(تأمّلات عاشورائية) من مدرسة الحسين (عليه السلام) نتعلّم (1)

لم تبدأ عاشوراء في العاشر من محرم عام واحد وستين للهجرة... ولم تبدأ في الأول منه!

 

لم تبدأ في يوم التروية حين غادر الحسين عليه السلام مكة والبيت الحرام قبل إتمام حجه، لكي لا يكون "الذي تنتهك به حرمة البيت"!

ولم تبدأ في أواخر رجب الأصبّ حينما خرج من مدينة جدّه، ميمّمًا وجهه شطر مكة ليمهّد للانتقال إلى الكوفة...

ولم تبدأ يوم استشهد أخوه الحسن المجتبى عليه السلام مسمومًا مغدورا، ومُنع من أن يُدفن إلى جوار جدّه مقهورا.

ولم تبدأ يوم تخاذل الناس عن نصرة الحسن ضد معاوية الطليق ابن الطلقاء، واضطرّ صلوات الله عليه لعقد الصلح حفاظًا على البقية الباقية من دين جده وشيعة أبيه.

ولم تبدأ يوم ضُرب أبوه أمير المؤمنين عليه السلام في محراب الكوفة واستشهد بعدما خضب شيبته من دم رأسه.

ولم تبدأ يوم ارتحلت أمه سيدة نساء العالمين إلى جوار ربها وأبيها شهيدة مظلومةً في عمر الورود والرياحين، بعدما ظُلمت وقُهرت وغُصب حقّها ولُطم وجهها وكُسر ضلعها وأُسقط جنينها... فدُفنت سرًّا لتعلن للسموات والأرضين أن قبرها ليس في التراب بل في قلوب الأحباب...

ولم تبدأ أيضًا يوم ولد الحسين، مع أن ولادته كانت فرحًا وحزنًا وزغاريد وعويل، وقد بكاه جدّه المصطفى وأخبر عما سيجري عليه بعد حين...

لقد بدأت عاشوراء مع ذلك كلّه، ولكنها بدأت قبل ذلك كلّه...

بدأت حينما خلق الله نور الحسين عليه السلام قبل خلق السموات والأرض بألفي عام...

فعن سلمان المحمدي(رض) قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله يا سلمان، خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطعته، فخلق من نوري عليا فدعاه فأطاعه، فخلق من نوري ونور علي فاطمة، فدعاها فأطاعته، فخلق مني ومنعلي ومن فاطمة الحسن والحسين، فدعاهما فأطاعاه، ثم خلق من نور الحسين تسعة أئمة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية، أو أرضا مدحية، أو هواء أو ماء، أو ملكا أو بشرا، وكنا بعلمه أنوارًا نسبّحه ونسمع له ونطيع."[1]

بدأت عاشوراء يوم تكوّن الحسين نورًا يسبّح الله ويقدّسه ويطيعه، فقد علم الخالق بعلمه المكنون أن هذا النور العظيم سيكون في سبط النبي العظيم،الذي سيحمل في كيانه البشريّ وقلبه الملكوتيّ همّ إحياء دين الله المندثر، وسيطيع باريه في ما أمره، فلا تأخذه في الله لومة لائم، وسيقع عليه بلاء لم يقع على سواه من النبيين والصدّيقين والأولياء، وسيكون موته حياةً لكلّ الأحياء؛ "إن الله شاء أن يراني شهيدا..."!

علم الخالق أن هذا الإنسان الاستثنائي سيكسر بموته قاعدة الفناء، وسيحيا بشهادته، ومع أن الشهداء أحياءٌ عند ربّهم يرزقون، إلا أنه حياة الحسين بشهادته تختلف...

علم الباري جلّ وعلا أن الحسين سيخترق بدمه المسفوك ظلمًا حجب الزمان، وسيهطل على كلّ أرضٍ أقحطها الطغيان، فيستنبت من أعماقها بذور الحقّ الريّان.

علم الله عزّ وجلّ بما سيكون وكأنه قد كان، فهو البارئ المصور والأول والآخر، من يستوي عنده كل زمان، عالم الغيب والشهادة الرحيم الرحمن...

وهنا تنطلق أسئلةٌ عصيّة: ما الحكمة من كلّ ذلك؟ ولماذا يخلق الله إنسانًا بهذا الكمال ليكون أضحيةً في سبيل الحقّ والكمال؟ وهل ولد الحسين ليموت؟ أم أنه قد مات ليولد من جديد؟

ويبرز جوابٌ، لعل فيه ما يشفي الألباب: كلنا ولدنا للموت ونبني للخراب، والموت حقٌّ على كل إنسان، وقد خلق الله الموت والحياة ليبلُوَنا أينا أحسن عملا...

ليس الموت إلا محطةً على طريق الخلود، يحسبها الكافر نهايةً ويعلم المؤمن أنها البداية، فالدنيا  حفنةٌ من أيامٍ فانية، والآخرة مدىً من دهورٍ باقية، ولا يبقى ويرقى إلا من عرف كيف يجتاز الدنيا سالمًا من فتنتها وغانمًا لجائزتها، وما الجائزة إلا لمن اتقى وأحسن واستقام وآمن...

إن الأسئلة السابقة ليست إلا أجوبة، فمجرّد التساؤل عن الحكمة حكمة، وما خلق الله إنسانًا بهذا الكمال إلا ليكون أضحيةً في سبيل الكمال، لأن نقص البشر أثمر ظلمًا وعصيانًا، وتشابهت الدروب وتهافتت الفتن حتى كاد دين الله أن يضمحلّ، وكادت كل تضحيات الشهداء والصدّيقين والأنبياء والصالحين تنهار،ليستوي الجهل والعلم والليل والنهار... وكان لا بدّ من صرخةٍ عظيمةٍ كنفخ الصور، توقظ السادرين الغافلين وتهز ضمائر الصامتين... كان لا بدّ من أضحيةٍ بحجم الدين لتحيي الدين، فمن أجدر من أكمل أهل زمانه ليكون تلك الأضحية؟

وهنا نصل إلى السؤال مرةً أخرى: هل ولد الحسين ليموت؟

نعم، كلنا ولدنا لنموت، وننتقل من عالم الموت إلى عالم الحياة الأبدية، ولكن الحسين بالذات مات ليولد من جديد، ففي كل عاشوراء يولد الحسين، ويولد كل ما من أجله استشهد الحسين عليه السلام؛ الصلاة والصوم والحج والزكاة والصدقة والإحسان والبرّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله... لقد رخصت في عين الحسين الحياة، إذ رأى أن موته سينقذ الغافلين من غفلتهم ويوقظ الجاهلين من جهالتهم، ويُرفع مع رأسه الحق الذي كاد يتساوى بالباطل، حتى إذا ظهر الحق زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا...

وفي كلّ عاشوراء تولد معانٍ جديدةٍ للقيم الحسينية، ويكتشف البشر مظهرًا جديدًا من كماله، ويتعرّفون على صورةٍ جديدةٍ من صوره وأحواله...

عاشوراء لم تكن محض يومٍ من الشهر الحرام احتضن شهادة الحسين وأصحابه الأبرار الأعلام، بل كانت ولا تزال وستبقى مدرسةً من مدارس التاريخ، بل هي مدرسة المدارس، فيها ومنها يتعلّم العلماء؛ باب مدينة الحسين، ليلة قدره وموضع سره، فيها يُفرق كلّ أمرٍ حكيم، وتتخرّج مواكب المتّقين، والوسيلة: أن تقرأ وتسمع وتفقه الحسين وأصحاب الحسين وأهل بيته، فقد صدق عليه السلام إذ قال: "إني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي..."[2]

"رحم الله عبدًا أحيا أمرنا..."

كلمةٌ قالها الإمام الرضا عليه السلام، فلمّا سئل: "وكيف يحيي أمركم؟"، قال: "يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا."[3]

وقد علمنا أن كلّ مجلسٍ يُعقد لذكر الحسين يُكلّل بحضور الزهراء عليها السلام، فلمَ هذا الحضور؟

إنه حضور مظلوميتها وكلّ ما عاشت واستشهدت من أجله، تمامًا كما ولدها الشهيد.

وعلمنا أن أشرف دمعةٍ يذرفها المؤمن هي دمعته على الحسين، ودمعته من خشية الله، فالدمعة عنوان تفاعل القلب، والحسين عنوان معرفة الله بالعقل والقلب والروح، ولذا فإن دمعة المؤمن عليه هي إقرارٌ به، واعترافٌ بحقّه، واستقرارٌ على نهجه...

من مدرسة الحسين نتعلّم كل حروف العطاء، فهلمّوا نبحث في دفاتره السخيّة عن معاني الأشياء، فلعمري ما خاب من وضع عاشوراء نصب عينيه، وما ضلّ من بها اهتدى...



[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج54، ص169

[2] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص91

[3] بحار الأنوار، ج2، ص30

العودة إلى الأعلى