أخلاقية الثورة عند الامام الحسين

: محمد طاهر الصفار 2025-02-03 07:30


لو تتبعنا مسيرة الإمام الحسين (ع) في نهضته العظيمة منذ خروجه من مدينه جده (ص) إلى استشهاده في كربلاء لوجدناها تفيض عطاءً وعظمة، فقد جسد في نهضته الروح النبوية والأخلاق المحمدية السمحاء والشمائل العلوية العظيمة، فكان الحسين عظيماً في كل حركاته وسكناته كما كان عظيماً في جميع أقواله وأفعاله.

نعم هكذا سار الحسين في ثورته المباركة مجسداً سيرة جده وأبيه بكل أبعادها الأخلاقية والتربوية فقد كان يسطر في كل خطوة من مسيره درساً يلهم الاجيال أروع المعاني السامية والأخلاق الكريمة، وكانت روحه العظيمة شعاع هدي تنبئ بالإنسانية العليا التي حملها (ع).

لقد اقترنت ثورة الحسين بالعطاء والنبل وقف الحسين في ذلك اليوم أمام الجموع ليعظهم وينبههم إلى ما هم مقدمون عليه من الأمر الشنيع غير أن النفوس التي أغرتها الدنيا ودناءتها أبت إلا طغياناً وكفراً، وبلغ من خسّة الشمر أن يتطاول على الحسين فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (ع) وقال: أكره أن أبدأهم بقتال. 

هذه كانت أخلاق رسول الله (ص) الذي كان كلما زاد أذى قريش له كان يقول: اللهم اهد قومي فأنهم لا يعلمون، وهي أخلاق أمير المؤمنين (ع) الذي لم يبدأ عدوه بالقتال في حروبه كلها بل كان يسعى إلى حقن الدماء وهداية الناس إلى جادة الحق.

لقد كان الأمويون يحتقرون الموالي ــ أي غير العرب ــ وقد نقلت مصادر التاريخ كثير من القصص التي كانوا يعاملون فيها الموالي معاملة بعيدة كل البعد عن الإنسانية ومفاهيم الإسلام التي أكدت على (أن أكرمكم عند الله أتقاكم). 

وقد بلغت درجة الاحتقار والتعسف الذي يلاقيه الموالي من قبل الأمويين إلى الحد الذي كانوا يعتبرونهم كالحيوانات، فكانوا يرزحون تحت نير الاضطهاد والتنكيل والقتل والإذلال والامتهان في كل البلاد الخاضعة لحكم بني أمية في تلك الفترة. 

يقول أحمد أمين عن الحكم الاموي: (الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوّى فيه بين الناس ويكافأ المحسن عربياً كان أو مولى ويعاقب المجرم عربياً كان أو مولى وإنما الحكم فيه عربي والحكام خدمة للعرب وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الاسلامية).(1)

في تلك الفترة التي يصفها أحمد أمين بأنها صبغت بالنزعة الجاهلية كانت كان لسيد الشهداء (ع) منهجه الذي حارب هذه العنصرية المقيتة والطبقية البغيضة فأعاد فيه نهج الرسول الاكرم (ص) الذي يقول: (الناس سواسية كأسنان المشط )، 

وقوله (ص): (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) ونهج أبيه أمير المؤمنين الذي يقول: (الناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق). فتوّج سيد الشهداء (ع) ذلك النهج الخالد بكل أبعاده الإنسانية والأخلاقية،

من هذه المواقف موقفه الخالد الذي وقف فيه إلى جانب هذه الطبقة المسحوقة - الموالي - فقد ذكر أصحاب السير والتواريخ أنه لما صُرع أحد الموالي الذين قاتلوا إلى جنبه (ع) وهو واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسين. 

لقد كان هذا المولى ــ العبد ــ يجد في روح الحسين الكبيرة البلسم الشافي لجراحه والمخفف عن آلامه، ولبّى الحسين نداءه، فمشى اليه ولكنه (ع) لم يقف عند رأسه ويخاطبه ببضع كلمات فيجزّيه بها خيراً ويبشّره بالجنة التي وعدها الله إياه وأصحابه من الشهداء كما فعل (ع) مع أغلب الأصحاب. 

بل أراد الإمام الحسين أن يعيد لهذا المولى الصالح انسانيته في الدنيا قبل أن يموت شهيداً، أراد أن يشعره بحريته بعد أن سلبها منه الأمويون، أراد ان يقول له إنه أطهر وأنقى وأسمى من هؤلاء الأجلاف الذين يتفاخرون بالأنساب وهم في الحضيض الأدنى من الخسة والوحشية. 

فماذا فعل الحسين مع ذلك المولى ؟ لقد أنحنى (ع) عليه واعتنقه، فكان هذا الموقف درساً لكل الأنظمة العنصرية والعرقية التي تميز بين عرق وآخر، لقد وجد ذلك المولى في الحسين الأمل الذي يرفع عن الإنسان الظلم ويزيح ربقة العبودية عن كاهله، فتجده في آخر رمق من حياته تغمر قلبه الطمأنينة والحنان فتطفو على شفتيه ليخاطب نفسه: 

من مثلي وأبن رسول الله (ص) واضعٌ خده على خدي ؟ وتفيض روحه الطاهرة الى بارئها راضية مرضية مطمئنة. 

ويكرر الإمام الحسين هذا الموقف العظيم مع أسلم مولاه فيعتنقه وبه رمق فيشرق وجهه وتعلو فمه ابتسامة وتفارق روحه الطاهرة الدنيا وهو يعانق الحسين، وكأنه يقول له: شكرا لك يا سيدي يا أبا عبد الله لأنك علمتنا معنى الحياة الحرة الكريمة وهي بالموت معك، شكراً لك يا سيدي لأنك نبهتنا إلى أن الحياة مع الظالمين هي الموت لقد علم الامام الحسين أصحابه معنى الحرية والكرامة والاباء.

 كما ألهم الأزمان معاني الحق والعدل والخير فتجسّد الإسلام كله وبكل أبعاده في مواقف الحسين الخالدة فمنهجه (ع) هو منهج القرآن والرسول وأمير المؤمنين 

وتتوالى المواقف العظيمة للإمام الحسين في ذلك اليوم لتشمل إنسانيته وعطفه ورحمته ورفقه الكائنات الحية من غير البشر. 

إن الإنسان يمكن أن يرفق بالحيوان وهو في حالة الدعة والاستطاعة من غير أن يكون هذا الرفق أيثاراً على نفسه، ولكن في يوم عاشوراء وفي ذلك الظرف العصيب كان سيد الشهداء قد أخذ منه الظمأ مأخذه وقد أحاطت به الأعداء وهم يرمونه بالسهام ليصدوه عن الماء، ويشتد القتال ويشتد به العطش فيحمل من نحو الفرات وكان في هذه الناحية عمرو بن الحجاج الزبيدي على رأس أربعة ألاف فيكشفهم (ع) عن الماء وأقحم الفرس الماء فلما ولغ الفرس ليشرب قال الحسين (عليه السلام): (أنت عطشان وأنا عطشان فلا أشرب حتى تشرب ... ) !!

ما أعظمك يا سيد الشهداء ؟ وما أروع مواقفك ؟ وما أجلّ ثورتك التي تعلمنا كل يوم درساً متجدداً ؟ فسلام على روحك العظيمة ، وسلام على نفسك الزكية ، وسلام على دمك الطاهر، وسلام على خلقك النبوي العظيم.

.........................................................................................

1 ــ ضحى الإسلام ج 1 ص 27


العودة إلى الأعلى