مكتسبات الفتوى المباركة

: بقلم/ حسين فرحان 2024-06-17 07:57:37

لم يكن لهذا البلد أن يحتفظ بعزته ورفعته دون تضحيات جسام خطت تاريخه بأحرف من نور.. ولم يكن لأعداء هذه الأرض وشعبها أن يتركوا ذلك الإرث الخالد دون منغصات وشوائب وتدخلات لهم فيها مآرب وغايات مختلفة.. العراقي.. يستحضر الرفعة كلما ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة، ويستجلب إرثه التاريخي بكل الامتدادات ليقول للآخر المتبجح بشيء من زخرف دنياه: "أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ..".. العراق -في رسم بياني يحاكي أصالته- يعني (العراق)، ولا شيء آخر سوى العراق وفخامة الاسم تكفي هويته.. هي هي.. بكيفها وأينها وجوهرها.. ملح الأرض و إشراقتها، والكوفة التي يحبونها وتحبهم (صلوات الله عليهم).. والحفاظ على تلك الهوية من أن يتم طمسها كان هاجسا عند المرجع المفدى يتوجس منه خيفة منذ أول خيط لفجر التحرر من ظلمات الطاغوت؛ لتكتب (الواشنطن بوست) ذلك وتدونه جوابا عن سؤالها: (ما الخطر المستقبلي؟)..

العراق.. محطات كثيرة.. متغيرات كبيرة.. حكومات وممالك تعاقبت.. هلك فيها الملوك تلو الملوك واستخلف الله بعدهم آخرين.. كلٌ كان يدلي بدلوه على حين غفلة من الزمن.. لكن العراق باق ينتظر زوال أولئك تارة، وصولة حكم غيرهم تارة أخرى.. نقي الثوب نقي الهوية..

شهد حكمَ أعتى الطغاة، لكنه في الوقت ذاته شهد زوالهم وشهد ابتسامة علت شفاه من ظُلم ومن اضطُهد.. أطل الشيطان إطلالة على هذه الأرض فرأى في مستقبلها تتويج رسالات السماء بالكمال الذي تنشده البشرية.. فأَعملَ مكره وغدره، واختار حزبه وأُممٌ معه أعدت، واستعدت، وتهيأت، وتنقبت؛ لوأد مشروع دولة العدل بل لوأد الانتظار.. وأطل الغرب برأسه - و بكل ما أوتي من إمكانات- على هذه الأرض فوجدها من أشد البقاع عنادا لتوجهاته وغاياته ومخططاته.. فسلط عليها وعلى غيرها من دول الشرق حكام جور يُمهّدون للتبعية المطلقة الخرساء.. فنجحت المخططات في كل مكان إلا في أرض الإمامة حيث العاصمة العالمية.. والمشروع الكوني (العراق).. فما أن سقط بيدق العمالة الأعوج وهوى تمثاله خاسئا حتى عاد العراق - قبل أن يرتد الطرف- الى الهوية المغيبة لتبرز جلية في الشعائر التي تحيي القلوب وتصنع الأمل وترضي الرب وحججه أولي الأمر..

عجزت الإدارة الفلانية والإرادة الشيطانية عن فك شفرة إنسان هذه الأرض وقد مارست معه:

 

حكام جور وعمالة.. ولم تفلح

ضربات عسكرية.. ولم تفلح

احتلال سمج غادر... ولم تفلح

فتنة طائفية قذرة.. ولم تفلح

مفخخات وذبح وتهجير.. ولم تفلح

عبث بمقدراته الاقتصادية.. ولم تفلح

لم يبق سوى إظهار شيء جديد حسبوا أنه المارد الذي سيقلب موازين قوى هذه الأرض، فمُنحت له سمة العالمية والانتشار، ورفعت له راية الخلافة في أماكن عدة؛ ليخيل للجميع أن (الدال والألف والعين والشين) هو اسم تنظيم يستهدف العالم.. لكن الحقيقة هي: أن المستهدف الأول في مشروعه هو العراق وما حرف العين فيه إلا تأصيل لذلك وتأكيد عليه كهدف أساس ومن ثم يكون له تتمة في أماكن أخرى بحسب ما يرتئيه الشواذ خلف كواليس الظلام.. حان الوقت -بحسابات قوى الشيطان- لإظهار تلك الثلة من الأوباش وتوجيهها نحو العراق.. حيث لم تكن هناك دولة مؤسسات حقيقية متكاملة لتواجههم بعد أن استغشى الساسة ثيابهم وصموا آذانهم عن نصح منبر الصحن الحسيني الشريف طيلة أحد عشر عاما مضت من ممارسة السلطة.. لتنهار المؤسسة العسكرية عند أول مواجهة مع شذاذ الآفاق..

كاد كل شيء ينهار مع انتكاسة القوة الماسكة للأرض، ومع عمالة المتربصين والحواضن.. كاد كل شيء أن يتزعزع مع أنباء توغل كبير وسقوط مدن بأكملها.. كادت الحياة أن تتوقف ويدب في أنفس الناس القنوط واليأس مع إشارات سياسية تفيد بأن القضاء على هذه الهجمة تحتاج فيه الدولة الى عشرات السنين..

في تلك الأثناء.. وفي ذلك الوقت العصيب.. كان مرجع النجف يعد العدة لصد هذه الهجمة الشرسة.. ولم يكن للعدو أن يتوقع ما ستؤول إليه الأحداث القادمة سوى المزيد من النزوح وسقوط المدن وكرة ثلج تتدحرج لتكبر وتكبر دون أن يوقفها شيء.. أحلامهم كانت بنظرهم قابلة للتحقق.. العملية السياسية ستنهار والهوية ستضرب عرض الجدار..

منبر الجمعة في الصحن الحسيني الشريف يصدح بشيء جديد مختلف.. لم يكن خطابا موجها لإصلاح ما أفسده الساسة ولم يكن كلاما في شأن آخر.. بل كان فتوى مباركة تستنهض همم الرجال في الدفاع عن الأرض والعرض.. "فإنه يكون شهيدا".. كانت الكلمة الأكثر دلالة من بين كلمات السِفر النوراني المبارك على الفوز العظيم.. اندفع أبناء الشعائر والمنابر ورجال الله وملح الأرض؛ ليحيلوا دولة الخلافة الى خرافة، ويحيلوا توقعات الغرب بالانتكاسة الى نصر مؤزر.

انتصرت الفتوى فكانت المكتسبات فريدة من نوعها، فهي قد أبرزت قوة الهوية الثقافية لهذا الشعب، وأظهرت مدى طاعة المؤمنين لمرجعيتهم المباركة، وبينت للساسة ضرورة التخلي عن الأنا وإعادة النظر في تحمل مسؤولياتهم تجاه شعبهم.. كما حققت الفتوى عنصر الثقة بالنفس لدى الشعب في قدرته على مواجهة أعتى الهجمات الخارجية، وعززت روح التكافل والتعاون مع ظهور حراك لوجستي داعم يرقى لمستويات عالمية في الأداء.

ومن الجدير بالذكر أن الفتوى وما تحقق من نصر على أثرها أعطى لبعض الأخوة من الشركاء في الأرض ممن غُرر بهم ففرحوا لمقدم الأوباش أن العراق للجميع ولا فرق بين عراقي وآخر، وخير شاهد على ذلك دماء أبناء الجنوب والوسط التي سالت على أرض شمال وغرب العراق دفاعا عن أهلها.. حفظ الله مرجعنا المفدى ورحم الله شهداء الفتوى.. رحم الله تلك العمائم الشريفة التي غادرت حلقات الدرس في حوزاتها وانطلقت ملبية لنداء مرجعيتها العليا.. مكاسب الفتوى كبيرة لا يسعها مقام أو مقال متواضع.. والمكاسب التي تحققت للعراق وشعبه نوكلها للتأمل والتدبر ولعل مع كل حدث سيكون لها شاهد يروي من بطولات أبنائها ما يُعدُ فوق كل مكسب.

المرفقات

العودة إلى الأعلى