تأمّلات عاشورائية.. من مدرسة الحسين (ع) نتعلّم (2)

"السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين" عبارةٌ تتوقف عندها الألسن والقلوب، وترتقي معها الأرواح... عبارةٌ تغوص فيها العقول لتقتنص العِبرة، بعدما اقتنصت العيون العَبرة... وتنسكب الأفكار متّجهة نحو منتهى الكلام، فهي مع أوله في انسجامٍ تامّ! هو السلام، كلمة الله التي يلقيها على خير الأنام لتمتلئ النفوس عدالةً ويعمّ على الكون الوئام.

 


سلام تتناقله القلوب عبر الأزمنة والأمكنة متباعدة ومتقاربة، لتطرق أبواب سيد الشهداء وتتسلّق قبّته وتنعم بفيئه وترتوي من فيض ظمئه الزلال، الذي روى ويروي العالمين منذ كان!

ويلتقي في ثنايا السلام سيد الشهداء مع ولده علي (الذي لا يبالي إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه، طالما أنه على الحق)، ومع أولاده (من استشهد منهم في ذلك اليوم، كعبد الله الرضيع، ومن لم يستشهد إلا بعد حين، كذريته من الأئمة الطاهرين الشهداء)، ومع أصحابه...

وهنا يتوقف القلم والكلم، فأن تقرن سلامًا مختصًّا بالمعصوم، إلى سلامٍ يختصّ بغيره، هي رفعة لمقام هذا "الغير"، لا تطالها رفعة...

أجل، هم أصحاب الحسين...

أولئك الأبرار الذين وصفهم بقوله: "إني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي..." (ولعل من المنصف والطبيعيّ أن يكون أهل بيته من جملة أصحابه أيضًا، فهم قد صحبوه في حياته وفي رحلة استشهاده).

أولئك الأطهار الذين نبذوا الدنيا ولم تُغرهم كلّ ملذّاتها وبهارجها، والتحقوا بالآخرة موقنين أنهم على الحق، وأنهم إلى جنان الخلد صائرون، حتى أن أحدهم كان يقول (وهو زهير بن القين البجلي (رض) وهو لعمري صادقٌ بارّ): "والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك."

على أن أولئك الأصحاب الخلّص، الذين وقفوا منارةً وقدوة أمام كل أبطال التاريخ قديمًا وحديثًا، كانوا قسمين، في تلك الرحلة الأبدية السرمدية نحو أرض الشهادة الحسينية: قسمٌ نال الشهادة قبل كربلاء، وقسمٌ نالها بعد كربلاء...

ولو أردنا أن نحصي ما نتعلّمه من مدرسة هؤلاء، وهي مدرسة حبيبهم وإمامهم وسيدهم الحسين (عليه السلام)، لما استطعنا أن نحصي معشار ما هناك، ولكنها شذراتٌ نلقي بها الضوء على تلك النجوم الباهرة، التي شعشعت في سماء أهل الأرض لتدلّهم على صفات أهل السماء.

ولعل أبرز من برز من أصحاب الحسين وأهل بيته السابقين لواقعة كربلاء، كان سفير الحسين وصفيه وثقته من أهله، ابن عمه وصهره، وصفوة آل عقيلٍ الكرام، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين على أرض الطف بعد أيام، هو مسلم بن عقيل بن أبي طالبٍ رضوان الله تعالى عليه.

يعجز البيان عن وصف مسلم، ولعل اسمه يكون هو الأبلغ في وصفه...

لقد كان مسلمٌ مسلمًا بحقّ، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ويكفينا ما وصفه به الحسين لندرك عظيم مقامه، وأن كلّ من سار على خطاه بعده، من شهداء الأزمنة التالية، يبقى دونه، فهو المقتدى به وهم المقتدون، وكل شهيدٍ بعد هؤلاء المتقين بحبهم مجنون، وعلى نهجهم يمضي وبهم ينتصر.

إن شهادة المعصوم بحق شهداء كربلاء، هاشميين وأصحابا، تكفي وحدها دون غيرها لتدلّ على عظيم مقامهم، الذي لا يجاريهم فيه أحد، فهم المرتبة الأولى من الشهداء، وبعدهم يأتي الآخرون، ومما لا شكّ فيه أن المعصوم الذي يحكم بباطن الأمور وظاهرها، لا بظاهرها فقط، هو المؤهل الوحيد لينقل إلينا مراتب الشهداء، ويكفي كل شهيدٍ بعدهم شرفًا أنه قطف من ثمارهم واقتبس من أنوارهم ما يستضيء به ويضيء، تمامًا كما يقتبس القمر من الشمس، فلا هو مثلها ولا يغني عنها، ولكنه إليها يشير.

وكما أنه لا شيء يشبه كربلاء، فكذلك لا شيء يشبه شهداء كربلاء وسبايا كربلاء، وكل من كان منها بسبيل، ولكل من سار على ذلك النهج لاحقًا شرف الاقتداء.

أما الدروس والعبر التي نستقرئها في مواقف هؤلاء العظماء، فستكون لنا معها وقفة بل وقفات، نستكملها في ما هو آت، إن شاء الله.


العودة إلى الأعلى