زواج النورين، المثال الكامل الذي ضربه الله لخاصة أوليائه

كثيرةٌ هي الأحاديث والروايات التي نقلت إلينا قصة زواج النورين، علي وفاطمة عليهما السلام، وكثيرةٌ أيضًا هي الأحاديث التي أطلقها أهل بيت النبوة عليهم الصلاة والسلام بقصد إسداء النصح للتزويج، ووضع الأسس لبناءالأسرة الصالحة، عن طريق اختيار الزوجة للزوج الصالح وبالعكس.


وكما أن المعروف أن حياة نبي الرحمة وأهل بيته هي كأقوالهم، نبراس هدايةٍ للبشر، فإن تحليل كل جانبٍ من جوانبها يضيء لنا عتمة الحياة الدنيا، ويرسل إلينا من فيض شعاعهم ما يخرجنا من الظلمات إلى النور.

تلك قضية زواج الأمير بالأميرة، والتي لا يختلف اثنان في أنها أكمل قصة زواجٍ على وجه الأرض، إذ أن بطلاها هما: قطب رحى الوجود وقرة عين نبي الرحمة والهدى وبضعته الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء، وباب علم النبي ومستودع سره ووصيه في أمره وصراط الحق المستقيم والعروة الوثقى، الذي به يعرف المؤمن من المنافق، سيد الوصيين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام...

إن إيراد هذه الصفات التي لا تكاد تشكل معشار ما يمثله للإنسانية هذان الزوجان الاستثنائيان، هو من قبيل دخول البيت من أوسع أبوابه، فبيت علي وفاطمة لم يتّسع على ضيقه وتواضعه لهما ولأسرتهما الصغيرة المكوّنة من خمسة أو ستة أفرادٍ على أبعد تقدير فحسب، بل اتسع لكل ناظرٍ متطلّع إلى ذلك المثال الأعلى الذي ضربه الله لخاصة أوليائه... فأن تقتدي بعلي وفاطمة، معناه أن تأخذ من شمسهما بقبس ومن ضيائهما بشعاع، وأن تضع أول حجر أساسٍ في بيتك المستقبلي انطلاقًا من تعليماتٍ لا تحتمل التأويل، قوامها ما ورد ذكره حول تفاصيل تلك الزيجة المباركة، التي لم يحصل قبلها ولا بعدها مثلها.

إن الربط بين ما جاء في مأثور الحديث عن زواج النورين، وبين نصائح النبي وأهل بيته حول اختيار الزوجين أحدهما للآخر، يجعلنا من دون شكٍّ نلاحظ أن القول النظري قد قرن بالدليل العملي، وأن أهل البيت الذين خلقهم الله مثالًا للعالمين بصفاتهم الحسنى، قد تجسّدوا جميعًا في ذلك الحدث الأكبر الأعظم، الذي أسس للأسرة النبوية، كما أسس للأسرة الإسلامية عمومًا، ولو استطاع كلّ فردٍ أن يلمّ بتلك التفاصيل المباركة، فلا يستغربها ويستبعدها ويعدّها منافيةً لظرفه وزمانه، لاستطاع أن يقدم للأمة الإسلامية جمعاء نواة أسرةٍ صالحة ومجتمع إنسانيّ صالح.

لقد زوّج الله عليًّا بفاطمة في الملأ الأعلى، لا لأنهما والدَي العترة الطاهرة فقط، بل لأنهما المثال الأكمل للأسرة الطاهرة.

ولو قسمنا زواج النورين إلى مرحلتين نتتبّعهما ونرصدهما بدقة، لوجدنا في كل مرحلةٍ درسًا لا ترقى إليه كل الدروس التطبيقية العالمية في بناء الأسرة، ولعل في اختصار ذلك على النحو الآتي ما يوضح المقصود:

المرحلة الأولى: الاختيار:

حين اختار علي فاطمة لتكون زوجةً له، كان يبحث عن الزوجة "العاقلة" إذ أن "خير الجواري من كان لها عقل" (الإمام الكاظم (ع)- الطبرسي- مكارم الأخلاق، ص 307)، وعن ذات الدين، "عليك بذات الدين" (النبي الأعظم (ص)- الريشهري- ميزان الحكمة- ج1- ص694)، وعن ذات الخلق الحسن التي "إن أحسنتُ شكرتْ وإن أسأتُ غفرتْ وإن غضبتُ أرضتني... الهيّنة الليّنة المؤاتية، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، وإذا غاب زوجها حفظته في غيبته، فتلك عاملٌ من عمال الله وعامل الله لا يخيب" (أمير المؤمنين (ع)- الحر العاملي- وسائل الشيعة- ج 20- ص 35)، العفيفة فإن "خير نسائكم العفيفة" (النبي الأعظم (ص)، المدبّرة التي تضع الأمور في مواضعها بلا تقتيرٍ ولا إسراف، المهتمة بشكلها وفعلها وطيب أثرها، إذ أن "خير نسائكم الطيبة الريح، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف" (أمير المؤمنين (ع)- وسائل الشيعة- ص30)، التي تعينه على أمر آخرته ودنياه بوقوفها إلى جانبه في السراء والضراء، "تعين زوجها على دهره لدنياه وآخرته ولا تعين الدهر عليه" ( الإمام الصادق (ع)- الواسطي- عيون الحكم والمواعظ- ص 182).

كل هذه الأمور توفّرت في الزهراء طبعًا، بل إنها كانت في قمة الكمال في كلٍّ منها، بالإضافة إلى الكمال الخَلقيّ طبعًا، ولذا فقد أقدم الإمام على طلب يد الزهراء من أبيها بحياءٍ يُستحسن من مثله، وهو راهب الليل ليث النهار، فما كان من النبي إلا أن استقبله أحسن استقبال، ثم دخل على فاطمة ليسألها رأيها، فسكتت عن الجواب حياءً أيضًا، وقد كانت قبل ذلك إذا ذكر لها الزواج أعرضت، ففهم النبي أن "سكوتها إقرارها"، فحصلت الموافقة على الخطبة.

هنا يأتي موضوع اختيار الزوج، ففاطمة (ع) لم تطلب ذا مالٍ وجاه، ولم ترض بالزواج من وجهاء المسلمين ممن كانواليمهروها بالذهب والفضة، ويلبسوها الحرير والديباج، فتعيش في ترف وغنى يليق بمن هي في مثل سنّها وصفاتها الاستثنائية خَلْقًا وخُلُقًا، ووضعها كابنة أعظم البشر، لكنها اختارت عليًّا الذي يفوقهم جميعًا، لا في عرض الحياة الدنيا، بل في مقوّمات الآخرة... لقد وضعت فاطمة بخيارها ذاك أسس اختيار الزوج الصالح لكل فتاة، وأخبرت جنس النساء بالدليل العملي، وهي سيدتهن جميعًا، أن السعيدة في زواجها هي من تختار رجلًا تأمنه على دنياها وآخرتها، يشاركها في صنع القرار لعائلتها المستقبلية، ويربّي معها الذرية الصالحة التي تكون لها ذخرًا وذكرًا وحسن ثناء...

المرحلة الثانية: المهر والجهاز:

لا يخفى على كلّ مطّلعٍ على أخبار زواج النورين أن مهر الزهراء عليها السلام كان عبارة عن ثمن درع عليّ (ع) الحطميّة، أي أربعمئة درهم، وقد أنفق منها على زهدها كل مصاريف الجهاز والعرس...

لقد أنبأنا ذاك المهر الزهيد العظيم بأمور:

-        أولها أن عليًّا قدّم للزهراء أغلى وأثمن ما يملك، فالدرع كانت هي سلاحه الدفاعيّ في مواجهة الأعداء، ولم يكن يملك غيرها، وبالتالي فهو لم يبخل على عروسه بشيء، وقدّم لها كلّ ما لديه.

-        وثانيها أن النبيّ رضي لابنته بمهرٍ زهيدٍ لأنه لم يكن ينظر إلى المهر نظرةً مادية، فالمهر ليس إلا هدية، وقد علم أن عليًّا لا يملك غيرها، ولذا فقد قدّرها بأحسن قدرها، ناهيك عن أن النبي كان يريد صرف المسلمين عن غلاء المهور والتعلّق بالقشور الفارغة، وحديثه المشهور "شؤم المرأة غلاء مهرها" كان له تطبيقٌ عمليٌّ ملموس، هو تزويجه لبضعته الطاهرة من وصيّه العزيز، على مهرٍ بسيطٍ ينبئ الكون أجمع، أن الفتاة لا تزداد قيمةً بارتفاع مهرها، بل بانخفاضه، وذاك سلوك استثنائيٌّ قلب به النبي موازين المجتمع، وقدّم لهم القدوة المثلى على تأسيس الأسرة السليمة، فبدأ بأحبّ الناس إلى قلبه... ابنته وبضعته.

-        وثالثها ما عناه المهر لفاطمة، فذاك حديثٌ آخر، فقد برهنت أن الأثاث الفاخر والأثواب المزركشة التي تُتحف بها العروس عادةً، هي سقط متاعٍ عندها، لا قيمة لها على الإطلاق، فهي قد ارتضت شظف العيش مع رجلٍ رضيه قلبها وعقلها وروحها، وعلمت أنه من سيضمن لها سعادة الدارين، فلم تر بأسًا في التنازل عن لذائذ الحياة الدنيا... بل لعل الزهراء لم تكن لترى تلك القشور لذائذ، فهي كانت تنظر بعين الله، ولذا فهي لم تكن ترى إلا رضاه والدار الآخرة، وتلك الذرية الطاهرة التي أنتجتها تلك الأسرة الشامخة، الحسنان إمامان قاما أو قعدا، وهما والدا أئمة الهدى، والزينبان (زينب الكبرى وأم كلثوم)... من لم تُعرف بعد الزهراء نساء في مثل فضلهما...

وحريٌّ بمن بدأ مثل تلك البداية، أن يغشى ذاك النعيم المقيم، فلا يخوض في وحول الدنيا ونتنها، ولا يواجه مشاكلها ومهاويها في نفسه أو ذريته...

وحريٌّ بمن أحسن الاقتداء أن يحصل على الاكتفاء، وأن يضمن حسن الختام لنفسه ولذريته... وأن يكون ممن ذكرهم الله في محكم كتابه ناصحًا بني البشر: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة...﴾ (سورة التحريم، الآية 6)



العودة إلى الأعلى