(تأمّلات عاشورائية) من مدرسة الحسين (ع) نتعلّم (3)- مسلم بن عقيل، ثقة الحسين وصفيّه

من مدرسة الحسين عليه السلام نتعلّم دروسًا عمليّةً تستقيم معها الحياة، وتشرق في جنباتها العزة والكرامة والإباء، ومعاني الإسلام المحمدي الأصيل. ومن أساتذة هذه المدرسة المبرّزين، ذاك السيد القرشيّ الهاشميّ الذي أوكل إليه الحسين أخطر وأصعب مهمةٍ سبقت ثورته، ألا وهي التحقّق من وضع الكوفة وأهلها قبل الانتقال إليها وتلبية نداء قادتها ورؤسائها، الذين أظهروا العزم والتصميم على نصرة الحسين لقتال الظالمين.

إنه مسلم بن عقيلٍ عليه السلام.

ولو تأمّلنا قليلًا في حياة مسلم واستقرأنا بعض فصولها، لعلمنا أنه لم يصل إلى تلك المرتبة جزافًا.

تبدأ قصته مع ميلاده، فأبوه عقيل بن أبي طالب أخو أمير المؤمنين ونسّاب العرب، وهو من اختار أم البنين (ع) لتكون زوجةً لإمام المتقين، كيما تلد له العباس ناصرًا للحسين (ع)، أما أم مسلمٍ فهي نِبطيةٌ من آل فرزندا، واسمها زينة، أي أنها كانت جاريةً فأسلمت فأعتقها عقيل وتزوّجها فولدت له مسلمًا عام اثنين وعشرين للهجرة، ولعل من دواعي تزوّج عقيلٍ من تلك الجارية ما لاحظه من نباهتها، فقد كان العرب عمومًا وعقيل خصوصًا ممن يهتمّون لهذه الخصال، التي تنتقل من الوالدة للأولاد، والشاهد ما نراه من تميّز مسلمٍ في نباهته وإيمانه وتقواه، حتى كان موضع ثقة ابن عمه الإمام الحسين (ع) لدرجة أن ينتدبه لتلك المهمة الاستثنائية، مهمة اختبار الكوفيين والتأكد من صحة ولائهم وعزمهم على نصرة الحسين.

كما أن من دلالات تميّز مسلمٍ أن أمير المؤمنين زوّجه ابنته رقية الكبرى، حتى إذا توفّيت زوّجه ابنته الأخرى رقية الصغرى، وما كان أمير المؤمنين ليزوّج ابنتيه إلا لمن هو أثيرٌ لديه.

أما أولاد مسلمٍ فكانوا ثلاثة، أولهم عبد الله بن مسلم بن عقيل، استشهد بعد والده بين يدي خاله الحسين، والطفلان محمد وعلي ابني مسلم، وقعا في أسر عمر بن سعدٍ ولكنهما عُزلا عن القافلة وتم سجنهما منفردَين ثم قتلهما في النهاية، وهما المعروفَين ب"أولاد مسلم" وقصتهما المفجعة معروفة... وقد كان لمسلمٍ طفلةٌ أيضًا اسمها حميدة، تذكرها المقاتل من جملة سبايا كربلاء، ولها مع خالها الحسين في كربلاء مواقف معروفة مؤثرة...

إن الناظر إلى عاقبة مسلمٍ وأولاده، يلاحظ أنه واسى الحسين بنفسه وبهم، فاستشهد واستشهدوا، فكان مصداقًا لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

أما ما جرى على مسلمٍ من مواقف مشهودة، فهي شواهد أخرى على تلك الدروس البليغة التي ألقاها على مسامع التاريخ لتكون نبراسًا لكل عارفٍ مطّلعٍ راغبٍ بالتعلّم من مدرسة الحسين وأصحابه.

إن مسلمًا، الذي خبر غدر الكوفيين بعمه أمير المؤمنين وابن عمه الحسن عليهما السلام، كان يتوجّس الغدر في صفوفهم هذه المرة، ولكنهم بايعوه ولم يخذلوه في البداية، حتى كان تكليفه أن يخبر الحسين ببيعتهم واجتماع كلمتهم، ولكن انقلاب الأمر من الحق إلى الباطل، وتراجع أشباه الرجال عن بيعتهم، وهو عارٌ طالما تجنّبه العرب أيام الجاهلية رغم جاهليتهم، لكن أولئك الجبناء، عبيد الدرهم والدينار واللاهثين خلف أهوائهم، لم يأبهوا للعار، بل انكفؤوا نحو شياطينهم وقد غدوا أبرع في الوسوسة منهم، وانفضّوا من حول مسلمٍ، وأوحوا إلى كلّ من بايعه أن ينفضّ أيضًا، تارةً بالترغيب وطورًا بالترهيب.

لكن مسلمًا لم يأبه لانفضاض جمعهم، بل كان كل همّه هو إبلاغ الحسين بما جرى... لم يفكّر في نفسه، ولم يطلب لها السلامة، وكان أقصى أمله في الحياة أن يسلم الحسين.

وقف مسلمٌ بعدما غدا وحيدًا، بباب تلك الكوفية الشريفة طوعة، وهي جاريةٌ للأشعث بن قيس الكندي، أعتقها فتزوجها أسيد بن مالك، و أنجبت منه ولدًا اسمه بلال، وما كان وقوف مسلمٍ بذاك الباب عبثًا فالأبواب كثيرة، ولكن موقف تلك المرأة منه جعله يعلم أنها أهل للثقة، فقد طلبت منه أن يترك الوقوف ببابها جهلاً منها بحاله وبه، فهبّ من مكانه ليعلّمنا معنى الشرف، وقد علم أنها عفيفةٌ تعرف حدود الله، ولم يخب ظنه إذ آوته ونصرته في صحراء الكوفة الخالية من الرجال، ولكن ولدها لم يكن كإياها، فقد غدر وأخلف بعهده لأمه، وأسلم مسلمًا لعبيد الله بن زيادٍ، لتبدأ مرحلةٌ أخرى أخيرة من حياة مسلم، زاخرةٌ بالعبر والدروس.

وقف مسلمٌ جريحًا بين يدي جبّار الكوفة الذي قهر زعماءها بشدّته الوحشية وليونته الأفعوانية، لكن مسلمًا كان مختلفًا، فقد رفض حتى أن يسلّم عليه قائلاً بكل قوةٍ وعنفوان: "ليس لي بأمير!"، فلو أن مسلمًا سلّم على ابن زيادٍ لكان معترفًا به، ولاِنهار كل ما بناه قبل الكوفة وبعدها، ولكن مسلمًا كان واعيًا لذلك كله، موطّنًا نفسه على التضحية بنفسه، متابعًا طريقه التي بدأها بنصرة مولاه، لا يتنكّبها قيد أنملة، ويعلم أنه إلى الجنة صائر، لكنه كان حزينًا تدمع عينه بين الفينة والفينة، وهو الأسد الذي جندل الأبطال في باحة الكوفة حتى أنهم لم يستطيعوا أسره إلا غدرا... ولما سأله أحد أولئك الجبناء الموكّلين بقتله: "ما يبكيك يا مسلم؟ إن من يطلب ما تطلب لا يبكي!" أجابه بذلك الدرس العظيم: "يا هذا ما لنفسي بكيت بل أبكي لأهلي المقبلين عليّ!" ولو كان السائل من أولي الألباب لفهم، ولعلم أن هذا العبد الصالح لا تبكيه الدنيا وخسارتها، وإنما بكاؤه لتوجّه إمامه نحو بلد الغدر والختل والخيانة، حيث سيخسر هذا وأمثاله آخرتهم في خضم تلك الحرب الضروس التي سيقف فيها أهل الدنيا في مواجهة أهل الآخرة، وستبقى إلى أبد الدهر شاهدةً على أن الحقّ لا ينهزم أبدا، حتى لو قُتل أصحابه، لأن كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.

ثم دنا وقت الشهادة، وقت الدرس الأخير...

طلب مسلمٌ من جلّاده أن يمنحه بضع دقائق ليصلي صلاته الأخيرة...

هي الصلاة، نجوى العبد لخالقه، لحظة القرب والوصال، وهل أحلى من أن تُختتم الحياة بالصلاة؟!

ركعتان أراد بهما سيد بني عقيلٍ وجه الله، لتكونا آخر زاده من أعمال هذه الدنيا، وهو الصدّيق التقي الورع الصالح، ولو أردنا أن نتمعّن أكثر في هذا الموقف، لرأينا كل عِبر الصلاة تتجلّى في تلك اللحظات، ولكتبنا في فضل تلك الصلاة عشرات الصفحات...

وكان ختام صلاة الشهيد المقبل على لقاء ربه بنفسٍ سخيّةٍ وروحٍ أبيّة، وقوفه متّجهًا نحو تلك الطريق التي كان الركب الحسيني يسلكها ما بين مكة والكوفة، ولعله ما اتّجه إلا إلى كربلاء، وقوله بصوتٍ ما زال يجلجل على مدى التاريخ:

"السلام عليك يا أبا عبد الله!"

لقد سجّل مسلم بن عقيل في أثير الكون أول زيارة للحسين عليه السلام، فكان أول زائرٍ له، وكان ذاك النداء أول نداء...

ثم انضمّ البطل إلى ثلة الأبطال، وسبق الشهيد ثلة الشهداء...

ثم جرت واقعة كربلاء، وتردّدت على الألسن وفي القلوب تلك السجدة الطويلة:

"أللهم ثبّت لي قدم صدقٍ عندك مع الحسين وأصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام".

لقد بذل مسلم بن عقيل (رض) مهجته في سبيل نصرة إمامه، لم يتقاعس ولم يتخاذل، ولم تغرّه بهارج الدنيا ولم يطمع فيما طمع به الطامعون من ملكٍ وسلطان، فملك الآخرة خيرٌ وأبقى، ولم يجبن أمام ما جبن عنه الآخرون خيفة القتل أو التشريد أو العقاب، فكلّ ما يصيبه في سبيل الله كان مقبولًا لديه، بل إنه سعى سعيه إليه، وقال كلمة الحقّ في وجه السلطان الجائر، وهو يعلم أنه مقتولٌ لا محالة...

لقد كان مسلمٌ ثقة الحسين وصفيه، ثم صار ولا يزال ثقة المؤمنين جميعًا وحبيب قلوبهم وبابًا لطلب حوائجهم، وتلك منزلةٌ لا ينالها إلا ذو حظٍّ عظيم...

لقد فاتته الدنيا فما تأسّف لفقدانها، بل كان على الآخرة أحرص، وتلك خصوصيةٌ كانت لأصحاب الحسين، استحقّوا بها مرتبتهم العليّة، واستحقّوا أن يكونوا للمؤمنين عامةً، وللشهداء خاصةً، أسوةً وقدوةً... ولئن لم تكن منزلتهم لِتُبلغ، إلا أن السير على نهجهم وترسّم خطواتهم يرفع الدرجات ويستنزل الرحمات، ويضع كل شهيدٍ يأتي بعدهم في ركابهم، فالحسين سفينة النجاة وهم بحارتها المخلصون، يمضون معه وبه، فلا يتردّدون.

وتبقى سيرهم العطرة نبراسًا على مرّ السنين والقرون، نجتني منها ما يغني القلب والعقل والوجدان...

 



العودة إلى الأعلى