"الحجاب بين الوجوب والاستحباب- في الحديث والكتاب" -4-
بعدما بيّنّا بوضوحٍ في الجزء الماضي من المقالة كم كان الدين الإسلاميّ منصفًا بحقّ المرأة، لا يغمطها حقوقها ويوازن بينها وبين الرجل في الواجبات، بخلاف المعتقدات الأخرى التي ظلمتها وشكّكت حتى بإنسانيّتها، وبعدما أوردنا عددًا من الآيات الكريمة التي تظهر ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، نصل الآن إلى موضوعنا الأساس، ألا وهو الحجاب.
والحجاب المقصود في هذه المقالة هو الحجاب الإسلاميّ طبعًا، ولذا فإن من اللازم أن نورد آيات الحجاب الواردة في القرآن الكريم، وأن نتدارسها بتمعّنٍ لنستكشف معناها وتأويلها.
قال الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز:
﴿يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما﴾ (سورة الأحزاب، الآية 59)
وقال أيضًا:
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. (سورة النور، الآية 31)
الملاحَظ في كلا الآيتين أن الله جلّ وعلا يخاطب النبيّ بصيغة الأمر (قل)، وفي التشريع يكون الخطاب بالأمر دليلًا على وجوب الحكم.
في الآية الأولى يوجّه الله الخطاب للنبي آمرًا إياه أن يقول لأزواجه ولبناته ولنساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن...
الجلباب لغةً هو الثوب الواسع الطويل الفضفاض، وأن تدني المرأة عليها جلبابها أي أن تقرّبه وتلملم أطرافه لكي لا يشفّ عما تحته، بحيث يغدو ساترًا لها مغطّيًا لمفاتنها، وبهذا نستفيد أن المطلوب من الجلباب أن تستر به المرأة من جسدها ما استطاعت...
أما في الآية الثانية فقد بدأ الأمر الإلهي موجّها للنبيّ بأن يقول للرجال والنساء قولًا واحدًا هو (غضّ الأبصار وحفظ الفروج) فأما ما ينفرد به الرجال من الأمر فقوله ( ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) حيث يبرز ما لهذا الفعل من تأثير على النفس وتزكيتها، كما ينبّه إلى أن الله هو الرقيب على تنفيذ هذا الأمر (خبير بما يصنعون)، وأما ما يتوجّه به إلى النساء في تتمة الآية فقوله (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ لِبُعُولَتِهِنَّ...) وهنا يبرز تفصيل الحجاب المذكور في الآية السابقة، حيث أن هذه الآية متأخرة عنها في تاريخ النزول...
يأمر الله النساء المؤمنات على لسان النبي؛ أولًا بأن لا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها، وثانيًا أن يضربن بخمرهن على جيوبهن.
إذا ضممنا هذين الأمرين إلى الأمر الأول في الآية الأولى، نجد أن مواصفات الحجاب الذي يأمر به الله عزّ وجلّ هو: أولًا ضمّ الثوب الطويل المتّسع لكي لا يبدي ما تحته، وثانيًا إخفاء الزينة عدا الظاهر منها (وقد اختلف العلماء في أمر هذا الظاهر، فمنهم من رأى أنه الوجه والكفان، ومنهم من رأى غير ذلك، لكن الواضح أن الزينة هي كلّ ما كان إضافيًّا، أي ليس من أصل الجسم، كالتبرّج مثلًا والحليّ وغير ذلك...)، وثالثًا أن يضربن بخمرهن على جيوبهن.
في الصفة الثالثة تفترض الآية الثانية وجود الخمار (أي غطاء الرأس) كما افترضت الآية الأولى وجود الجلباب (أي الثوب الطويل المتّسع)، بحيث أن الأمران مسلّم بوجودهما في سياق الحجاب، بقي أن نرى مواصفاتهما واتّفاقهما معًا على ستر المرأة بالقدر المطلوب، فالجلباب ينبغي أن يُدنى، والخمار يجب أن يُضرب على الجيب (وهو الصدر) أي أن يُرخى جزءٌ منه فوق الصدر، أما الزينة فهي ليست ممنوعةً قطعًا، بل إن إبداءها وإظهارها لا يكون إلا لأشخاصٍ محدّدين، هم الزوج والمحارم... وهنا تقوم الآية بتعداد المحارم لكي لا يلتبس الأمر على المؤمنين... أما الهدف من كل هذا فهو حفظ المرأة من كل سوء ومن أطماع الطامعين (أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) ، وتزكية النفس وتطهيرها من الشهوات المحرّمة (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ).
إن ما أسلفناه من مقاربة للآيتين يظهر أن الحجاب في الإسلام هو أولًا إلزاميّ وواجب، أي أنه ليس اختياريًّا أو مستحبًا، وهو ثانيًا لا يمنع المرأة من التواجد في المجتمع مع الرجل، بدليل أنه دعا كلا المرأة والرجل لغضّ النظر قبل أن يبيّن حدود الحجاب ومواصفاته الدقيقة وشروطه التفصيلية... وغضّ النظر لا يكون واردًا ما لم يكن وجود المرأة في المجتمع واردًا... إذًا فحجاب المرأة كما فرضه الإسلام لم يحجزها في بيتها، بل سمح لها بالخروج لقضاء حوائجها طالما أنها ملتزمة بحجابها الكامل، كما أن الحكم الشرعيّ لم يلغِ دور الرجل في المحافظة على العفة والشرف، فغضّ النظر وحفظ الفرج يتعلّق بكلا الرجل والمرأة، وهو تزكية للنفس والتفاتٌ إلى رقابة الخالق عزّ وجلّ للإنسان، فهو أقرب إليه من حبل الوريد، ويعرف متى يخطئ ومتى يصيب...
في هذه النقطة بالذات، نقطة مشاركة الرجل والمرأة ومسؤوليتهما معًا عن حفظ الشرف والعفة، نلاحظ أن التشريع الإسلامي تفوّق على كلّ ما عداه، ولم يجعل المرأة مسؤولةً عن الخطيئة مثلًا، ويلغي دور الرجل في ذلك كما الشرائع الأخرى... حتى أن عقاب الزانية والزاني في القرآن الكريم واحد، ولا فرق بينهما في العقوبة وتفاصيلها، والآيات التشريعية يمكن الرجوع إليها في مظانّها لمن شاء التفصيل.
أما عن الأحاديث الشريفة التي تؤكد ما جاء في الآيات الكريمة، فإننا نورد هنا حديثين شريفين طلبًا للاختصار:
جاء في (الكافي 5: 521): عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً, قال: (الوجه والكفان والقدمان)، وفي مصدرٍ آخر (الوجه والكفان).
وفي (الكافي 5: 532) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (لا يصلح للجارية إذا حاضت إلاّ أن تختمر إلاّ أن لا تجده).
نكتفي بهذا القدر من الحديث الذي لا يحتاج لتفسير، ونخلص في نهاية هذه المقالة إلى أن الحجاب الإسلاميّ هو استكمالٌ لحفظ المرأة شخصًا ومكانةً، وتكريسٌ لدورها الاجتماعيّ والأسريّ والإنسانيّ، فهي شريكة الرجل في بناء الأسرة والمجتمع والإنسان، وإن نظرة الاحترام والإجلال التي يختص الإسلام بها المرأة، تتأكّد من خلال الحجاب الساتر الذي يحفظها في نفسها وفي مجتمعها، ويرفع من قدرها، لتبرز بإنسانيتها بدل أنوثتها، وتبقى هذه الأنوثة في حيّزها المتاح الطبيعي المختصّ بمن يحقّ له النظر إليها...
ولعلّ المصداق الأكبر لجلال المرأة المسلمة ورقيّها هو الحجاب، الذي تسقط عند أقدامه كل ترّهات الغرب وتفاهاته، ونظرةٌ واحدةٌ في ذاك المجتمع الموبوء بالشهوات كافيةٌ لتبلغنا أين وصلت المرأة، حينما تخلّت عن إنسانيتها وجعلت من نفسها متعةً للناظرين.
وتبقى المرأة المسلمة بحجابها الفاطميّ الزينبي هي النموذج الأكمل للمرأة الإنسانة كما أرادها الله أن تكون.