الحجاب بين الوجوب والاستحباب- في الحديث والكتاب" -3-
قمنا في المقالين الماضيين بالتوطئة لفكرة الحجاب تعريفًا واصطلاحًا، ومناقشة أسباب استهدافه من قبل المعادين له والمناهضين لفكرته، مع تبيان خلفيات تلك المعاداة والمناهضة، وإظهار ما تختفي وراءها من أهدافٍ استعماريةٍ وتخريبيةٍ للبناء الاجتماعي الإسلامي. كما قمنا باستعراض أوضاع الحجاب في الأمم الخالية، وتبيان ما آلت إليه أحوال المرأة في القرون القديمة والمتوسطة والحديثة، مع إسقاط النظرة السلبية إلى الدين المسيحي على ديننا الإسلامي، من قبل المفكّرين الملقَّحين بالأفكار الغربية، واستهداف حجاب المرأة بقالبٍ إصلاحي مغرٍ حضاري، له ما وراءه من مقاصد لا تمتّ إلى الحضارة والإصلاح بصلة.
وقد رأينا ان الحجاب الإسلاميّ لا يمتّ بصلةٍ إلى حجاب الأمم السابقة، فهو يختلف عنه شكلًا ومضمونًا، لأن نظرة الإسلام إلى المرأة ومكانتها في التشريع الإسلامي تختلف عن مكانتها في كلّ تشريعٍ آخر، سماويّ أو غير سماويّ، كما أن للحجاب الإسلاميّ ضوابط ومقوّمات سنتحدّث عنها في هذه المقالة، كما سنقوم بالتعريج على مكانة المرأة وحجابها في الجاهلية.
حجاب المرأة الجاهلية:
لم يكن حجاب المرأة الجاهلية مختلفًا كثيرًا عن حجابها في الأمم الغابرة، من حيث المفهوم والأسلوب، وكونه امتدادًا لعزلها عن المجتمع، أكثر مما هو وسيلةٌ للمحافظة عليها وإبراز كيانها الإنساني، وهو الهدف الأساس للحجاب في التشريع الإسلامي.
لقد كانت المرأة في الجاهلية مقهورة مسلوبة الحقوق، كما أنها كانت في نظر المجتمع الجاهلي مجلبةً للعار، ولعل بروز بعض النساء العربيات في الجاهلية في الخطابة مثلًا، كالكاهنات والمنجّمات، أو البلاغة والشعر كالخنساء، لا ينفي أن وضع المرأة عمومًا كان بعيدًا عن التقدير والاحترام، حتى بلغ الأمر حدّ وأدها من قبل البعض، وذلك لدرء العار والخوف من سبيها عند حدوث الغزوات وغيرها، ولعل عادة الوأد التي شاعت عند بعض العرب تعدّ من أقبح أنواع الاضطهاد الذي تعرّضت له المرأة الجاهلية، فقد استهدفت جنسها منذ طفولتها وقبل أن تكون مصدرًا لأي فتنة، وهذه قمة من قمم العنف البشريّ ضدّ المرأة، تهمّش كيانها البشريّ وتنكر عليها أبسط حقوقها حتى في الحياة...
وقد ورد ذكر ذلك في القرآن الكريم في اكثر من موضع، استنكارًا واستعظامًا لهذه العادة القبيحة: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (سورة النحل، الآيتان 58 و59) و
المرأة في ظلّ الإسلام:
هنا جاء الإسلام، وتحرّكت التشريعات الإلهية لتردّ للإنسان هويّته البشرية، التي كاد يفقدها في خضمّ الأهواء والغرائز، التي تتحكّم بها النفوس الضعيفة والعقول المتحجّرة...
كان من الطبيعيّ أن يكون للمرأة في التشريع الإسلاميّ نصيبٌ وافر، ولئن جهل الإنسان آنذاك حقيقة كون المرأة نصف المجتمع وكونها مؤثّرة في النصف الآخر، فإن الله جلّ وعلا أراد أن يضيء له على هذه النقطة المهمة، وبدأت التشريعات المتعلّقة بالمرأة تتوالى، ما بين حقوقٍ وواجبات، وراحت الآيات البيّنات تنثال من لدن الحكيم الخبير على لسان جبرائيل على قلب النبيّ الأمين، لتعلّم الناس أن المرأة والرجل سيّان، في الثواب والعقاب، وأنهما لا يختلفان إلا بمقدار خلقهما، وبمقدار ما يستطيعان كبشرٍ تحصيله من فنون الطاعات والتباعد عن الخطايا والهفوات، ولعل من المتعذّر في هذه المقالة أن نختصر الآيات الدالّة على التكامل في التشريع والتوازي في طرح الحقوق والواجبات ما بين الرجل والمرأة في الإسلام، إلا أن إيراد بعضها قد يجعلنا نستقرئ شيئًا من العدل الإلهي المتعلّق بهذه النقطة بالذات، نقطة التكامل بين دوري المرأة والرجل في الإسلام، فلا يطغى أحدهما على الآخر إلا بالحق.
القرآن والحديث وحقوق المرأة:
بعض الآيات القرآنية الدالة على توازي المرأة والرجل في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب:
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (سورة الأحزاب، الآية 35).
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ (سورة النساء، الآية 124)
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (سورة آل عمران، الآية 195)
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ...﴾ (سورة الحجرات، الآية 13)
وقال الرسول الأعظم محمد (ص): "إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائه." (وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 12، الصفحة 157)
وقال أيضًا "المرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح." (وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج20، ص41)
ونشير هنا إلى أن التوازي بين الرجل والمرأة هو الوصف الصحيح لفكرة العدالة بينهما في الحقوق والواجبات، ولا مكان لتوصيف ذلك بالمساواة، لأن الرجل والمرأة لا يتساويان بل يتوازيان، أي أن لكلٍّ منهما خصوصيةٌ في التعامل معه كإنسان، نظرًا للاختلافات الجوهرية التي تميّز كلًّا منهما عن الآخر، مما ينفي إمكانية التساوي بينهما...
اختصاص المرأة بالحجاب:
من هنا يأتي مبدأ الحجاب الذي اختصّت به المرأة المسلمة، في سياق تمييزها عن الرجل، بما خصّها الله به من خصائص تفرض وجوب الحجاب عليها دونه، مع تحديدٍ لضوابط هذا الحجاب بالشكل الذي يرفع من قدرها ولا يغمطها حقّها، كما لا يحرمها من مشاركة الرجل في الحياة الاجتماعية، على النحو الذي يرضاه الله لكليهما، لا على النحو الذي ابتدعته الحضارة الغربية وصدّرته للأمة الإسلامية على أنه النموذج الإنسانيّ الأمثل للحياة الاجتماعية.
نستأنف الحديث عن الحجاب الإسلاميّ وضوابطه ومعالم تكريم المرأة المسلمة به، بخلاف ما تصوّره الحضارة الغربية الضالّة المضلّلة، في الجزء الرابع والأخير من هذه المقالة، والذي سنختم به هذا البحث إن شاء الله.