد من جديد قبر علي والحسين وأطلق أوقاف أهل البيت التي كان المتوكل قد صادرها كما منع التعرض للذميين، ولكنه توفي لسوء الطالع بعد حكم لم تطل مدته غير ستة أشهر...) (40)

لكن هذه الـ (ستة أشهر) كانت فترة استثنائية في العهد العباسي الدكتاتوري المظلم الذي استخدمت فيه سياسة الإرهاب مع الشيعة, فتنفس الشيعة الصعداء في حكم المنتصر وأصبحت قبور الأئمة معالم شاخصة للزوار وأصبح الناس يتهافتون عليها من كل مكان يقول السيد محسن الأمين: (وبنى ــ أي المنتصر ــ على المرقد الشريف ميلاً عالياً يرشد الناس إليه وشجع الناس على زيارته) (41)

في عهد الموفق

وبقي بناء المنتصر هذا حتى عام (283هـ) عندما سقطت القبة على الزوار في عهد الموفق ابن المتوكل بصورة مفاجأة وقد صادف سقوطها يوم زيارة عرفة في التاسع أو العاشر من ذي الحجة وهو يوم يكثر فيه الزوار, أما سبب سقوطها فلا يعرف بالضبط هل كان طبيعياً أم أن يداً خفية كانت وراء ذلك ؟ غير أن هناك مؤشرات تدلّ على أن سقوط القبة على الزائرين كان مدبراً كما يقول السيد عبد الجواد الكليدار حيث يثير العديد من الأسئلة حول هذا السقوط المفاجئ فيقول: (غير أن بناء المنتصر هذا لم يعش أكثر من ربع قرن لسقوطه وانهياره مرة واحدة في ذي الحجة سنة (273هـ) على عهد الموفق ابن المتوكل الأمر الذي يدل ــ حسب القرائن ــ على أن تلك السياسة الجائرة والخطة القاسية التي كان قد ارتسمها المتوكل في عهده تجاه قبر ريحانة الرسول الأكرم وزائريه كانت تطبق بحذافيرها طوال هذه المدة وإن كانت قد تبدلت أساليبها أو تغيرت أشكالها وعناوينها.

ولوقوع هذا الحادث الفجائي الغريب لحرم الحسين (عليه السلام) أهميته التاريخية إذ نستدل منه مبلغ ما كان يكمن قلوب كثير من العباسيين من بعد الرشيد والمتوكل من الغيظ وعدم الإرتياح لما كان يحيط بقبر الحسين (عليه السلام) من الجلال والعظمة, ومن التقديس له في نفوس المسلمين لا سيما وإن الموفق من هذه الناحية كان على شاكلة أبيه لم يتورع عن ارتكاب مثل هذه الجريمة ولذلك أسدل التاريخ الستار على هذا الحادث دون أن يدخل في التفاصيل...) (42)

ولا يوجه الكليدار أصابع الإتهام إلى السلطة العباسية في سقوط القبة دون دليل تاريخي وقرينة بيّنة رغم أن شخصية الموفق العدائية لأهل البيت تدعم بقوة الرأي الذي ذهب إليه وهو ضلوعه المباشر في سقوط القبة حيث يذكر الرواية التي تثبت ذلك والتي روتها كثير من المصادر المعتبرة وهذه الرواية يرويها أبو الحسن علي بن الحسن بن الحجاج يقول فيها: (كنا جلوساً في مجلس ابن عمي أبي عبد الله محمد بن عمران بن الحجاج وفيه جماعة من أهل الكوفة من المشايخ... وكانوا قد حضروا يهنئونه بالسلامة لأنه حضر وقت سقوط سقيفة أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذي الحجة سنة (273هـ) فبينما هم قعود يتحدثون إذ حضر المجلس إسماعيل بن عيسى العباسي فأحجمت الجماعة عما كانت فيه وأطال إسماعيل الجلوس

وفي هذه الرواية دليل ساطع على أن سقوط القبة كانت بأمر من الموفق فسياسة العباسيين مع أهل البيت كانت في جميع مراحلها ــ سوى فترات ضئيلة ــ متساوية في المنهج العدائي وكانوا يقتلون على التهمة والظنة وكانوا يزرعون الجواسيس بين الناس وخاصة على العلويين وقد ذكر هذه الرواية التي نقلها الكليدار السيد ابن طاووس (43) والشيخ المجلسي (44) والسيد الأمين (45)

وينوّه الكليدار إلى أن الصمت الذي رافق هذه الحادثة كان بسبب أجواء الخوف والرعب التي سادت في عهد الموفق الذي كان يخوض حرباً مع صاحب الزنج وقد نهب النفائس التي كانت موجودة داخل القبر الشريف ليستعين بها في حربه وقد رأى الناس وحشيته وهمجيته في تعذيب وقتل أسرى صاحب الزنج أمامهم وقد نقلت المصادر صوراً من عمليات وأساليب هذا التعذيب ما تقشعر له الأبدان وتشمئز منه النفوس (46) فمن الطبيعي أن يحاط حديث سقوط القبة بأسوار التكتم والصمت

يقول الكليدار: (ولعل كثير من المسائل أيضاً ستبقى مجهولة إلى الأبد على هذا النمط لعدم إمكان الجهر والتصريح بها في حينها نظراً لما يحيط الرأي العام من ظروف وأحوال سياسية خاصة. ولذلك فلا يعرف اليوم عنها شيء وهل كان سقوط السقيفة في الحقيقة أمراً طبيعياً لم يكن للسياسة أي دخل فيه ؟ أم كان للسلطة الحاكمة يد في الأمر كما سبقت نظائره على عهد المنصور والرشيد والمتوكل بصورة علنية مكشوفة ؟ وإنما أتى الهدم في هذا الدور بتلك الكيفية الغامضة وبشكل أفظع من ذي قبل لأنه كان في عين الوقت هدماً للقبر المطهر وقتلاً للنفس البريئة ممن أتوا في مثل هذا الوقت لزيارة الحسين (عليه السلام) وهذا ما يجعل الباحث يتردد في قبول الأمر من الوجهة الطبيعية لأن الفرض الأول من أن الحادث كان طبيعياً لوجود بعض الخلل في أسس البناء نفسه لا يثبت أمام الحقائق التاريخية لأن البناء كان حديث العهد إذ ذاك ولم يتجاوز عمره يوم انهياره خمسة وعشرين سنة فلا يعقل والحالة هذه إن بناءً جديداً ينهار من تلقاء نفسه وبتلك الصورة الفجائية وبلا سابق إنذار على رؤوس الزائرين..

ثم يستشهد الكليدار برواية ابن الحجاج التي تثبت رأيه. كما ينوّه إلى محاولة عباسية أخرى لهدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل داود العباسي ابن عم إسماعيل بن عيسى العباسي الذي حضر مجلس ابن الحجاج فسكت الحاضرون خشية منه فيقول: (ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما جاء في ذيل الخبر المتقدم بسنده عن إسماعيل بن عيسى العباسي من إن ابن عمه داود العباسي كان قد حاول في مثل هذا الوقت هدم قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) سراً تنكشف لنا حقيقة الأمر في حادث سقوط السقيفة على رؤوس الزائرين في حرم الحسين (عليه السلام) على عهد الموفق الذي كان يسير على سيرة آبائه وإن الحادث لم يكن طبيعياً بوجه من الوجوه وإن للسلطة الحاكمة كان دخل في تدبير الأمر

بناء الداعي الصغير

وبقي القبر الشريف مكشوفاً لمدة عشر سنوات حتى قام ببنائه الداعي الصغير محمد بن زيد بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن المجتبى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ملك طبرستان وذلك عام (283هـ): (فشيد قبة عالية على القبر لها بابان ومن حول القبة سقيفتين ثم عمَّر السور وبنى المساكن حول القبر 

الحريق الكبير

في عام (407هـ/1016م) تعرض ضريح الحسين إلى حريق كبير أحرق المرقد بالكامل وسقطت القبة والأروقة وتحولت إلى رماد ولم يبق من الضريح سوى السور وقيل في سبب الحريق هو سقوط شمعتين كبيرتين في منتصف الليل قضاء وقدراً حيث يذكر ابن الأثير وابن الجوزي: (إن القوام أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطتا في جوف الليل على التأزير فأحرقتاه) غير أن الدكتور عبد الجواد الكليدار له رأي آخر حول هذا الحريق حيث يقول بعد أن يستعرض قولي ابن الأثير وابن الجوزي: (ويظهر من هذين التقريرين المقتضبين الرسميين أو شبه الرسميين, التاريخ في تلك العصور المنصرمة ولا زال سجل لما ترفعه السلطات عادة أو ترتضيه, بأن الحادث وقع عفواً, والحريق نشب بغير عمد أو قصد. ولكن نظرة عامة على حوادث سنة (407هـ) في كافة أنحاء الأقطار الإسلامية في عهد أحمد القادر بالله العباسي المعروف بنزعاته المتطرّفة وميوله الهدامة ضد حرية الفكر وتحريمها على المسلمين, وتحامله الشديد على آراء المعتزلة وتكفير من يعتنق مبادئهم, ثم تكفيره الفاطميين ولعنهم علناً, وخلقه روح البغضاء والعداء بين الطوائف الإسلامية بالفتاوى الدينية التي كان يحصل عليها من الفقهاء, كل ذلك ربما يلقي بعض الضوء على حقيقة أسباب الحريق الذي نشب في حرم الحسين (عليه السلام) في ربيع الأول سنة (407) من الهجرة لا سيما إذا أخذنا بنظر الاِعتبار حوادث تلك السنة من غرة المحرم (407هـ) من حوادث دامية كانت قد سبقت الحريق في حرم الحسين وكانت قد وقعت بين الطوائف الإسلامية في أفريقيا على عهد المعز بن باديس كما أعلنها ابن الأثير فذهبت ضحيتها الشيعة بأجمعهم قتلاً ونهباً وسلباً بجميع أنحاء أفريقيا إلى الفتن الداخلية التي تلت حادث الحريق مباشرة وفي مدة لا تتجاوز العشرة أيام وهي التي رواها ابن الأثير وابن الجوزي بأن:

(وفي الشهر نفسه اتصلت الفتنة بين الشيعة والسنة بواسط, ونهبت محال الشيعة والزيدية بواسط واحترقت وهرب وجوه الشيعة والعلويين فقصدوا علي بن مزيد واستنصروه)

ويستطرد الكليدار في تعداد تلك الحوادث التي مرت على الشيعة فيقول: (ثم أليس من الغريب أن تقع كل هذه الحوادث الدامية المتشابهة بأفريقيا وواسط في وقت واحد خلال الأشهر الأولى من تلك السنة على عهد القادر بالله العباسي المعروف بميوله الهدامة, ومع ذلك كله, يعتبر حادث الحريق في حرم الحسين أمراً عادياً حصل قضاءً وقدراً دون أي مسبب ؟ مع أنه قد توافرت وتعددت قرائنه ونظائره في نفس الوقت في بقية الأماكن على ما يحدثنا كل منهما بحيث أصبحت فتنة عامة وحركة واسعة النطاق شملت كل الأقطار الإسلامية دون استثناء إذ أنه بعد عشرة أيام من حريق حرم الإمام الحسين احترق أيضاً حرم العسكريين بسامراء واحترقت في نفس اليوم محلات الشيعة ببغداد في جانب الكرخ من محلة (نهر طابق) ومحلة (دار القطن) وقسم من محلة (باب البصرة) وامتدت دسائس القادر بالله العباسي فشملت بيت الله الحرام وسقط حائط قبر النبي ووقعت القبة الكبرى على الصخرة في بيت المقدس وهكذا من جراء دسائس القادر عم البلاء وساد الفزع في كافة الأقطار الإسلامية في وقت واحد

ثم يلخص الكليدار الفظائع التي ارتكبها القادر العباسي خلال سني حكمه بالقول: (في الاثنين والأربعين سنة من حكمه الطويل (381ــ422هـ) فقد عبث القادر بالله بالبلاد الإسلامية, وأشعل النار فيها, وأراق الدماء وهدم البيوت والبلدان حتى الأماكن المقدسة واضطهد المسلمين بجميع طبقاتهم مستظهرا بالفقهاء في كل وقت, ومثل دوراً فاق فيه المتوكل (نيرون العرب) من حيث القسوة والفظاعة. بدأ أعماله الإرهابية بإثارة الفتن بين الطوائف الإسلامية في ذي الحجة من سنة (389ــ390) وقبلها ليختمها في أخريات حياته بالفتن التي تجددت ببغداد في سنة (422) والتي انتهت بأن: اعترض أهل البصرة قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين فقتلوا منهم ثلاثة نفر ومنعت زيارة مشهد موسى بن جعفر (47)

وتؤكد العديد من المصادر التاريخية رأي الدكتور الكليدار الذي حلل الواقعة على ضوء المنهج التاريخي والحقائق التاريخية يقول ابن الأثير

(في هذه السنة، في المحرّم، قُتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية. وكان سبب ذلك أن المعزّ بن باديس ركب ومشى في القيروان، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة، فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامّة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو مكان يجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامّة في الشيعة، وأغراهم عامل القَيروان وحرّضهم).(48)

ولم يبق قبر الحسين على هدمه الأخير طويلا إذ سرعان ما بني في نفس السنة على يد ابن سهلان الرامهرمزي وزير سلطان الدولة البويهي وأحاط القبر بسور كما ذكر ذلك ابن الجوزي (49) وابن كثير (50) وهذا البناء هو الذي ذكره ابن ادريس الحلي في كتاب السرائر عند تحديده الحائر سنة (588هـ) ورآه ووصفه ابن بطوطة في رحلته عندما زار كربلاء عام (727هـ) 

في عهد المسترشد

في عام (526هـ) سرق المسترشد العباسي جميع ما في ضريح الحسين من المجوهرات والأموال والقناديل والآثار والأشياء الثمينة المرصعة بالجواهر وأفرغ الضريح منها ليصرفها على تجهيز جيشه لكنه لم يمسّ البناء بسوء وكان المسترشد يخوض حروباً ضد مسعود السلجوقي وقد قتل في أحدى هذه الحروب في همدان.

وقد علل المسترشد عمله الشنيع هذا بالقول إن القبر لا يحتاج إلى هذه الأشياء!! والظاهر إنه لم يكتف بسرقة ما في القبر الشريف من النفائس والجواهر والتحف الثمينة والأموال, بل إنه سرق كربلاء أيضاً كما نقل ذلك العلامة المجلسي الذي روى ما نصه: (أخذ المسترشد من مال الحائر وكربلاء وقال: إن القبر لا يحتاج إلى خزانة وأنفق على العسكر فلما خرج قتل هو وابنه الراشد)(51) 

ولكن المصادر لم تطلعنا على باقي المسروقات خارج القبر الشريف وربما هان ذكر ذلك على حجم السرقة التي كانت من القبر (والجرح يسكنه الذي هو أألم)

ويذكر السيد مير علي تفاصيل أوسع وأحداث أكثر عن الأجواء العصيبة التي مرّ بها الشيعة في عصر المسترشد والأعمال الفظيعة التي ارتكِبت ضدهم وضدّ مقدساتهم ومنها هذه الجريمة باستباحة قبر سيد الشهداء وسبط الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) حيث يقول ما نصه: (وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة لما أخبر المسترشد بجمع ما اجتمع في خزانة القبر من الأموال والمجوهرات فأنفق على جيوشه قائلا: إن القبر لا يحتاج إلى خزينة, إلا أنه لم يتعرض للبناء بسوء, وقد كان المسترشد في هذا الوقت يستعد بتجهيز الجيوش وجمع العساكر لأنه كان قد اشتبك في أواخر عهده بحروب داخلية أثيرت عليه بمدة يسيرة من بعد وفاة السلطان محمود في سنة (525هـ) فكان بحاجة شديدة إلى المال, فتطاول على القبر الشريف وصادر أمواله فاستعملها في سبيل توطيد دعائم ملكه في تلك الحروب التي أثارها عليه مسعود أخو سلجوقشاه في أواخر سنة (526هـ) وقد نشبت معركة حامية بينهما دارت فيها الدائرة على المسترشد نفسه ووقع أسيراً في قبضة خصمه وبينما كان في خيمته إذ هجمت عليه جماعة من الباطنية وفتكوا به) (52)

ولم يكن ترك المسترشد للقبر الشريف دون أن يهدمه عن تورّع منه أو احترام وتقديس لصاحبه بل إنه كان يمر بظروف حرجة ويواجه انتفاضات داخلية وحروب خارجية فخاف أن يتألب الرأي العام ضده بتهديم القبر فاكتفى بسرقته وإلا ما الفرق بين سرقة القبر وتهديمه كما فعل أسلافه من قبل كالمنصور وهارون والمتوكل ؟؟

وقد وقعت النفائس الثمينة التي سرقها المسترشد من قبر الإمام الحسين (عليه السلام) بيد عدوه السلطان مسعود حيث ذكر ابن الطقطقا (53) وابن الجوزي (54): (إن الخليفة العباسي المسترشد سار ومعه الأموال المنهوبة لمقاتلة السلطان مسعود ولما تقابل الجيشان وقع المسترشد أسيراً بيد السلطان مسعود إذ خانه جيشه ثم أمر السلطان مسعود بقتل الخليفة العباسي فقتل شر قتلة ونهب معسكره

وينقل السيد محمد حسن الكليدار صورة عن حجم تلك النفائس ومقدار التحف والجواهر والأموال المسروقة من القبر الشريف عن المجلسي (55) فيقول: (أجمع المؤرخون: عندما قتل المسترشد العباسي ونهب خزانته وجد فيها خمسة آلاف جمل وأربعمائة بغلا محملة بالطنافس والمجوهرات والنقود قدرت تلك الأموال بعشرة آلاف دينار مع العلم إن خزانته كانت فارغة عندما تأهب لقتال السلطان مسعود قبل نهبه خزانة الروضة الحسينية وكان قد حمل تلك المنهوبات معه ليوزعها على مستحقيها فيما لو كان منتصرا لكن المقادير شاءت أن ينتقم منه شر انتقام جزاء عبثه ونهبه خزانة الروضة الحسينية المقدسة فلاقى مصيره المحتوم) (56)

ويعقب الكليدار على هذه الرواية بالقول: (وهكذا ختم المسترشد حياته في أسوأ حال جزاء فعلته المنكرة وتطاوله على خزانة الروضة الحسينية المقدسة

ولم تقتصر العاقبة السيئة على المسترشد جراء فعلته الشائنة بل امتدت إلى ابنه الراشد الذي شارك أباه في هذه الجريمة ولكنه لم يخرج للقتال مع أبيه وبقي في بغداد وحكم بعد أبيه لكن مسعود السلجوقي لم يمهله بعد قتل أبيه طويلا فلم يمر عام على حكمه حتى هاجم السلجوقي بغداد ودخلها فهرب الراشد منها لكن مسعود أرسل خلفه من يقتله فقتل قرب في قرية قرب أصفهان

وقد وثق هذه الحادثة شعرا الشيخ العلامة محمد السماوي فقال:

والحادثُ الســــادسُ للمسترشدِ  ***  إذ فــــــعلَ الفعلَ الــــــذي لم يعهدِ

مدَّ إلى خزانــــــةِ الحسينِ كفْ  ***  وباعَ ما قد كـــــــان فيها من تحفْ

فقيلَ: لِمْ تمـــــــــــــــدّ للخزانة  ***  كفاً بلا رهــــــــنِ ولا ضمـــــــانة

فقال: ما الحسينُ بالمـــــــحتاجِ  ***  لكلِّ إكليـــــــــــــــلٍ وكـــــــلِّ تاجِ

وما درى أو كــــــــانَ في تلاهِ  ***  بأنّها شعــــــــــــــــــــــــــائرُ الإلهِ

وجنَّدَ الجنــــــــــــودَ ثم صارا  ***  لهمــــــــــدانٍ يبتــــــــغي انتصارا

ويقتلُ الملكَ بهـــــــا المسعودا  ***  فصـادفَ الــــــــمسترشدُ الموعودا

وقتلوهُ وهو فــــــــــي مراغه  ***  جــــــــــــــــــزاءَ ما سوَّغه وساغَه

وكان ذا في سنةِ الخمسمئة   ***  والتسع والعشرين دون التوطئة (57) 

وفي الراشد العباسي يقول الشيخ السماوي:

وسوّغَ ابنـــه الذي قد ساغَه  ***  فقتلوه وهــــــــــو في مراغَه

ولم يفدهُ الجـــــــــندُ والعديدُ  ***  فإن بطــــــــــــشَ ربِّنا شديدُ

وما تهنّا الــراشدُ ابنه سوى  ***  أقلَّ من عــــــــامٍ وراهُ فثوى

قتلاً وكلٌّ سحبـــــــــوه جرَّا  ***  جــــــــــزاءَ ما كان به تجرَّا

أليسَ في المجـرِّبِ المتّضحِ  ***  من مدَّ للوقــــفِ يداً لم يربحِ

فكيفَ وقفُ خـــــــالدٍ منظّم  ***  شعـــــــائرُ اللهِ به تعظّم (58)

محمد طاهر الصفار

.......................................................

1ــ كامل الزيارات ــ ابن قولويه : 262 ــ 265 

2ــ نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين ــ حسن الصدر الكاظمي : 14

3ــ مدينة الحسين 1 : 19 / أعيان الشيعة 1 : 627

4ــ تاريخ كربلاء وحائر الحسين : 10

5 ــ نفس المصدر 173

6 ــ نفس المصدر ص 174

7 ــ مجالي اللطف ص 39

8 ــ تاريخ النياحة على الإمام الحسين ج 2 ص 5

9 ــ صحيفة البديل الإسلامي الدمشقية العدد 62

10 ــ تاريخ كربلاء المعلى 143

11 ــ أعيان الشيعة 4 : 304 / نزهة أهل الحرمين : 16

12 ــ أمالي الطوسي : 206  

13 ــ مناقب آل أبي طالب 2 : 189

14 ــ بحار الأنوار 10 : 297 

15 ــ مجالي اللطف بأرض الطف: 39 

16 ــ تاريخ كربلاء : 11

17 ــموسوعة العتبات المقدسة ــ قسم كربلاء : 257 

18 ــ بحار الأنوار 10 :294 / تاريخ كربلاء 178

19 ــصحيفة البديل الإسلامي العدد (62) 

20 ــتاريخ كربلاء : 176 

21 ــمقاتل الطالبيين : 203  

22 ــ تاريخ كربلاء : 180 

23 ــتاريخ الطبري في حوادث سنة 236 

24 ــ الكامل في التاريخ 7 : 36  

25 ــ مروج الذهب 2 : 401 

26 ــ وفيات الأعيان 1 : 455  

27 ــ تاريخ كربلاء : 183  

28 ــ نزهة أهل الحرمين ص (18 

29 ــ طبقات الشافعية ج 1 ص 216 

30 ــ خبار الدول في حوادث السنة 237  

31 ــ الأمالي : 209 / أعيان الشيعة 4 : 287 

32 ــ تاريخ كربلاء : 187  

33 ــ ناسخ التواريخ 6 : 438  

34 ــ الأمالي 2 : 209  

35 ــ تاريخ كربلاء : 189 

36 ــ مقاتل الطالبيين : 204 

37 ــ مقاتل الطالبيين ص 204 

38 ــمدينة الحسين ج 2 ص 147 

39 ــ تاريخ كربلاء ص 146 

40 ــ تاريخ العرب ص 248 ــ 249  

41 ــ أعيان الشيعة ج4 ص 350  

42 ــتاريخ كربلاء ص 193  

43 ــفرحة الغري ص 61  

44 ــالبحار ج 9 ص 679 ــ 680  

45 ــ أعيان الشيعة ج 3 ص 588 ــ 590  

46 ـــ ثورة الزنج / الدكتور فيصل السامر ص 123 

47 ــ تاريخ كربلاء وحائر الحسين ص161،171 

48 ــ الكامل في التاريخ ج 9 ص 294-295 ط. دار صادر/ في حوادث سنة 407هـ 

49 ــ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 282  

50 ــ لبداية والنهاية ج 12 ص 16

51 ـ ـبحار الأنوار ج 10 ص 297 

52 ــ تاريخ العرب ص 291  

53 ــ الأحكام السلطانية  

54 ــ المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ج 10 ص 272  

55 ــ بحار الأنوار ج 45  

56 ــمدينة الحسين ج 2 ص 188  

57 ــ مجال اللطف في أرض الطف ص 56  

58 ــ المصدر السابق ص 30  

العودة إلى الأعلى