إثبات الحق الإنساني وجذوره الإسلامية
هل صحيح ما يقال بأن عهد الإنسان بالشرائع التي تحمي حقه في الحياة والوجود الحرّ فيها قد بدأ بالثورة الفرنسية التي بدأت أحداثها عام 1789؟، وهل علينا أن نصدق أن وثيقة حقوق الإنسان صيغت بوحي من مبادئ هذه الثورة التي وإن نصّت على حقوق الإنسان الطبيعية، مثل حقه في الحرية والأمن، والاختيار كما نصت على سيادة الشعب وكونه مصدر السلطات، وعلى سيادة القانون، وعلى المساواة بين جميع المواطنين أمام الشرائع والقوانين؟ هل نصدق أن هذه المبادئ لم تعرفها الإنسانية من قبل؟ فأين الأنبياء والرسل؟ وأين الحضارات والقيم الإنسانية التي تريد أوربا مصادرتها من أهلها الحقيقيين لتنسبها إلى نفسها غير آبهة بهذا الحق؟
سنركز على ما طرحه الإسلام في هذا الخصوص دون الخوض في الحضارات الأخرى الممتدة من عهد جلجامش إلى الحضارة الصينية والهندية والفارسية القديمة، لندحض الفكرة التي تقوم على أن حق الإنسان لم يعرف إلا من خلال وثيقة حقوق الإنسان التي سنعرج عليها أولا.
فمن المعروف أنه طالما ترددت في الاجواء الثقافية والقانونية عبارة تقول ان وثيقة حقوق الانسان الصادرة عام 1948 م هي افضل وثيقة عادلة عرفتها الانسانية لأنها ركزت على مجموعة بنود تسعى لإقامة العدل الانساني على هذا الكوكب ومن اهم بنود هذه الوثيقة مثلا ما يلي:
ا- حق المساواة أمام القانون ب- الحماية ضد القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا ج- الحق في المساواة التامة مع الآخرين د- الحق في أن تنظر قضية كل إنسان أمام محكمة مستقلة ونزيهة بصورة عادلة وعلنية للفصل في حقوقه والتزاماته وأي تهمه جنائية توجه إليه هـ - حق الفرد في التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره و- حق الفرد في حرية التفكير والدين ز- حق الفرد في حرية الرأي والتعبير عن آراءه ح- حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية ط- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ي- حق الفرد في العمل وحرية اختياره و الحق في اجر متساوي و الحق في التعليم و الحق في تشكيل نقابات ....إلخ
ولعل المتتبع لجوهر هذه الوثيقة البشرية سيجده قائما في ارتكازها على عدة مبادئ أهمها: حرية الانسان وحرية اختياراته وضرورة مساواته بأقرانه من بني البشر، وهي امور لم يغفلها الإسلام مطلقا، إذ وبالرغم من وجود الرق والعبيد في نظام الاسلام الاجتماعي إلا أنه سعى إلى تحرير تدريجي لهؤلاء العبيد عن طريق عتقهم قربة إلى الله وكفارة للذنوب، في حين وجود الرق في هذا المجتمع هو ظاهرة اجتماعية موروثة شأنها شأن الظواهر السلبية الاجتماعية الأخرى كالأخذ بالثأر ووأد البنات وتعدد الأزواج وهي ظواهر أعلن الإسلام موقفه الصريح منها بدون مجاملة ولا مواربة.
وحينما يصرح القرآن الكريم: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) فإنه يعلم الناس أن البر الحقيقي ليس في الصلاة والعبادات بقدرما هي أعمال خيرة منها تحرير الأرقاء واستعادة حريتهم الإنسانية المفقودة بأي ثمن يرضي الله، بل إنه جعل كفارة القتل الخطأ مثلا هي تحرير رقبة حيث يقول تعالى: (( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)) حيث جعل الموت مقابل الإحياء، أي إحياء ذات مسلوبة الإرادة والكرامة!
كما سعى الاسلام لتحرير العقول من كل السلطات التي تحجب عنها قدرتها على التحليل والاستنباط وصولا للحقيقة كما تبدت لصاحبها حيث عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ، فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ، وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) لذا فالتفكير عند الإسلام ليس حقا من الحقوق كما افترضت الوثيقة العامة لحقوق الإنسان وإنما هو فريضة من الفرائض المنصوص عليها واللائقة بخصوصية الانسان الذي اراد الله له ليكون كائنا عاقلا قادرا على التفكير والتدبر.
كما ان فريضة العدل الاسلامية هي وثيقة واجبة التطبيق على جميع افراد المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية والدينية، حيث يقول –جلّ شأنه- (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) ولو عدنا إلى الوصايا العشر نجد العدل متضمنا أحد البنود التي توجبه على كل أفراد المجتمع وتضع بإزائه الظلم – الذي حرّمه الله على نفسه - في خانة الحرام الذي نفّر منه الله وتوعد مرتكبيه بالويل والثبور بغض النظر عن منازلهم ورتبهم الاجتماعية والسياسية، أما هذه الوصايا العشر فهي: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ، نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ، لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)). ولا يقف الاسلام ضد الظلم فحسب بل انه يدعو الى محاربته ومقاومته والتصدي له بشتى الوسائل والسبل حتى لو كان الموت ثمنا للتصدي والمقاومة، ولقد نعم المسلمون بالعدل عندما أخذت فلسفته تطبق عهد رسول الله الأكرم الذي رآى في الناس تساويهم كأسنان المشط واختلافهم بقدر تقواهم، وفي عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب القائل: (ان الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني.... وأنتم –عباد الله- والمال مال الله يقسم بينهم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحد). أما عن حق الإنسان بالعلم واكتساب المهارات العقلية فيكفي القرآن ابتداؤه بكلمة (اقرأ) التي توحي بجعل هذا التكليف واجبا على كل إنسان فضلا عن كونه مسلما أو غير مسلم، لأن العلم وحده هو منح الإنسان حق خلافة الله في أرضه، وهو حياة النفس الإنسانية التي لا يعني موتها في هذه الأرض أكثر من جهلها المعادل لهلاكها، وقد قال الرسول الأكرم عن العلماء والمتعلمين: ( مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات الأرض والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)، ولم يجعل القرآن العلم حكرا على حقل معرفي دون غيره وإنما دعا إلى (تكامل معرفي) يربط بين علوم الدنيا وبين الغايات الروحية والإيمانية للإسلام حيث لا خير في قوم كفار ( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) كما يعبر القرآن الكريم.
ولم يغفل الاسلام الذي تعامل مع المجتمع على انه جسد واحد المسؤولية الجماعية التي تقع على عاتق الجميع، فـ( من رآى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) مع الأخذ بالاعتبار أن الإسلام أقرّ سبيلا سلميا لا يقوم على الإكراه والتعنيف في بسط هذا المبدأ لأنه أٌقرّ مسبقا أن الدعوة إلى سبيل الله هي دعوة لا تتم إلا بالحكمة العذبة والموعظة الحسنة، وإن الترهيب لا يجوز إلا في مواضع معروفة ومقامات معلومة تتهدد خلالها وحدة الأمة وتتعرض مفاهيمها وأفكارها لخطر محدق.
وهكذا يتضح أن الإسلام وبالرغم من تقدمه من الناحية التاريخية على عصور الحداثة ودعوات تحرير الانسان فهو قد سبق هذه الدعوات فكرة وجوهرا ومضمونا من خلال ما تم عرضه موجزا من دلائل وشواهد تؤكد كونه دينا انسانيا يؤكد قيمة الانسان العليا ويسعى الى تهيئة عيش كريم وحياة حرة لاي انسان بغض النظر عن لونه وشكله وقوميته وملته.